بقلم : الدكتورة منى رسلان، أستاذة النقد الأدبي المعاصر والمنهجية في كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللبنانية
يحلُّ عَلَيْنَا شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَك ، وَلُبْنَان والأمُّة العربيَّة تتراحم بِالْبَرَكَة والتآزر وَالتَّعَاوُن ، رَغِم الْأَوْضَاع
الإقتصاديَّة غَيْر الْمَسْبُوقَة الَّتي يختبرها وطننا الْحَبِيب لبنان ، والَّتي تُرخي بثقلها عَلَى جَمِيعِ فئات المُجتمع ، وَتُطَال القطاعات الإنْتَاجِيَّة اقتصاديًّا ومعرفيّاً وثقافيّاً وتربويّاً وأكاديميَّاً ، وطبيّاً ، وغذائيّاً ، وفنيّاً وثقافيّاً وحِرفيَّاً ، وتكنولوجيّاً ؛
كلُّ هَذَا مَعَ تَعَاظَم الْمآسِي عَلَى الْمُسْتَوَى العالميّ مِن حروبٍ وَتَهْجِيرٌ وعُنف وتطرُّف ، نَاهِيك عَن تَغْيِيب
عُنْصُرٌ “التراحم” بَيْن النَّاس .
مِنْ هُنَا تجدر الْإِضَاءَة فِي هَذَا الشَّهْرِ الْفُضَيْل ، عَلَى دِينِ التراحم وَالتّعَاطُف والإنسانيَّة ، كَوْنِ الإِسْلاَمِ ديناً يُراعي أَحْوَالِ النَّاسِ وحوائجهم فِي الدَّنيا وَالْآخِرَة ، وَيَدْعُو إلَى التَّعَاوُنِ وَالتّعَاطُف والتلاحم بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعات كافَّة ، لِمَا يُحقِّق خَيْرَهَا وَيَظْهَر وُجُودِهَا الْفَاعِل.
ويُطالع المتمعِّن فِي النصِّ الْقُرْآنِيّ وبألفاظهِ وكلماتهِ وَمَعَانِيه ، تركيزه عَلَى إظْهَارِ الخُلق مِن
مَنْظُورٌ مُتجدِّد
دوماً ، مُضيئاً عَلَى قِيَمِ الْأَخْلَاق وَالتَّسَامُح بِوَجْه عَام، وَقِيَم الرَّحْمَة وَالرَّأْفَة وَالتَّوَاصُل بَيْنَ الأفْرَادِ عَلَى وَجْهِ
الْخُصُوصِ ، وَمَا تُشكِّلهُ بِاجْتِمَاعِهَا مِن قيمٍ إنسانيَّةٍ ودينيَّةٍ جَامِعَةٍ، سَيَكُون لَهَا بَالِغ الْأَثَرِ فِي بِنَاءِ أَجْيَالِ
الْأُمَّة العربيَّةِ والإسلاميَّة ، فِي عَصْرٍ تجتاحه مَوَاقِع التَّوَاصُل الاجْتِمَاعِيّ ، وَتِلْك الْمَوَاقِع بمُنظماتها الًتي
تَقُوم بتشتيت ذِهْن الْإِنْسَان وتغريبه عَنْ ذَاتِهِ وكينونته وَعَن مُحِيطَةِ، هَذَا مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قِيَامِهَا
بتعريةِ المُجتمعاتِ المعولمةِ وَتِلْك الريفيَّة أيضاً ، مِنْ إيجَادِ أَي فاعليَّة مُجدية فِي صَيْرُورَةِ حَيَاتِهَا المستقبليَّة ، وافساحاً فِي الْمَجَالِ أَمَامَهَا للتفكّر بفاعليَّتها الوجوديَّة والحضاريَّة والثقافيَّة والدينيَّة والتاريخيَّة والإنسانيَّة ، إلَى فاعليَّتها فِي الِاقْتِصَادِ أَوْ التَّنْمِيَة أَو التحفيز أَو الِابْتِكَار والتطوُّرٍ والانتاجيَّة ، أَو حتَّى فِي مَجَالِ مَحْو الأُميَّة . . .
لَا بَلْ هِيَ تَسْعَى جاهدةً _ وَمَن خِلَال تشييء الْمُجْتَمَعات كَي تُصبح جَمَاعَةٌ “هجينة” دُون ذَاكِرَة جماعيَّة ،
وَدُون قَوَانِين تسترشد بِهَا أَثَرَ الصَّالِحِين.
هَهُنَا ، يستدلُّ البَاحِث أنَّ لَفْظُة “الرحمة” قَدْ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَكْثَرَ مِنْ 268 مَرَّةً وَفِي غَيْرِ مَوْقِع ، وَهِي تتبوَّأ ، فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ، محوريَّةً مُتقدِّمة نابعةً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الحُسنى وَصِفَاتِه عزَّ وَجَلّ شَأْنُه .
وَالرَّحْمَةُ بِمَفاهيم الْقُرْآنِ ، الْمَطَر والغيث ، النِّعْمَة والرِّزق ، الِابْتِهَال وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ ، النَّصْر وَالْعَافِيَة وَالْخَيْر ، الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ ، الْمَوَدَّة وَالْعَطْف ، وتنحو لِتَشْمَل الْعِصْمَةَ مِنْ اقْتِرَافِ السَّيِّئَات ، فِي صِفَاتِهِ الذَّاتيَّةِ والمعنويَّةِ وَفِي سُلُوكِه مَفَاعِيل الْوُدّ وَالْعَطْف ، فَيَكُون رحيمًا عطوفًا مَعَ مَنْ حَوْلَهُ .
بِيَد أنَّ الرَّحْمَة الَّتي هِيَ أَسَاسُ كُلّ تَعَامُلٍ إِنْسانِيٍّ ، تحمِلُ فِي طيَّاتِهَا مَبدأي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ ،
وَسِوَاهَا الْكَثِيرِ مِنْ الصِّفَاتِ الأخلاقيَّةِ والإنسانيَّةِ والمُجتمعيَّةِ الَّتي تَرْتَقِي بسُلَّمِ أخلاقيَّاتِ المُجتمعِ .
مِنْ هُنَا ، يُعدُّ جَمَالُ الْإِنْسَان بِسموِّ ورِفعة أَخْلَاقِهِ .
وانطلاقاً مِمَّا تقدَّم ، يَسْتَرْشِدُ المُتمعِّنُ فِي النّصِّ الْقُرْآنِيّ مِن صِفات اللَّه الرَّحْمَة ،
“الرَّحمن الرحيم” ؛ ويُستدلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، الْآيَة 105 ، قَوْله تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾؛ ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ بِمَعْنَى أنَّه مَا يُحبُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا المُشركين أَنْ يَنْزِلَ عليكُم مِن خيرٍ مِن ربِّكم . وَعَلَيْه ، يَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْأَمْنِ بالمواثيق وَالْعُهُود ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْخَيْرِ يُنْتَفَعُ بِهِ الْكَافِرُ والمُسلم .
وبناءً عَلَيْه ، أَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وَوَصَف (عَزَّ شأنه) النبيّ ﷺ بأنَّه رَسُولٌ إلَى
الجنِّ وَالْإِنْس وَإِلَى الدُّنْيَا ؛ وخصَّه كَذَلِك بِصِفَة “الرحمة” . إذْ يرَدُّ فِي سُورَةِ سَبَأ ، الْآيَة 28 ، قَوْله تَعَالَى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾؛ كما في سورة الأعراف، الآية 158: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾.
ويُرشد اللَّهُ تَعَالَى رَسُول (ﷺ) إلَى التمتُّعِ بالحِكمةِ وَطِيب الْقَلْب وَاللِّسَانِ وَالرَّأْفَة والمحبَّة ، وَالْخَلْق الطَّيِّبِ فِي تَعَامُلِهِ مَع النَّاس ،
حتَّى لَا تَنْزِلُ الْكَلِمَات الْقَاسِيَة عَلَيْهِم وكأنَّها سِيَاطٌ ، فينفضُّون عَنْه . بِقَوْلِه في سورة آل عُمران، الآية 159: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾. وجاء في الحديث الصحيح أنَّ الرسول (صل الله عليه وسلم) قال: “إن الله حرم على النار كل هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من النَّاس”.
وَعَلَيْه ، تتعدَّد مضامين “الرحمة” الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ الْكَرِيمَةِ وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ فِي بَابِ الْعَطْفِ
وَالْحُنُوّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْيَتَامَى وَالْعَجَائِز وَالْمَرْضَى وَالضُّعَفَاء، وَالرَّحْمَة بِالصَّغِير وَالْأَرْمَلَة ، وَالْجَاهِل ،
وَالْأَسِير ، وَالْأَقَارِب ، ورَحِمَة الْأَبْنَاء بِالْوَالِدَيْن ؛ وَالرَّحْمَة بِالْحَيَوَان وَالطَّبِيعَة .
فِي قَوْلِهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الضّحَى ، الْآيَات 6-11: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.
﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ في سورة الإنسان، الآية 8.
فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) : “الساعي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَأَحْسَبُهُ قَالَ : كَالْقَائِم لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يفطر” . (صحيح الْبُخَارِيّ ، الْجُزْء الرَّابِع ، ص93) وقَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، الْآيَة 159: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾
وفي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، الَّذي أخرجه مُسلم في باب “فضل الرفق” _ حديث (2594 ) أن: رَكِبَتْ عائِشَةُ بَعِيرًا، فَكانَتْ فيه صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ، فقالَ لها رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عَلَيْكِ بالرِّفْقِ .
وهذا يردُ عن عَائِشَة (زوج الرسول ﷺ _ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها: أَنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ.
ويُبيِّن الرَّسُولَ الْكَرِيمَ (ﷺ) أنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إلاّ زَانَه ، بِمَعْنَى زيّنه وَجَعَلَه جميلاً . والمُراد بِالْمَعْنَى هُنَا ، يكمُن فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ والرِفق بِالْإِنْسَان، وبالحيوان.
لِذَا تُعتبرُ الأخلاق جزءاً وثيقاً مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْإِيمَانُ ، الْأَمْر الَّذي يُعدُّ فِي صُلْبِ الْأَخْلَاق الإسلاميَّة وَفِي صَمِيم جَوَاهِرَهَا لنَّفِيسَة .
كلُّ عَام وَلُبْنَان والأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة تتراحم فِي مَا بَيْنَهَا ، فِي رَمَضَانَ الْخَيْر وَالْبَرَكَات.
الدكتورة مُنى رسلان
أُسْتَاذةُ النَّقْد الأَدَبِيّ والمنهجيَّة فِي كليَّة الآدابِ والعُلومِ
الإنسانيَّة –الجامعة اللبنانيَّة
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.