(شَرْبِلْ) الذي انتصر على (شَرْبِلْ)

08:21 مساءً الأحد 17 يوليو 2022
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

للكاتب اللبناني مصطفى جحا، من كتابه (رسالتي إلى المسيحيين)

( إهداء إلى القديس شَرْبِل بمناسبة عيد مار شربل )

“إنَّ حَياةَ القدِّيسين في جميعِ عُصُورِ التَّاريخِ المسيحيِّ كانَتْ دائمًا مظهرًا بَيِّنًّا من (حَجَرِ عَثْرَة) يسُوع: إنهم علامةٌ للمخالفة. حياتُهم تدين العالم: فهي تقتدي بحياة السَّيِّدِ المسيحِ الذي يطيبُ له أن تسطَعَ أشعةُ قدرتِهِ في الضّعفِ البشريِّ. إنَّ ضميرَهُم المستنير بنور إيمانٍ فعّالٍ، ينشرُ على القريبِ والبعيدِ تعليمَ الإنجيل الأصيل المعاشِ في حُبِّ الطَّاعةِ والفقرِ والحرّيةِ الباطنيَّة وفي الهرَبِ إلى القِمَم لملاقاة أبي الأنوار في صلاة صامتةٍ، ثم الانحدار إلى مُعْتَرَكِ الحياة لكي يشهدوا للأوحدِ”.

الكردينال بولس بطرس المعوشي

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق

من رقيم له في 17/5/1966

خرجه الأب بولس ضاهر في كتابه

“(شَرْبِلْ) إنسان سكران بالله” الطَّبْعَة الثَّانية 1978 ص5


لوحة القديس شربل بريشة الرسامة اللبنانية: غريد مصطفى جحا

لو بقيَتْ (عِنَّايَا)[1] بلا دَيْر[2] ولا مَحْبَسَة لما خرَجَتْ من قضاء جبيل إلى قضاء كل لبنانَ، فقضاء العالم.

ولو لم يأتِ يوسُف أنطونْ مخلوفْ (شَرْبِلْ)[3] إلى دَيْر (عِنَّايَا) والمَحْبَسَة[4] لبقيَ الدَّيْرُ والمَحْبَسَةُ ينتظرانِ حتى يومِنا هذا وإلى ما بعد مَنْ يحوّلُهما إلى مَزَارٍ.

(عِنَّايَا) (شَرْبِلْ) لم تعدْ قريةً لبنانيَّةً يحدُّها قضاءٌ معيّنٌ؛ فهي معروفةٌ اليومَ لدى كثيرين من النَّاسِ من الشَّرْق والغَرْبِ، وسوفَ تُعرَفُ أكثرَ بعد سَفَرِها الثَّاني إلى روما.

سافرَتْ (عِنَّايَا) إلى روما، أولَ مرةٍ سنة 1965 يومة أُعلن تطويبُ راهبِها صاحبِ العجائبِ الأب (شَرْبِلْ) مخلوفْ[5].

ستغزو (عِنَّايَا)- القريةُ- العالمَ المسيحيَّ بأكملِهِ؛ لأنَّ (شَرْبِلْ) خدمَ المسيحَ في ديرِها ومحبستِها برًّا وسلامًا وفرَحًا وصبرًا.

وإن كان التَّاريخُ قد حكَى عن معاركِ (واترلو) و(جبال الأورالْ) و(العَلَمين) و(سيناء) وغيرها من المعارك التي انتصرَتْ فيها جيوشٌ، أو انكسرَتْ واندحرَ قادةٌ جبابرةٌ أو بلغوا ذروةَ المجدِ؛ فعلى التَّاريخ أن يذكرَ- باعتزازٍ وشَرَفٍ- مَعْرَكَةَ (عِنَّايَا) التي دامَتْ زهاء سبعةٍ وأربعينَ عامًا. ولكنَّها- بكل تأكيد- ليسَتْ مثل سائرِ المعاركِ القديمةِ منها والحديثةِ.

في كل مَعْرَكَة يتقابلُ جيشانِ أو أكثر، فيبدأ الصِّرَاعُ وشدُّ الحبالِ وإرهاقُ الأنفسِ العظيمةِ. ومن الميادينِ مايحفظُ- حتى اليوم- آثارَ حوافرِ الخيولِ وأقدامِ الفِيَلَةِ وبُقَعِ الدَّمِ الذي أُريق. ومنها أيضًا ما يزالَ يئنُّ تحتَ جنازير الدَّباباتِ وعرباتِ الموتِ؛ إذ يشهدُ الآلافُ لتلك الطَّائِراتِ الحربيَّةِ التي كانت تغطَّي الأجواءَ بما فعلتْهُ قذائفُها في المواقعِ العسكريَّةِ والمنازل الحدوديةِ والمدنِ الآمنةِ، إذ جعلَتْها خرابًا ما بعده خراب.

بَيْدَ أن مَعْرَكَة (عِنَّايَا) هي من نوْعٍ آخر. إنها حربٌ لا خيولَ فيها ولا سيوف، ولا دبابات ولا عساكر، ولا نِبال ولا قذائف، ولا صواريخ عابرة الحدود، ولا بوارج مرابِطة على الشَّواطِئ، تغطّي فريقًا وتضربُ آخر؛ بل هي حربُ الإنسانِ على ذاتِهِ، بَطَلاها القلبُ والعَقْلُ.

مَعْرَكَةٌ بلا غبار

في مَعْرَكَةِ (عِنَّايَا)، بقيَ (شَرْبِلْ)، خادمُ المسيحِ، سبعةً وأربعينَ عامًا يصارعُ (شَرْبِلْ) اللَّحمَ والعَظْمَ.

(شَرْبِلْ) الأولُ “مجدُه يبدأُ في القَبْر”، و(شَرْبِلْ) الثَّاني “مجدُهُ ينتهي في القَبْرِ”؛ وشَتَّانَ ما بين مجدٍ ومجدٍ، وبين (شَرْبِلْ) و(شَرْبِلْ).

سلاحُ الأولِ حُبُّ الله، إذْ نسَي ذاته “ليفْتَكِرَ” في الله ويتجرّدَ مِن كل ما فيه ليقْتَني الله. وسلاحُ الثَّاني قلبٌ وجسدٌ يذكّرانِهِ بأمِّه وعشيرتِهِ وقريتِهِ وأرضِهِ وثيابِهِ وحبيبتِهِ، وكِلا السِّلاحينِ حادٌّ وقاطعٌ.

مَعْرَكَةٌ بلا غبارٍ، بدأَتْ في دَيْرٍ وانتهَتْ في مَحْبَسَةٍ.

لماذا المَدَاِفُع ودَوِيُّها؟

لماذا القَصْفُ بالطَّيَرَان؟

لماذا الرَّجْمُ بالقذائفِ العُنقوديَّةِ وغير العُنقوديَّةِ؟

إنَّه لَصِراعٌ بين (شَرْبِلْ) و(شَرْبِلْ).

هل تدخَّلَ أحدٌ؟

هل جاءَ المَحْبَسَةَ “مشروعُ مُصالحةٍ” من هذا الفريقِ أو ذاكَ؟

لقد حاربَ (شَرْبِلْ) من أجلِ أن يستحقَّ المسيحَ.

الهدفُ واضحٌ إذًا.

ولكن كيفَ يستحقُّ (شَرْبِلْ) المسيحَ؟

قلبُ أمِّهِ كان أولَ المنهزمينَ، إذ تركَها ومشى.

وكما أمُّهُ، كما حبيبتُهُ ماري.

ما حاجةُ (شَرْبِلْ) إلى ماري، وهو لم يشعرْ مرةً واحدةً بأنه يميل إليها مثلما يميلُ الحبيبُ إلى حبيبتِهِ؟!

ظلَّ (شَرْبِلْ) يتابعُ انتصاراتِهِ واحدًا إثرَ واحدٍ، فتغلَّبَ على إرادتِهِ وتفوَّقَ على أترابِه في القريةِ، ثم تحررَ من أهوائِهِ ورغباتِهِ، فأتى الدَّيْرَ خاشِعًا طائعًا، والدُّنيا في نظرِه لا تساوي ساعةَ صلاةٍ أو لحظةَ سجودٍ وتأمُّلٍ، وأقصى غاياتِهِ قهرُ جسدِه بالانفرادِ للتعبُّدِ والتَّنَسُّكِ.

ففي مكانٍ لا جليسَ فيه ولا أنيسَ، كانت الحربُ بين (شَرْبِلْ) و(شَرْبِلْ)، تشتدُّ وتعنفُ يومًا بعد يومٍ، وقد أبى هذا الرَّاهِبُ أن يُهادِنَ أو يسالِمَ؛ بل واصلَ جهادَهُ في اللَّيلِ كما في النَّهارِ، متَّخذًا هدفًا له المسيح فحسب.

كانت (عِنَّايَا) آنذاك تنامُ باكرًا، فيطفئ أهلُها المصابيحَ ليتسلَّل كلٌّ إلى فراشِهِ بعد التَّعَبِ والعملِ الشَّاقِّ، ما عدا واحدًا من أولئك كان لا ينامُ أبدًا، عنيْتُ به الحبيسَ (شَرْبِلْ) القابعَ وحده، في محبستِهِ، بل الصَّامتَ المتعبّدَ والمحاربَ الشُّجاعَ، أو قُلِ المتمرّد على الدُّنيا ومظاهرِها، السَّاخر من المادة، الكافر باللّذة، والملتصِق بيسوع.

وحده (شَرْبِلْ) كان يبقى السَّهرانَ الغائِبَ. “نوَّاصته” تحترقُ لتضيءَ صفحةً من كتابٍ أو زاويةٍ من زوايا المَحْبَسَة، بينما يحترقُ هو كي يلتصقَ بالمسيحِ.

فالحربُ بينَهُ وبين “النَّواصة” سِجَال: في الشِّتاءِ، يتحداهُ الزَّمْهَريرُ والثَّلجُ واللَّيلُ الموحشُ والنُّعاسُ. وفي الصَّيفِ، تهاجمُه العقاربُ والأفاعي؛ فيتصدى لهذه وتلك، وللصَّيفِ والشِّتاءِ، بقلبٍ ملؤُهُ الإيمانُ والحبُّ؛ ولا عجبَ في ذلك ما دام (شَرْبِلْ) قد نذَرَ نفسَه للمسيحِ وصمَّمَ على أن يكونَ هو الذَّبيحةَ والمَحْرَقةَ معًا.

(شَرْبِلْ) لا يعيِّدُ ولا يزورُ أحدًا، ولا هو يدخلُ البيوتَ. مهمَّتُه أن يسمعَ بصفاءٍ ومحبةٍ شكاوى المعذَّبينَ والمضطهَدينَ والفقراءَ والمرضى والمتعَبينَ والبائسينَ ويصلّي لهم، ويطلب من “أبيه السَّماويّ” للمريضِ الشِّفاء، وللبائس السَّعادة، وللفقير النّعمة، وللمضطهَد الأمن، وللشَّريد الاستقرار، وللمُتعَب الرَّاحةَ والهناءة.

على أن (شَرْبِلْ) كان يرفضُ الحسنةَ والهديَّةَ من جهة؛ إذ لا حاجةَ إليهما. ومن جهة أخرى، كان يوجّهُ المحسِنينَ إلى اليتامى والأراملِ والعجزِة وسواهم من الفقراءِ والمعوزينَ، ليدفعوا إليهم بحسناتِهم وصدقاتِهم وهداياهم.

قال (الأب سمعان الأهمجي) يصف الرَّاهِب (شَرْبِلْ) مخلوفْ:

“إن الرَّئيسَ (رئيسَ الدَّيْر) كان يرسلُ، من وقتٍ إلى آخرَ، الأب (شَرْبِلْ) إلى القُرى المجاورةِ، إما لتشييعِ ميِّتٍ أو لإسعافِ مريضٍ؛ فكان يذهبُ في مهمتِهِ متجهًا توًّا إلى الكنيسةِ. وكان الأهلونَ يسرعونَ إليه من كل صَوْبٍ تبركًّا بلمْسِ ثوبه أو قبلةِ يدِهِ، ملتمسينَ منه الصَّلاة على ماءٍ يحملونَهُ في أباريقَ لكي يباركوا به المنازلَ والماشي وينالوا الشِّفاء”[6].

وكتب (الخوري ميخائيل أبي رميا) يقول:

“كان الأب (شَرْبِلْ) يُفرح قلبَ مَنْ يعترف عندَه بنصائحِهِ وإرشاداته. وأنا قد اعترفْتُ عنده مرارًا عديدة. وإني أشتهي الآنَ- من صميمِ الفؤادِ- أن أحظى بكاهنٍ مثله لأعترفَ عندَهُ طيلةَ حياتي!

كان يقرأُ في قلب التَّائبِ، وكانت ذاكرتُهُ ترى كلَّ ماضيه.

كان يعطي كلَّ داءٍ دواءَهُ. وعلى الرّغمِ من قسوةِ الكفَّاراتِ التي كان يفرضُها، كان المؤمنون يسعدونَ بالرُّجوع إليه”[7].

وليس غريبًا أن يلقى الرَّاهِبُ (شَرْبِلْ) مخلوفْ عند إخوانِهِ الرّهبان المحبةَ والتَّقدير، وعند رؤسائه الثِّقة والإعجاب.

وكما يروي (الأب سمعان الأهمجي) المذكور آنفًا إذ يقول:

“إنه فيما كان يمرض أحدُ الرّهبانِ مرضًا ثقيلًا، كان يطلبُ إلى الرَّئيس بإلحاحٍ زائدٍ أن يرسل إليه الأب (شَرْبِلْ) ليمنحَهُ الأسرارَ الإلهيةَ؛ فكان يأتي ويمكث إلى جانبِ المريضِ اللَّيْلَ كلَّه جالسًا على الكرسيِّ، ولا يفارقه إذا تمكنَ من ذلك، إلا ليصلّي فرضَهُ في الكنيسةِ”[8].

هذه الكلماتُ- إن دلَّتْ على شيءٍ- فعلى غنى في النَّفسِ والرُّوحِ عند الرَّاهِب (شَرْبِلْ) الذي كان قاسيًا على نفسِهِ والنَّاسِ والكَهَنةِ من أجل مسيحيَّةٍ أصيلةٍ.

الكثيرون ممن عرفوا (شَرْبِلْ) مخلوفْ مضوا ولم يبقَ منهم شيءٌ يُذكَرُ، فيما بقي حيًّا في ضمائر النَّاسِ، يهزُّها كلَّما استرخَتْ أو نامَتْ عن حقٍّ سليبٍ وشرَفٍ طعينٍ ومالٍ غير شرعيٍّ ومجدٍ زائفٍ.

المَعْرَكَةُ الكُبرى

سبعةٌ وأربعونَ عامًا وأكثر عمرُ الحربِ التي خاضَها (شَرْبِلْ) مخلوفْ بصمتٍ وإيمان وحبٍّ وانسجامٍ مع نفسِهِ حتى صَهَرَتْهُ القداسةُ.

ولمّا شاءَتِ السّنون أن تحسمَ هذه المَعْرَكَةَ المهمةَ الخطيرةَ، خُتِمَتْ حياةُ المجاهِدِ الأكبرِ والحبيسِ العنيفِ بمَوْتِ جسدِهِ ليحيا بمجدِ المسيحِ وحبِّهِ ما دامَ المسيح والمسيحيّون.

اعتقدَ بعضُهم (…) أن (شَرْبِلْ) مخلوفْ قهرَتْه الأيامُ وطوَتْهُ اللَّيالي إلى الأبدِ. وهؤلاءِ ظنوا أنَّ “النَّوَّاصة” قد غلبَتْهُ فأحرقَتْهُ، بينما الحقيقةُ هي أن صراعَ (شَرْبِلْ) على الأرضِ قد انتهى ليدخلَ في صراعٍ جديدٍ مع الوجدانِ البشريِّ والذَّاكرةِ المستقبليَّة، فصارَتْ (عِنَّايَا) رجاءَ المسيحيّين وأملَ الضُّعفاءِ منهم والمقهورينَ والمظلومينَ، إذ صارَ (شَرْبِلْ) واحداً من وسطاءِ الخيرِ، أصحابِ الكراماتِ، بين المسيحيّ والسَّماء.

تسامعَ به مرضى ومعاقون وبائسون من أميركا وأوروبا وأفريقيا والهند والصِّين ومن كل مكان، فأتوا يحملونَ همومَهُم وآلامَهُم؛ فتوسَّلوا إليه، وسألوهُ، وصلُّوا له، وبكوا أمامَهُ طويلًا وسهروا على قدميْهِ، ووعدوه بالتَّقْوى والإخلاص؛ فأظهرَ لهم مكانَتَه وكرامتَهُ “عند ربِّه يسوع” “محبة الله”، فمنْهم مَنْ ترك عصاهُ ومشى، ومنهم مَنْ تركَ حذاءَهُ غير المتجانِسِ في هدأة اللَّيْلِ أو مع بزوغِ الفجرِ وانطلقَ فرحانًا، وآخرون أنْسَتْهُمُ “العجائبُ” ما كان يجبُ أن يفعلوا، فبعثوا مِن بلادِهِم برسائلِ الشُّكران: فمَنْ كان مُصابًا برأسِهِ، أرسلَ رأسًا من البرونز أو خلافِهِ، والذي كان يشكو داءً عُضَالًا في معدتِهِ أو رئتيه أو قلبِهِ، بعثَ إمَّا معدة أو رئتين أو قلبًا من الحديدِ أو النُّحاسِ. كذلك الذين فقدوا أطرافَهم أو بعضَها، هؤلاء أرسلوا الأيدي والأرجلَ البلاستيكيَّة وغيرها، فامتلأَتْ صالةُ القدِّيس (شَرْبِلْ) في (دَيْرِ مار مارون) بقرابينِ الامْتنانِ ورسائلِ التَّقْدِيرِ، ممن قصدوهُ فاسْتجابَ لهم محقِّقًا مطالبَهُم وظنونَهُم الحسنةَ.

محفوظاتُ الدَّيْر

في دَيْرِ (عِنَّايَا)، أو قُلْ: (دَيْر مار مارون)، غرفة محدّدَةٌ فيها: عكازات و”رؤوس” و”صدور” و”أمعاء” و”أكباد” و”قلوب” و”أطراف”. وفيها أيضًا أحذيةٌ لأقدامٍ غير متجانِسَةٍ أو مشوهة، ورسائلُ، وصُوَرٌ، كلُّها تشهدُ لذلك الذي وُلد في قريةٍ صغيرةٍ تُدعى (بقعكفرا) في أعالي بْشِرِّي من أبوينِ فقيرَيْنِ ومجتمعِ فقيرٍ، وعاشَ حياتَهُ مقهورَ الجسدِ والقلبِ.

محفوظاتُ الدَّيْر هذه وثيابُه التي ما زالَتْ ملطخةً بدمِهِ، والقطعةُ الباقيةٌ من السّنديانة[9] التي كان يصلِّي تحتَها وغيرها، تعترفُ للمحارِبِ العظيمِ بأنَّه ما كان إلا مثلَ حبَّةِ الخَرْدَلِ التي زُرِعَتْ في الأرضِ، فصارَتْ أكبرَ جميع البقولِ، تكاد أغصانُها الكبيرةُ تلامسُ السَّماء.

هكذا بدأَ الرَّاهِبُ (شَرْبِلْ) مخلوفْ معركتَهُ في (عِنَّايَا)، وهكذا انتهَتْ.

كان “سفيرَ اللهِ” و”وزيرَهُ”؛ فعاشَ ملاكًا وقدَّمَ عجائبَ، وماتَ ملاكًا.

هذا المسيحيُّ المناضِلُ صوتُهُ- اليومَ- يجلجلُ:

“زاغوا عن الطَّريقِ ويسوع قالَ: أَنا الطَّريقُ.

زاغوا عن الحقيقةِ، ويسوع قالَ: أنا الحَقُّ.

زاغوا عن الحياةِ، فوجدوا الموتَ”.

(شَرْبِلْ) مخلوفْ لم يأتِ بفلسفةٍ أو فكرةٍ أو قصيدةٍ أو بيانٍ، ولا هو فسَّرَ الكلامَ أو تَأَوَّلَهُ، ولا دعا إلى الاجْتِهَاِدِ؛ وإنما قَهَرَ جسدَهُ في حَرْبٍ لا مثيلَ لها.

لقد فاقَ عطاءُ (شَرْبِلْ) مخلوفْ كلَّ هذه العَطِيَّاتِ.

وبفضلِهِ غدَتْ (عِنَّايَا) مَزَارًا وأرضًا مقدَّسَةً.

ما أحْوَجَنَا، اليومَ، إلى (شَرْبِلْ) جديد.

ويا لَيْتَ كُلَّ قريةٍ لُبنانيَّةٍ تُؤتَى النِّعْمَةَ مِثْلَما (عِنَّايَا)!

تشرين الأول 1979


[1]  ـ (عِنَّايَا): قريةٌ في لبنانَ- قضاء جبيل. جاءَ في كتابِ (الأب بولس ضاهر): “كانت المَحْبَسَةُ وما حولها مُلكًا لعائلةٍ شيعيَّةٍ هي عائلةُ مشايخ (آل ملحم) من قريةِ (طورزيا)، ومنهم ابتاعَها الشَّابَّانِ: يوسف (ْأبي رميا) وداود (خليفة) بما وفَّراه مِنْ كدِّ أيديهما. أما الباقي، فقد اشتراهُ الرّهبانُ في ما بعد عام 1814م. وأتت السّنون، وبعد أن أصبحَتْ (عِنَّايَا) مُلْكًا للشِّيعَةِ، عادَتْ للموارنةِ، مسترجِعَةً اسمَها الجليلَ القديمَ، حالًّا محلَّها اسمُها الجديد (نبي الرَّاس). والجدير ذكرُهُ أن الأسماءَ التي تحملُها هذه الرَّابيةُ وما يجاورُها هي أسماء مأخوذة عن الأراضي المقدسةِ! فقمَّةُ (عِنَّايَا) بالذَّاتِ تحملُ اسْمَ (جبل التَّجلِّي)، واسْمُ (طورزيا)، إلى الجنوبِ، منقول عن (طورزيت)، (جبل الزَّيْتون)، وإلى الشَّرق يبدو (آرونا اليابوسي) (المعبد الوحيد، في لبنان، المشيد لإكرام أبوي أمنا العذراء المجيدة). ثم إن (عِنَّايَا)، اسْم الهضبة التي بنيَ عليها (دير مار مارون) ومَحْبَسَتَهُ، قد يكون مأخوذًا من كلمة (بيت عنيا). وأخيرًا، إلى الشّمال، تبدو (صخرة قيافا)، وإلى الغربِ معبدٌ قديمٌ على اسْم (يواكيم وحنه). وابتاعَ الأرض التي بني عليها الدَّيْر من شيعي حجولا بمبلغ 4500 قرش عام 1820، الطَّيِّب الذِّكر (الأب اغناطيوس بليبل)، رئيس الرّهبانية العام”. [(شَرْبِلْ) إنسان سكران بالله، (ص77، 78)].

[2]  ـ هو (دير مار مارون)، وقد وضعَ الحجرَ الأولَ في السَّاحة سنة 1828 رئيسه: (الأب لويس خليفة).

[3]  ـ ولد يوسف انطون مخلوف- الأب (شَرْبِلْ)- في (بقَعْكَفْرا) سنة 1828.

[4] – سنة 1851، غادرَ أهلَه وقريتَه سرًّا إلى (دير سيدة ميفوق)، ثم إلى (دير مار مارون عِنَّايَا)، حيث اندمج في سلك الرَّهبانية اللُّبنانية المارونية، متَّخذًا اسْمَ (شَرْبِلْ) أحد شهداء الكنيسة الأنطاكية في القرن الثَّاني. وأبرز في أول تشرين الأول 1853 نذورَهُ الاحتفالية في دير مار مارون عناية، ثم التحقَ بمدرسة الرَّهبانية فى (دير مار قبريانوس كفيفان)، حيث أكمل دروسه اللَّاهوتية. سيمَ كاهنًا في بكركي في 23 تموز 1859. عاش في (دير مار مارون عِنَّايَا) مدةَ ستَّ عشرَ سنةً كان خلالها مثالَ الرَّاهب القديسِ، وانتقل إلى (مَحْبَسَةِ مار بطرس وبولس) المجاورة للدَّيْر سنة 1857، وما كان يخرج منها إلا بأمرِ الطَّاعةِ المقدسةِ لرؤسائه، وفيها نهج الآباء القديسين صلاة وحياة وممارسات. [انظر: “لبنان وطن سكران بـ(شَرْبِلْ)”، جمعَهُ ونسَّقَهُ وقدّم له (الأب بولس ضاهر)، طبعة أولى 1978 (ص14)].

[5] – سنة 1954، وقّعَ (البابا بيوس الثَّاني عشر) قرارَ قبولِ دعوى تطويبِ (شَرْبِلْ) مخلوفْ، وحثَّ (البابا يوحنا الثَّالث والعشرون) على الإسراع بدرس ملف الدَّعوى. وسنة 1965، وقَّعَ (البابا بولس السَّادس) قرار إعلان بطولة فضائل الأب (شَرْبِلْ). وتمت حفلة التَّطْويب في 5 كانون الأول سنة 1965، إبَّان اختتام المجمع الفاتيكاني الثَّاني. وكان لبنانُ ممثَّلًا رسميًّا وشعبيًّا تمثيلًا يشمل جميع اللُّبنانيين. وسنة 1976، وقَّعَ (البابا بولس السَّادس) قرار إعلان قداسة الطُّوباوي (شَرْبِلْ) في احتفالٍ عالميٍّ أُقيم في 9 تشرين الأول سنة 1977.

[6]  ـ خرجه الأب بولس ضاهر في “(شَرْبِلْ) إنسان سكران بالله” المصدر المذكور سابقًا (ص106).

[7]   ـ نفسه.

[8]  ـ نفسه.

[9]  ـ قطع هذه السّنديانة رواد الدَّيْر ليأخذوا منها البركاتِ والذَّخائرَ، فلم يبقَ منها سوى تلك القطعة التي يحتفظ بها الدَّيْرُ مع أدوات القدِّيس.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات