هويدا صالح تؤصّل حضور التراث في الفضاء الروائي

09:02 صباحًا الأحد 26 مارس 2023
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

إن الإفادة من التراث وتوظيفه في الفضاء الروائي  ليس انتصارا للذات القومية وتأكيد على الهوية الثقافية فحسب، بل للبحث عن مشتركات ثقافية بين الماضي الغابر الذي يمثله هذا التراث والحاضر الآني الذي يعيشه المبدع في لحظات إبداعه الروائي، ومن ثم الوصول إلى مستقبل أكثر سواء لا يضع الإنسان العربي في صراع هوياتي يشتت انتباهه ويمنعه من أن يعيش راهنه، ومن ثم يعطله عن أن يتطلع لمستقبله.

هكذا ترى الأكاديمية والروائية المصرية هويدا صالح في كتابها الذي يصدر خلال أيام عن معهد الشارقة للتراث برئاسة  الدكتور عبد العزيز المسلم وإدارة الدكتور مني بونعامة.

وترى هويدا صالح أنه يجب دراسة التراث بأدوات معرفية معاصرة تفيد من المناهج الحداثية، وتتمكن قراءة التفاعلات النصية التي يحدثها هذا التراث في النص الروائي الماثل، كما تتمكن من قراءة التراث مع مراعاة الأنساق الثقافية التي أنتجته.

ومن ثم لا يجب أن نرى  التراث مضادا للحداثة، وأن الحداثة لا تقف حائلا بين الإفادة منه واسترفاده وتوظيفه دون أن نقع في غواية النص وتقديسه.

وتؤكد صالح أن الروائي العربي في ظل أفكار العولمة وما بعد الحداثة حاول أن يقيم روابط وأواصر بين الماضي والحاضر بأن يبحث  في فضائه الروائي عن عناصر التراث المختلفة؛ ليقيم بها جدلا فكريا ومعرفيا ودراميا  في نصه الماثل، ويسترفد  التاريخ الرسمي والاجتماعي والتراث الشعبي والديني والصوفي لتنهض تفاعلات نصية قادرة على تقديم معرفة بالذات القومية وصولا إلى سؤال الوجود الذي يمكن أن تقدمه الرواية.

والتفاعلات النصية التي  تنتهجها بعض الأعمال الروائية العربية  تضع المتلقي أمام تقاطعات دينامية بين خطابي التاريخ والمعرفة. فالرواية الحداثية والمعاصرة حايثت سؤال الوعي لدى الإنسانية، في تعالقها بالماضي والتراث، بالحاضر والواقع، بالمستقبل والأفق. لكن استصدار هذه التقاطعات يستلزم وعيا روائيا يتمثل جيدا خلفيات الارتكان إلى المعرفة بوصفها مادة  تتخلل الفضاء السردي مع المتخيل الروائي لتصل إلى الإجابة عن السؤال المعرفي والسؤال الجمالي في آن واحد.

والتراث يشمل: التاريخ الرسمي وما كتبته الجماعة الشعبية عن نفسها في فترة زمنية ما  وتاريخها الاجتماعي، والتراث الشعبي غير المادي الذي أنتجته هذه الجماعة من عادات وتقاليد وأمثال وحكايات وسرديات تميز هويتها الثقافية، كذلك التراث الديني والصوفي الذي يمثل جزءا هاما من وعي الجماعة الشعبية بذاتها.

وتبحث هويدا صالح في السرد الجديد وآليات الاشتغال التراثي فيه، حيث ترى أن السرد الجديد الذي ينهض على التجريب اتجه  إلى مفارقة  المعيارية الجمالية. فيرفض السرد الجديد وجود ماهية مسبقة وقارة لجنس الرواية . وصارت الرواية تطمح إلى  تذويب الحدود بين الأجناس الأدبية وغيرها وبين الخطابات المعرفية المختلفة؛ وهو ما وسع دائرة المرجعية التي هي منطلق التخييل، مما مكن الروائي من إعادة التوظيف الإبداعي للموروث السردي لعناصر التراث، سواء الصوفي، أو الديني،  أو التاريخي،أو الشعبي ؛ سعيا إلى الانتصار لما هو منسي ومقصي من الذاكرة الجمعية.

هذا يعني  أن النصوص التي تنهض على التجريب  تسعى إلى تجاوز  النماذج السائدة، من حيث الرؤيةُ، و القوالبُ الفنية، ومفارقة لما استقر في الذهن من جماليات الفن وطرائقه الكلاسية، ولا يقتصر هذا التجاوز وهذا المفارقة على مستوى اللغة وطرائق السرد، إنما يتعدى ذلك الفضاء الاستعاري الذي يمكن أن يسترفد عناصر التراث ويشتغل عليها.

ويتضمن الكتاب تمهيدا وخمسة محاور  تشمل عناصر التراث المختلفة، فيأتي التمهيد، يأتي التمهيد ليستجلي مفاهيم : التناص ومستوياته،  والنصوص الغائبة والتفاعلات النصية التي هي وسائل الروائي لاستلهام هذا التراث، كما تستجلي الباحثة في التمهيد ما بعد الحداثة  دور القارئ في البحث عن النصوص الغائبة.

أما الفصل  الأول فيدور حول التراث الصوفي  الذي يمثل أحد أهم عناصر التراث التي يذهب إليها الروائي؛ ليرفد متخيله السردي، لانشغاله بإثراء نصه بعناصر التراث القومي من ناحية ومن ناحية أخرى لأن التجربة الصوفية لها خصوصية فلسفية في الإجابة على أحد أهم أسئلة الوجود إلحاحا على الإنسان وهي علاقة الإنسان بالماوراء ومدى قدرته على فهم هذا العالم الغامض؛ لذا تمثل التجربة الصوفية حين ذاك فلسفة ورؤية للعالم لها خصوصية وخطاب مختلف ومغاير.

 وتكشف الباحثة التعالق النصي بين الرواية والتجربة الصوفية، حيث توجد  مساحة من الوعي بالطاقة الروحية الكامنة في تلك التجربة، وكأن الروائي يحاول من خلالها أن يقاوم القلق الوجودي الذي ينتاب إنسان هذا العصر، فيصبح النص الصوفي وسيلة مقاومة يتخذها الروائي ليفتح لذاته طاقات الضوء الكامنة ولتكون معبرا للخروج من الأزمات النفسية التي يمر بها إنسان هذا العصر؛لذا يلجأ الروائي إلى الاغتراف من الخطاب الصوفي، ويذهب إلى عالم الصوفية المتفرد والغامض، ويجعله محور متخيله السردي.

كما تكشف الباحثة عن آليات اشتغال الخطاب الصوفي على الطرائق السردية واللغة، كما تكشف عن اشتغال الزمن الصوفي في الفضاء الروائي ، وأثر الصوفية على تكوين الشخصية الروائية، وتقرأ آليات اشتغال التراث الصوفي في عدة روايات منها: “كتاب التجليات” لجمال الغيطاني، ورواية”كيميا” لوليد علاء الدين، ورواية” وجدتك في هذا الأرخبيل” لمحمد السرغيني، ورواية”الحجاب” لحسن نجمي، ورواية”جبل الطير” لعمار علي حسن، ورواية” مجنون الحكم” لبنسالم  حميش، ورواية “جنوب الروح” لمحمد الأشعري.

أما الفصل الثاني فتعالج فيه الباحثة موضوعة”التراث الديني” حيث ترى الباحثة أن التراث الديني جزء أصيل من تراث الأمم، فكل تعريفات التراث تصفه بأنه يعبر عن ثقافة الشعوب، الثقافة بمعناها الواسع التي تشمل التاريخ الرسمي والتاريخ الاجتماعي للأمة،والعادات والتقاليد، والهويات الاجتماعية والهويات الدينية والممارسات اليومية وطرق المأكل والمشرب والملبس؛ لذا حينما نتحدث عن التراث فإننا نقصد ضمنيا التراث الديني وما يتضمن من ثقافة دينية بمعتقداتها وطقوسها وشعائرها  ومناسكها وأيديولوجياتها الفكرية، فليس غريبا أن يكون التراث الديني تعبيرا صادقا عن أثر التوجيه العقائدي الأصيل والرئيسي لنهضة الفكرة الحضارية الإنسانية بصفة عامة، فضلا عن دوره الكبير المؤثر في قيام الحضارات الحديثة.

كما تكشف الباحثة عن المرجعيات الدينية  وتفاعلاتها النصية ، سواء كانت مرجعيات من الثقافة الإسلامية(القرآن ـ الحديث ـ السير الدينية ) أو مرجعيات العهد القديم والجديد(التوراة والإنجيل) أو مرجعيات الأديان القديمة للشعوب( الدين المصري القديم ـ الترانيم السومرية).

وتقرأ فيه الباحثة عددا من الرواية، تكشف فيها عن آليات اشتغال التراث الديني في الرواية، وهذه الروايات هي: “ظل الأفعى” ليوسف زيدان، و”كتاب التجليات” لجمال الغيطاني، و”مأساة واق الواق” لمحمد محمود الزبيري، و”جبل الطير” لعمار علي حسن.

أما الفصل الثالث، فتقوم الباحثة فيه بقراءة العلاقة بين الرواية والتاريخ، والفرق بين الخطاب الروائي والخطاب التاريخي، وترى أن الخطاب التاريخي خطاب يفترض فيه أن يكون خطابا نفعيا  له وظيفة مرجعية في نقل الأحداث وفق تتابعها بأمانة تامة،و لهذا يتوقع من المؤرخ أن يلتزم  الصدق في سرد الأحداث، فتأتي حقيقية و شفافة، في حين الخطاب الروائي ينبني على التخييل مع الإفادة من المرجعية الواقعية من  ناحية والمرجعية التاريخية من ناحية ثانية، أي أن الرواية لم تتخل نهائيا عن الوظيفة المرجعية عندما قدمت عليها الوظيفة الجمالية.

والتماهي بين النص التاريخي والنص الروائي  سمة جمالية تميز السرد الجديد، فالرواية الجديدة حين تقوم بتوظيف خطاب التاريخ إنما تجعله تكأة جمالية وفنية ليصبح بمثابة المعبر الذي تقدم من خلاله خطابها الروائي، فلا يكون التاريخ مقصودا لذاته، إنما هو تقنية فنية وله وظيفة جمالية.

وتطرح الباحثة سؤالا جوهريا عن لماذا يعود الروائي إلى التاريخ ليسترفده؟ وعن مزالق توظيف التاريخ في الرواية، وتلح على طرح جملة من الأسئلة تراها تكشف عن تلك المزالق، مثل: هل يحاسب الناقد الروائي على التخييل الذي يحكم النص الروائي؟ أم يطالبه بحقائق التاريخ الكبرى دونما تغيير أو تزييف؟ ألا يجدر بالناقد ومن ورائه القارئ أن يدرك ضرورة استيعاب الرواية التاريخية التي تقوم على بطل روائي غير حقيقي، وأنه،أي الروائي، تحكمه الحبكة الفنيّة المتخيّلة على خلفية صيرورة الأحداث التاريخية الحقيقية؟.

ثم تكشف عن التمثلات الجمالية للمدونة الروائية العربية للتاريخ، وفيه تقرأ عددا من الروايات التي اشتغلت على البنية التاريخية تسترفدها مثل:”دروز بلجراد” لربيع جابر، و”حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر” لعز الدين جلاوجي، و”ملاك الفرصة الأخيرة” لسعيد نوح.

أما الفصل الرابع، فيدور حول التفاعلات النصية بين التراث الشفهي والرواية، وكيف  يمثل التراث الشفهي  لشعب من الشعوب رافدا مهما من الروافد التي يمتح منها الروائي، ويستلهمها في تشكيل فضائه السردي، حيث يعبر هذا التاريخ الشفهي عن التاريخ الجمعي للشعوب. كما تشمل دراسة التراث والتاريخ الشفهي دراسة تاريخ البسطاء من عامة الناس في سياق ثقافتهم الشعبية التي لا تنفصل عن النمط الثقافي العام، كما تنسحب على دراسة المجتمعات الفطرية التي لا تعرف الكتابة وأيضًا مجموعات الأقليات العرقية أو الدينية.

د. هويدا صالح

كما تكشف عن موقف الباحثين من التراث الشفهي، وآليات اشتغال التراث الشفهي في الرواية ، وتشكيل الشخصيات التراثية في الرواية ، وتحويل الشخصية التراثية إلى  شخصية روائية، كما تكشف الباحثة عن اللغة التراثية..لغة النصوص التراثية في الرواية، والاحتفاء بالنص الرحلي في الرواية.

وتقرأ الباحثة عدد من الروايات تشتغل على التراث الشفهي منها:”رمل الماية” لواسيني الأعرج، و”حوبه ورحلة البحث عن المهدي المنتظر” لعز الدين جلاوجي، و”ملاك الفرصة الأخيرة” لسعيد نوح، “تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الجنوب” لمجيد طوبيا، و”تغريبة أحمد الحجري” لعبد الواحد براهم.

وأخيرا يأتي الخامس ليقرأ جماليات اللغة المحكية في الرواية، وكيفية استخدام اللهجات المحكية في السرد؛ مما يثير الكثير من الأسئلة لعل أهمها “موضوعة” التناص مع لغة التراث الشعبي ولهجاته المحكية. وقضية اللهجات المحكية وعلاقتها بالهوية والخصوصية الثقافية. وعلاقة فكر ما بعد الحداثة باللهجات المحكية، والانتصار للهامش ، وكيف تعد قضية اللغات المحكية ومستوياتها قضية فلسفية في فكر ما بعد الحداثة، حيث اعتنت ما بعد الحداثة منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن الماضي إلى تفكيك  المركز والاهتمام بالهامش والانحياز له على حساب هذا المركز الذي سيطر طويلا، فقد عُنيت بتجاوز المركزية في الثقافة ودعت إلى التشظي والتفكيك وإعطاء الأطراف دورا أكبر في الفضاء الثقافي. وقد دعا  ميشيل فوكو إلى إعادة الاعتبار للهامش الذي تم إقصاؤه بعد هيمنة العقل على المتن وعدم إتاحة أية فرصة للهامش والأطراف، فقد آن الأوان ـ بحسب فوكو ـ لإعطاء حق الكلام لكل الذين حرموا منه طوال عمر الحداثة. ومسيرة العامية المصرية  وتجلياتها في الرواية .

ثم تقرأ الباحثة  السردية المضادة في  رواية”من حلاوة الروح”، وتكشف عن الكرنفالية السردية فيها، كذلك تكشف عن سردية الهامش في رواية”بازل”.

وتختتم  هويدا صالح الكتاب بخاتمة تعرض فيها أهم النتائج التي توصلت إليها بعد استجلاء آليات التراث في المدونة الروائية العربية.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات