محمد قجة يكتب من حلب: الزلزال…المأساة …الكارثة

11:55 صباحًا الأربعاء 15 فبراير 2023
محمد قجة

محمد قجة

‎‎‎‎مؤرخ من سورية، ‎‎رئيس تحرير‎ ‎مجلة العاديات،‎‎‎ و‎‎عضو مجلس الخبراء‎ بمؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة‎‎‎

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
صورة للمؤرخ محمد قجة (مصدر الصورة: رحى المدن القديمة)

أسبوع وأنا أحاول الكتابة، ولكن القلم كان يسقط من يدي ولا يطاوعني، ما الذي جنته بلادنا لكي تعيش هذا الهول الممتد على أكثر من عشر سنوات ؟؟ !!! وجاء الزلزال الرهيب لكي يعمّق المأساة، ويرسم وقتاً عصيباً يستعصي على كل تصور واستيعاب.

ألم تكن سنوات الدمار والحرب كافية بما خلّفته من المآسي على كافة المستويات الإنسانية والسياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والتعليمية؟!!!

ها هي حلب تتصدر النتائج المرعبة للزلزال، ومعها حماة العريقة مدينة أبي الفداء، واللاذقية عروس البحر الأبيض المتوسط، وجبلة درة التاريخ الوضاء وادلب الخضراء. وكلها سورية العظيمة الحبيبة.

وهنا أود أن أشير الى موضوع فائق الأهمية، وهو أن منطقة الزلازل بين جنوب تركيا وشمال سورية إنما هي امتداد تاريخي وجغرافي لبلاد الشام التي تشكل جبال طوروس حدودها الطبيعية، والمدن في تركيا التي ضربها الزلزال المدمر كانت عبر تاريخها جزءاً من ولاية حلب في العهد العثماني، ونيابة السلطنة في العهد المملوكي ، أو إمارة حلب في العصر الزنكي، والعصر المرداسي ، ومملكة حلب الايوبية ، وقبلها الدولة الحمدانية الممتدة عميقا في الشمال، (سيف الدولة مدفون في مدينة ميافارقين قرب ديار بكر التي كانت جزءا من دولته).

وبالتالي فإن الفالق الزلزالي لا يعترف بالحدود السياسية التي رسمتها اتفاقية “سايكس – بيكو” قبل أكثر من مائة عام.

وعلى قاعدة “أهل مكة أدرى بشعابها” فسوف أركز على مدينتي الحبيبة الغالية “حلب”

  1. حلب المحروسة التي لم تعد محروسة بل أصبحت تعيسة.. منكوبة منهوبة، مجروحة مظلومة، حلب الشهباء التي تخلت عن لونها الأشهب الى اللون الأسود والرمادي…حلب فجر التاريخ عبر آلاف السنين، وهي تستقبل الحضارات المتباينة فتستوعبها في ردائها السمح المرن، وتصوغ منها قلادة تحترم الآخر في كل مراحل حياتها.

2.  لم يكن زلزال يوم الاثنين 6 شباط” فبراير” الذي بلغت شدته 7,8 على مقياس ريختر حدثاَ طارئاَ في تاريخ حلب.. فلقد سجّلت القرون الخمسة عشر الأخيرة أكثر من عشرين زلزالاً منذ القرن السادس الميلادي، تتفاوت في شدتها وتدميرها. ولكنني أتوقف عند أخطر زلزالين شهدها مدينة حلب:

–  الأول عام 1138 م، في العهد الزنكي، وشمل هذا الزلزال مناطق واسعة شمال حلب وغربها، منها مدينة أنطاكية العظيمة التي كانت حينها تحت الحكم الأوربي الصليبي، وكذلك مدينة حارم، والأتارب وغيرها مما يحيط بها.

وتشير الدراسات المعاصرة الى أن هذا الزلزال يعتبر من الأكثر تدميراً عبر التاريخ البشري، وقد زادت شدته عن 8 درجات ، وتقدر الخسائر البشرية في حلب وأنطاكية والمدن الأخرى بأكثر من 200.000 قتيل. وهو رقم خطير في إطار تعدد السكان في تلك المرحلة من القرن الثاني عشر للميلاد، بغض النظر عن دقة هذا العدد ومصداقيته.

وقد أعاد” عماد الدين الزنكي” إعمار مدينة حلب التي كانت عاصمة امارته الزنكية باعتراف من الخليفة العباسي ،وأكمل الاعمار ابنه نور الدين الزنكي الذي وسّع الجامع الأموي باتجاه الشرق، وبدأ الاستعداد لحرب الفرنجة الصليبيين وطردهم من بلادنا .

–  الزلزال الثاني المدمر كان عام 1822، وقد ورد ذكره في كتابات تلك المرحلة، وفي مذكرات القناصل الأجانب الذين كانوا في حلب وقتها. وبلغت شدته أكثر من 7 درجات.

– وتقدر الخسائر البشرية في مدينة حلب بين 50,000 و 60.000، وهذا رقم فظيع يشكل نسبة عالية من سكان المدينة. وقد أخذ حي ” التلل” اسمه من أنه بني على تلال أنقاض الزلزال.

3. ولم تكتف الزلازل بتدمير مدينة حلب، فقد تعرضت للغزو مرات كثيرة، وتم تدميرها في كثير من المراحل، وأبرز حالات التدمير:

– 2525 ق.م ريموش الأكادي

– 1620 ق.م مارتوشيلي9 الحثي

– 853 ق.م سلمنصر الآشوري

– 540 ق.م قورش الفارسي الاخميني

– 64 ق.م بومبيوس الروماني

– 540 م كسرى انوشروان الساساني (دمّر انطاكية أيضاً)

– 962 م نقفور فوكاس البيزنطي ( أيام سيف الدولة )

– 1260 م هولاكو المغولي

– 1400 م تيمورلنك المغلوب

– يضاف اليها الطاعون القاتل عام 1349 م الذي شمل أكثر دول العالم.

وكانت حلب تنهض دائماً من تحت الأنقاض، وتعاود مسيرة الحياة والحيوية والحضارة.

نحن الآن أمام واقع فرض نفسه من خلال هذا الزلزال الغاشم المدمّر، فما الذي يمكننا أن نلاحظه من كافة الوجوه الإيجابية والسلبية، المحلية والعربية والدولية.

4.  تداولت وسائل التواصل معلومات حول العالم الهولندي الذي تنبأ بالزلزال بدقة، وحول المناورات العسكرية الأمريكية اليونانية القبرصية التي حددت لها عنوان: كيفية مواجهة زلزال سوف تشهده تركيا قبل أيام من الزلزال.

وكذلك الرأي القائل بأن السدود الضخمة في تركيا على الفرات ودجلة كان لها أثرها في حدوث الزلزال.

ونظرية المليار الذهبي والتخلص من بقية البشر ،

ولن نتوقف عند هذه الأقوال التي لها بعدها السياسي والاقتصادي، وهي تحتاج الى توثيق علمي واضح متفق عليه.

5. لابد أن نفخر بالجانب الإيجابي الكبير الذي تجلى في موقف الشعب العربي السوري في كافة مدنه ومناطقه، بهذا التعاطف والتعاون وروح المحبة والوطنية الغامرة التي نحَت جانباً كل الخلافات، وكل متاعب سنوات الحرب الظالمة الت فُرضت على البلاد، وأتت على الأخضر واليابس فيها.

هذه القوافل البشرية من الشابات والشبان الذين انبروا يجمعون المعونات والتبرعات من أطعمة وملابس وبطانيات وأدوية ونقود، ويوزعونها بدقة وامانة على مراكز الإيواء الممتدة على كل المدينة في المساجد والكنائس والملاعب والجمعيات والفنادق والمشافي، وأبناء المدينة الذين فتحوا بيوتهم لاستقبال الذين فقدوا منازلهم وأصبحوا بحاجة لأي مأوى في هذا الجو البارد القارس.

إنها ظاهرة تؤكد أننا أبناء حضارة إنسانية عريقة، وأبناء ثقافة ناضجة، ووطنية مخلصة، ومن ناحية أخرى أكد التعاون العربي أن سورية هي قلب العروبة النابض عبر تاريخها، – منذ أن كانت دمشق عاصمة الدولة الأموية العربية التي امتدت على ثلاث قارات ، من المحيط الهندي شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا –

وقد برز هذا التآلف السوري رغم التقصير الدولي وعجز منظمة الأمم المتحدة.

6.  ولكن ذلك لا يلغي الإشارة الى سلبيات يتم تداولها، على الرغم من أننا يجب أن نركز على الإيجابيات.

ومن تلك السلبيات ما يتم تداوله حول سرقات، وسوء تصرف في المعونات، في إطار حالة من الفساد المتفشي ، وهناك من انبرى يكذّب ذلك وينفيه، وهناك من يؤكد ذلك.

وهنا أريد أن أقول: ان المجتمع ليس مركباً من الملائكة الطيبين فقط، وليس مجموعة من الأشرار في الوقت نفسه.

وهذه الأعمال السلبية تتم في أي مجتمع، ولكن الفرق الواضح هو أن النسبة تختلف صعوداً وهبوطاّ، كما تختلف ضوابط المحاسبة والمساءلة قانونياً وأخلاقياً.

ولذلك فإن فترات الحروب والزلازل تظهر فيها مجموعات تجار الأزمات، وحيتان الأطماع التي لا حدود لها، فتظهر بذلك سرقات مكشوفة وموصوفة وأحياناً يتم التغاضي عنها ، ومن أمثلة هذا الفساد وجود السوق السوداء بشكل علني سافر ، وبخاصة في المواد الهامة كالغاز والمازوت والبنزين وكثير من السلع والمواد الغذائية، إذ يلاحظ فقدان بعض المواد اواحتكارها ، وتستطيع اقتناءهامن السوق السوداء بما يعادل عشرة أمثال سعرها الرسمي، وبلا حسيب ولا رقيب .

7.  إن الهاجس الملحّ حالياً أكبر من حكاية تقديم الأطعمة والألبسة ولكنه هاجس تأمين المأوى لآلاف العائلات التي أصاب الزلزال بيوتها. أو تم إخلاؤها من سكانها بسبب تصدعات وتشققات في الأبنية.

وهنا تثار تساؤلات لا بد منها:

– تعرضت المباني الأثرية التاريخية الى ضرر كبير خلال فترة الحرب الظالمة، وتمت تسوية الأسواق القديمة بالأرض، وتأثرت المساجد وخاصة الجامع الأموي، وجاء الزلزال يكمل مهمة الدمار، حتى قلعة حلب جزئياً.

وقد تضعضعت المباني في الأحياء الشعبية خلال سنوات الازمة مما أثر على قوة مقاومتها للزلزال.

ويثور هنا سؤال حول العشوائيات والمباني غير المستوفية لشروط السلامة، ومن المسؤول عن ذلك: المقاولون المنفذون، أم من سمح لهم بالبناء مع تجاوز الشروط الفنية والعلمية.

ولهذا نرى أنه بعد انحسار الزلزال بدأت عملية فحص المباني هندسياً- وهذا جهد مشكور – وبناء على هذا الكشف الفني يتم تحديد هل يحتاج المبنى الى ترميم، أم يجب هدمه انتظاراً للإعادة الإعمار. ولا بد من محاسبة المقصرين والمتورطين إذا ثبت دورهم السلبي.

وهذا ما يجعلنا نعاود التساؤل: أين يذهب هؤلاء الذين تهدمت بيوتهم، أو يتم إخلاؤها بسبب أخطار عمرانية، ومن المعلوم أن مراكز الإيواء الحالية لا يمكن أن تكون دائمة، ولابد من التخطيط لإعادة الإعمار وهذا يتطلب:

– القرار الإداري المدروس وفق منهجية علميةعلى ارفع المستويات والاستشارات .

– التمويل الواسع، وهذا يحتاج الى جهد دولي واسع من خلال مساعدات أو قروض ميسرة .

– توافر العنصر البشري من مهندسين ومهندسين وعمال .

– السرعة القصوى في التنفيذ.

8. يجب أن نعترف بأن المشكلة أكبر من الإمكانات المحلية الرسمية والمجتمعية والفردية على كافة المستويات، ويجب أن تتضافر الجهود في تأمين التمويل اللازم على مستوى محلي وعربي ودولي، بشكل رسمي حكومي، وبشكل شعبي يعتمد على الأفراد والجمعيات والمغتربين، وتنظيم ذلك بشكل يدعو للتفاؤل والامانة والثقة.

وهناك دول لها تجارب في هذه المجالات، وفي سرعة إنجاز الإعمار. فليس من المعقول أن يبقى الذين تركوا بيوتهم عدة أعوام يبحثون عن مأوى.

9- مرة ثانية أودّ أن أشير الى المظهر الإيجابي الحضاري الذي تجلّى في هذه الأزمة من خلال استنهاض الهمم والتعاون الوثيق رغم مصاعب الحياة اليومية.

التحية والشكر والتقدير لكل من بذل جهداً على المستوى الشعبي والرسمي والوظيفي.

إنها بلادنا، إنه وطننا، ولن نسمح بالوصول الى مرحلة الانهيار الاجتماعي والأخلاقي.

سيغادرنا الرماد، ونعود بقوة إلى الحياة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات