“الرحمة” فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، رسالةٌ ربَّانيَّةٌ للإنسانيَّة

11:39 صباحًا الخميس 23 مارس 2023
د. منى رسلان

د. منى رسلان

أُسْتَاذةُ النَّقْد الأَدَبِيّ المعاصر والمنهجيَّة فِي كليَّة الآدابِ والعُلومِ الإنسانيَّة في الجامعة اللبنانيَّة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بقلم : الدكتورة منى رسلان، أستاذة النقد الأدبي المعاصر والمنهجية في كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللبنانية

يحلُّ عَلَيْنَا شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَك ، وَلُبْنَان والأمُّة العربيَّة تتراحم بِالْبَرَكَة والتآزر وَالتَّعَاوُن ، رَغِم الْأَوْضَاع
الإقتصاديَّة غَيْر الْمَسْبُوقَة الَّتي يختبرها وطننا الْحَبِيب لبنان ، والَّتي تُرخي بثقلها عَلَى جَمِيعِ فئات المُجتمع ، وَتُطَال القطاعات الإنْتَاجِيَّة اقتصاديًّا ومعرفيّاً وثقافيّاً وتربويّاً وأكاديميَّاً ، وطبيّاً ، وغذائيّاً ، وفنيّاً وثقافيّاً وحِرفيَّاً ، وتكنولوجيّاً ؛
كلُّ هَذَا مَعَ تَعَاظَم الْمآسِي عَلَى الْمُسْتَوَى العالميّ مِن حروبٍ وَتَهْجِيرٌ وعُنف وتطرُّف ، نَاهِيك عَن تَغْيِيب
عُنْصُرٌ “التراحم” بَيْن النَّاس .

مِنْ هُنَا تجدر الْإِضَاءَة فِي هَذَا الشَّهْرِ الْفُضَيْل ، عَلَى دِينِ التراحم وَالتّعَاطُف والإنسانيَّة ، كَوْنِ الإِسْلاَمِ ديناً يُراعي أَحْوَالِ النَّاسِ وحوائجهم فِي الدَّنيا وَالْآخِرَة ، وَيَدْعُو إلَى التَّعَاوُنِ وَالتّعَاطُف والتلاحم بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعات كافَّة ، لِمَا يُحقِّق خَيْرَهَا وَيَظْهَر وُجُودِهَا الْفَاعِل.
ويُطالع المتمعِّن فِي النصِّ الْقُرْآنِيّ وبألفاظهِ وكلماتهِ وَمَعَانِيه ، تركيزه عَلَى إظْهَارِ الخُلق مِن
مَنْظُورٌ مُتجدِّد
دوماً ، مُضيئاً عَلَى قِيَمِ الْأَخْلَاق وَالتَّسَامُح بِوَجْه عَام، وَقِيَم الرَّحْمَة وَالرَّأْفَة وَالتَّوَاصُل بَيْنَ الأفْرَادِ عَلَى وَجْهِ
الْخُصُوصِ ، وَمَا تُشكِّلهُ بِاجْتِمَاعِهَا مِن قيمٍ إنسانيَّةٍ ودينيَّةٍ جَامِعَةٍ، سَيَكُون لَهَا بَالِغ الْأَثَرِ فِي بِنَاءِ أَجْيَالِ
الْأُمَّة العربيَّةِ والإسلاميَّة ، فِي عَصْرٍ تجتاحه مَوَاقِع التَّوَاصُل الاجْتِمَاعِيّ ، وَتِلْك الْمَوَاقِع بمُنظماتها الًتي
تَقُوم بتشتيت ذِهْن الْإِنْسَان وتغريبه عَنْ ذَاتِهِ وكينونته وَعَن مُحِيطَةِ، هَذَا مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قِيَامِهَا
بتعريةِ المُجتمعاتِ المعولمةِ وَتِلْك الريفيَّة أيضاً ، مِنْ إيجَادِ أَي فاعليَّة مُجدية فِي صَيْرُورَةِ حَيَاتِهَا المستقبليَّة ، وافساحاً فِي الْمَجَالِ أَمَامَهَا للتفكّر بفاعليَّتها الوجوديَّة والحضاريَّة والثقافيَّة والدينيَّة والتاريخيَّة والإنسانيَّة ، إلَى فاعليَّتها فِي الِاقْتِصَادِ أَوْ التَّنْمِيَة أَو التحفيز أَو الِابْتِكَار والتطوُّرٍ والانتاجيَّة ، أَو حتَّى فِي مَجَالِ مَحْو الأُميَّة . . .
لَا بَلْ هِيَ تَسْعَى جاهدةً _ وَمَن خِلَال تشييء الْمُجْتَمَعات كَي تُصبح جَمَاعَةٌ “هجينة” دُون ذَاكِرَة جماعيَّة ،
وَدُون قَوَانِين تسترشد بِهَا أَثَرَ الصَّالِحِين.

هَهُنَا ، يستدلُّ البَاحِث أنَّ لَفْظُة “الرحمة” قَدْ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَكْثَرَ مِنْ 268 مَرَّةً وَفِي غَيْرِ مَوْقِع ، وَهِي تتبوَّأ ، فِي كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ، محوريَّةً مُتقدِّمة نابعةً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الحُسنى وَصِفَاتِه عزَّ وَجَلّ شَأْنُه .

وَالرَّحْمَةُ بِمَفاهيم الْقُرْآنِ ، الْمَطَر والغيث ، النِّعْمَة والرِّزق ، الِابْتِهَال وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ ، النَّصْر وَالْعَافِيَة وَالْخَيْر ، الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ ، الْمَوَدَّة وَالْعَطْف ، وتنحو لِتَشْمَل الْعِصْمَةَ مِنْ اقْتِرَافِ السَّيِّئَات ، فِي صِفَاتِهِ الذَّاتيَّةِ والمعنويَّةِ وَفِي سُلُوكِه مَفَاعِيل الْوُدّ وَالْعَطْف ، فَيَكُون رحيمًا عطوفًا مَعَ مَنْ حَوْلَهُ .

بِيَد أنَّ الرَّحْمَة الَّتي هِيَ أَسَاسُ كُلّ تَعَامُلٍ إِنْسانِيٍّ ، تحمِلُ فِي طيَّاتِهَا مَبدأي الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ ،
وَسِوَاهَا الْكَثِيرِ مِنْ الصِّفَاتِ الأخلاقيَّةِ والإنسانيَّةِ والمُجتمعيَّةِ الَّتي تَرْتَقِي بسُلَّمِ أخلاقيَّاتِ المُجتمعِ .

مِنْ هُنَا ، يُعدُّ جَمَالُ الْإِنْسَان بِسموِّ ورِفعة أَخْلَاقِهِ .
وانطلاقاً مِمَّا تقدَّم ، يَسْتَرْشِدُ المُتمعِّنُ فِي النّصِّ الْقُرْآنِيّ مِن صِفات اللَّه الرَّحْمَة ،
“الرَّحمن الرحيم” ؛ ويُستدلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، الْآيَة 105 ، قَوْله تَعَالَى: ﴿ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ﴾؛ ﴿ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ بِمَعْنَى أنَّه مَا يُحبُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا المُشركين أَنْ يَنْزِلَ عليكُم مِن خيرٍ مِن ربِّكم . وَعَلَيْه ، يَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ الْأَمْنِ بالمواثيق وَالْعُهُود ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْخَيْرِ يُنْتَفَعُ بِهِ الْكَافِرُ والمُسلم .

وبناءً عَلَيْه ، أَرْسَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، وَوَصَف (عَزَّ شأنه) النبيّ ﷺ بأنَّه رَسُولٌ إلَى
الجنِّ وَالْإِنْس وَإِلَى الدُّنْيَا ؛ وخصَّه كَذَلِك بِصِفَة “الرحمة” . إذْ يرَدُّ فِي سُورَةِ سَبَأ ، الْآيَة 28 ، قَوْله تَعَالَى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾؛ كما في سورة الأعراف، الآية 158: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾.

ويُرشد اللَّهُ تَعَالَى رَسُول (ﷺ) إلَى التمتُّعِ بالحِكمةِ وَطِيب الْقَلْب وَاللِّسَانِ وَالرَّأْفَة والمحبَّة ، وَالْخَلْق الطَّيِّبِ فِي تَعَامُلِهِ مَع النَّاس ،
حتَّى لَا تَنْزِلُ الْكَلِمَات الْقَاسِيَة عَلَيْهِم وكأنَّها سِيَاطٌ ، فينفضُّون عَنْه . بِقَوْلِه في سورة آل عُمران، الآية 159: ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾. وجاء في الحديث الصحيح أنَّ الرسول (صل الله عليه وسلم) قال: “إن الله حرم على النار كل هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من النَّاس”.

وَعَلَيْه ، تتعدَّد مضامين “الرحمة” الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ الْكَرِيمَةِ وَفِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ فِي بَابِ الْعَطْفِ
وَالْحُنُوّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْيَتَامَى وَالْعَجَائِز وَالْمَرْضَى وَالضُّعَفَاء، وَالرَّحْمَة بِالصَّغِير وَالْأَرْمَلَة ، وَالْجَاهِل ،
وَالْأَسِير ، وَالْأَقَارِب ، ورَحِمَة الْأَبْنَاء بِالْوَالِدَيْن ؛ وَالرَّحْمَة بِالْحَيَوَان وَالطَّبِيعَة .

فِي قَوْلِهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الضّحَى ، الْآيَات 6-11: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾.
﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ في سورة الإنسان، الآية 8.

فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ﷺ) : “الساعي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَأَحْسَبُهُ قَالَ : كَالْقَائِم لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يفطر” . (صحيح الْبُخَارِيّ ، الْجُزْء الرَّابِع ، ص93) وقَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، الْآيَة 159: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾
وفي هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ، الَّذي أخرجه مُسلم في باب “فضل الرفق” _ حديث (2594 ) أن: رَكِبَتْ عائِشَةُ بَعِيرًا، فَكانَتْ فيه صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ، فقالَ لها رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ عَلَيْكِ بالرِّفْقِ .
وهذا يردُ عن عَائِشَة (زوج الرسول ﷺ _ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها: أَنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ: إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شيءٍ إلَّا شانَهُ.

ويُبيِّن الرَّسُولَ الْكَرِيمَ (ﷺ) أنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إلاّ زَانَه ، بِمَعْنَى زيّنه وَجَعَلَه جميلاً . والمُراد بِالْمَعْنَى هُنَا ، يكمُن فِي تَيْسِيرِ الْأُمُورِ والرِفق بِالْإِنْسَان، وبالحيوان.
لِذَا تُعتبرُ الأخلاق جزءاً وثيقاً مِنْ الِاعْتِقَادِ وَالْإِيمَانُ ، الْأَمْر الَّذي يُعدُّ فِي صُلْبِ الْأَخْلَاق الإسلاميَّة وَفِي صَمِيم جَوَاهِرَهَا لنَّفِيسَة .

كلُّ عَام وَلُبْنَان والأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة تتراحم فِي مَا بَيْنَهَا ، فِي رَمَضَانَ الْخَيْر وَالْبَرَكَات.

الدكتورة مُنى رسلان
أُسْتَاذةُ النَّقْد الأَدَبِيّ والمنهجيَّة فِي كليَّة الآدابِ والعُلومِ
الإنسانيَّة –الجامعة اللبنانيَّة

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات