احتفاء تشكيلي بالقاهرة عاصمة ثقافية لدول العالم الإسلامي

04:30 مساءً الخميس 27 أكتوبر 2022
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مشاركة في الاحتفال باختيار اختيار منظمة “الأيسيسكو” القاهرة عاصمة ثقافية لدول العالم الإسلامي، الذي تم قبل عامين، وتأجل بسبب “جائحة كورونا”، رأت قاعة “بيكاسو” للفنون، دعوة مجموعة من كبار الفنانين التشكيليين، ممن استلهموا في إبداعاتهم، عالم المدينة التاريخية العريقة، وفضاءاتها المعمارية الثرية.

المعرض افتتحه هذا الأسبوع فضيلة عالم الأزهر ومستشار رئيس الجمهورية للشئون الدينية الشيخ أسامة الأزهري، وحضره فنانون يمثلون رافدا مهما في الحركة التشكيلية المصرية المعاصرة، وهم: إبراهيم غزالة، أحمد سليم، أشرف رضا، أماني زهران، جمال مليكة، فريد فاضل، محمد الناصر، وياسين حراز.

يحكي “كتالوج” المعرض عن صحبة المشاركين، في قلب قاهرة المعز، وقد تحلقوا في مقهى الفيشاوي حول الشاي بالنعناع، تمتزج الأفكار بكائنات براد الشاي المغلي وهي تدور في الهواء، قبل أن تبدأ جولتهم في شوارع المكان بما يضم من جوامع، ويزخر به من أسواق، ويحفظ من أسبلة، حتى استقر بالتشكيليين المقام حول غداء مصري تقليدي بفندق في قلب المنطقة.

يقوم الإبداع الأدبي والفني على جدلية الحوار، سواء كان ذلك الحوار أداءً على خشبة المسرح، أو مشهدًا على شاشة السينما، أو مقطعا في مسرد روائي، وهو كذلك إذا كنا ننظر في إطار لوحة تشكيلية؛ حوار بين النور والظل، وجدل بين المتجانس والمتناقض، ونقاش بين الظاهر والخفي. لنتخيل مسرحًا بلا حوار، أو مشهدا بلا حراك، أو لوحة بلا ضوء، هذا هو الموات بعينه، أو هو كلمة النهاية كما تختم حياة تأججت حتى خمدت.

هكذا يجب أن ننظر إلى الحوار الذي أقامه الفنانون التشكيليون الذين اجتمعوا ليحتفوا بالقاهرة، فإذا كانت المدينة تحتفل آجلا باختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية، قبل عامين، فإن احتفال الفنانين مختلف؛ إنه خاص بصمود ذلك الأثر المعماري، سواء كان ذلك مسجدا، أو زاوية، أو مدرسة، أو سبيلا، أو ضريحا، أو بيتا. إنهم يقدمون شاهدًا وشهادة على أثر الأثر، ومن هنا تبرز أهمية المرشّحات التي رأى فيها كل فنان “قاهرته “، هذا هو ما يمنح اللوحة بصمة الفنان وروحه معًا، تلك القراءة العصرية باللون والريشة، ذلك الحوار الذي عاش عمرًا في قلبه وعقله وذكرياته وجاء الوقت لتكون اللوحة صدى لهذا الحوار.

والعمارة الإسلامية فئة منشآت عمرها قرون تأصلت لتشمل الأشكال النحتية المذهلة والتفاصيل الزخرفية المبهرة التي تميز المباني الإسلامية، وهي تمثل بعضًا من أكثر الهياكل المبنية روعة على وجه الأرض. وتشمل العمارة الإسلامية مجموعة واسعة من الأساليب الحياتية والدينية منذ تأسيس الإسلام حتى يومنا هذا، مما يؤثر على تصميم وتشييد المباني والهياكل في الثقافة الإسلامية وما بعدها. وتأتي الأنواع المعمارية الإسلامية الرئيسية في منشآت: المسجد، والضريح، والقصر، والحصن، والمدرسة، والمباني الحضرية. وبالنسبة لجميع هذه الأنواع من الإنشاءات، طورت العمارة الإسلامية مفردات غنية تم استخدامها أيضًا للمباني الأقل أهمية مثل الحمامات العامة والنوافير والعمارة المنزلية.

أعمال الفنان أشرف رضا

من الواضح أن التشكيليين في المعرض – أغلبهم – احتفظوا في لوحاتهم بالخصائص الرئيسية للعمارة الإسلامية، فنرى المآذن (المنارات) تلك الأبراج الشاهقة لكننا نرى خارجها، بكواتها أو نوافذها الصغيرة، ولا نرى الداخل بسلالمها أو درجاتها الداخلية الصاعدة كأنها دعوة باتجاه السماء. ونرى القباب الموضوعة على هياكل من مقرنصات، سنراها من الخارج أيضا، لكننا لن ننظر إليها من القلب، ولن نرى الفسيفساء في سقفها الباطن، ولا قبو المقرنصات المتقنة تحتها؛ تلك التي تشبه قرص العسل، أو تهبط من علٍ كما تفعل الهوابط الجليدية في كهف ثلجي. ربما نرى أثر ذلك في الأعمال الزخرفية الهندسية الحية لأعمال الفنان أشرف رضا الزخرفية التي برع في استحضار موتيفات الموزاييك وأيقوناته في لوحاته المشاركة. إنها معا وكأنها قطع نحتت من جداريات برع في نسجها خيال الفنان المسلم كأنه يتعبد على جدران المسجد، لتأتي لوحات الفنان المعاصر استلها وتوثيقا في آن واحد، خاصة وأن الدرجات اللونية الشافة تمنح المتلقي بعدا ثالثا في إحساسه بالتكوينات الهندسية المؤطرة والملونة. يعطي أشرف رضا المتحف المفتوح للعمارة والآثار الإسلامية دوره كملهم؛ بخريطته المزدحمة بالمساجد والأضرحة، والزوايا، والأسبلة، والمنازل، والمدارس، والكتاتيب، وجميعها ثروة فنية حقيقية لمعمار فني أصيل.

حوار العمارة داخل الأثر الإسلامي فات على المجموعة التي قدمت رؤيتها الخاصة، فالقيشاني الملون، والأسقف أحادية اللون وتلك الداخلية المكسوة بالبلاط تبدو معقدة ، والأقواس سواء كانت حدوة الحصان أو المدببة، التي قادت إلى العمارة القوطية)، والصدفية (متعددة الألواح)، والأقواس متعددة المنحنيات التي شاعت في العمارة الإسلامية، وتفاصيل بفسيفساء وزخارف وأنماط هندسية أو نباتية، ولا ننسى أيضًا استخدام نصوص الخط العربي، مثل آيات من القرآن الكريم، وأسماء الله الحسنى، كل هذا فات على المعرض، لحسن الحظ حضرت المشربية، ذلك العمل الشبكي الخشبي، الذي يستخدم على النوافذ للخصوصية والتحكم في درجة الحرارة، كانت تلك وظيفته الدينية والحياتية، ليصبح اليوم جزءا من سياق حديث كعنصر أو خيار زخرفي بحت لتقسيم المساحات الداخلية. لذلك سعدت بلوحة الفنان فريد فاضل للمشربية، تطل منها شخصية نسوية، تشيع السكينة، خاصة مع حضور طيور الحمام، وكأن تلك القاهرية ترسل السلام، وهو حوار الفنان، ووجهة نظره، وقاهرته التي يراها أو يتمناها.

سيتحدث التشكيليون عن أعمالهم المشاركة؛ الفنان ياسين حراز يشير إلى قباب المساجد والأضرحة الأثرية في القاهرة، وكيف سترعي الانتباه بجمالها وقوامها متعدد الأحجام، والألوان، والأشكال، والزخارف الهندسية التي حاورها الزمن طويلا. وكيف ينهض ذلك كله وسط ما يحاصره من مبان حديثة متراصة وكتل أسمنتية مرتفعة تخلو من الذوق والجمال، لذلك سيركز حراز على ذلك الجانب المتناقض بين الجماليات في العمارة الإسلامية، واللاجمالي في العشوائيات.

أقام الفنان ياسين حراز حوارا صاخبا، وبضدها تتميز الأشياء، فها هو يضع أمامنا الأضداد، لنكون ببصرنا وبصيرتنا حكاما، وكأنه يسأل: هل ترضون أن يتم خنق هذا الجمال المعماري، وحصاره بكل أساليب القبح في الإنشاء؟ انظروا كيف صدت العمائر بجدرانها غير الملونة، ومصداتها الأسمنتية الأفق ، وكأنها تمنع الدعاء من الوصول للسماء. إن نمطي العمارتين قاما في مصر، وأقامهما مصريون، لكن ذلك الأول كان في زمن يسمح بمتنفس، بخلاء، بفضاء، بصينية تتوسطها بئر وبحيرة، بسور من شجر يحرس البشر ولا يحرم النظر للجمال. أية مقارنة بين عمارة الأمس، وعمارة اليوم، في اللوحات المختارة تستحضر الألم.

الفنان محمد الناصر يستعيد ذكرياته، منذ كان طالبا في كلية الفنون الجميلة، وهو يتجول في القاهرة القديمة، مكتشفا عقيدة الفنان المسلم في إبداعاته التي تربط بين الكل والمضمون، متخذا من التسيط والاختزال  منهجا لا تخطئه العين، وينتهجه فنانون معاصرون كثر. لوحة من الذاكرة للسبيل، وأمامه أطياف مارة وكأنهم خرجو من مشوار الفنان قديما قبل ثلاثة عقود.

أزقة القاهرة وحاراتها، وبعض معالمها القديمة، بالنسبة لقاريء الرواية وكاتبها، تستدعي عمدة هذه الأماكن في السرد، لذلك أحبب قاهرة الفنانة أماني زهران التي تمثلت فيها رحلتها برفقة والدها وهما يمارسان ثقافة المشي التي تغسل الهموم والأحزان مكتشفة وموقنة بالعلاقة الوثيقة بين العمارة والإنسان، تغمر الحواس تحت أشعة الشمس،  ووسط روائح البخور واللبان والأطعمة، وكأنها تريد تصوير بنت المعز تتهادى في أحد الأزقة، مرتدية زي شخصية ابنة البلد “الملاية اللف”، وكأنها إحدى نساء نجيب محفوظ وكأني في زقاق المدق أشاهد حميدة.

يرى الفنان إبراهيم غزالة في القاهرة ذلك التاريخ الحي، وقد نجح بتصوير هذه الحياة في لوحات أدى فيها التكوين دور البطولة، وأقام حواره بين الإنسان، بحضور نسوي وذكوري معا، والعمارة، التي جعلها بمثابة صندوق يفتح ضلعه الرابع للمتلقي، وكأني به يدعونا للاستلقاء في ذلك النعيم المعماري العازل عن ضجيج الدنيا خارجه، والمرتاح بعيدا عن ضوضاء العمارة السفلية خارج تلك القاهرة التي صورها. إنها تشبه المحمية المعمارية التي صورها الفنان أحمد سليم، ولكنه نزع منها البشر، هل يقول لنا إن القاهرة عمارتها القديمة بها إنسانية تكتفي بذاتها، بنعومة أرضياتها البازلتية، وبشرة عمارتها الخمرية، وأبوابها المغلقة على أسرارها، أم أنها لحظة القيلولة التي هرب من شمسها البشر؟

أخيرا أتوقف عن لوحة الفنان جمال مليكة، لشارع في القاهرة، تاهت فيه الحدود بين الأرض والسماء، بين المارة والعمارة، وكأنه يقول لنا أن تلك الصورة المضببة هي واقعنا، وأن ذلك هو ما بقي من القاهرة؛ حوار تتنازع فيه الأماكن والكائنات بحثا عن الحضور.

القاهرة في احتفالها باختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية حضرت في مخيلة الفنانين التشكيليين المعاصرين في مصر كفضاء معماري، فقد الكثير من خصوصيته، وأصبح مهددا في الذوبان في محيطه العنيف. وإذا كانت العمارة الإسلامية تمثل القوة والتطور الذي وصل إليه المجتمع المسلم ،  سواء في المسجد أو القصر أو في المنزل العادي، ذلك أن البنّاء المسلم والمهندس والفنان بشكل نقل الانحيازالعميق للإسلام تجاه مجتمع الأسرة، وحمايته. ويدين العالم بالكثير من تطوره المعماري للمهندسين المعماريين المسلمين الأوائل، إذ بنت أوروبا – على وجه الخصوص-  نهضتها المعمارية على التقدم الذي أحرزه المعماريون المسلمون، مثلما أشار مؤرخون أرجعوا نشأة العمارة القوطية  الأوروبية  مستلهمة من النماذج الإسلامية.

بجانب المتعة البصرية، للوحات، بخاماتها، وحواراتها اللونية والفلسفية، ربما تستدعي أيضا النظر والتأمل في حال عمارتنا اليوم، مثلما تستوجب إنقاذ عمارة الأمس.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات