حَانَ وقْتُ الحِكايَةِ | الحكايةُ30 | سُكَّرٌ هنديٌّ

01:54 صباحًا الخميس 20 أبريل 2023
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

د. إيمان بقاعي   (ثلاثون حوارية منقَّحة ومزيدة أبطالُها: حفيدٌ وجدّتُه وجدُّه)

  [إهداء: إلى كل من لم يتسنَّ له سماعها مُمَثَّلةً عبر أثير إذاعة القرآن الكريم- دار الفتوى في بيروت – 2019]

(أ)

الجدّ: بالأمسِ، يا سامي، تمنيْتَ لو كانَ الهَرَّاوي حيًّا، لزرتَهُ في بيتِهِ وقدمْتَ له علبةَ حلوى شكرًا له على نصائِحِه الشّعريةِ.

سامي (بإصرار): نعم!

الجدّ: أتعتقدُ أنَّ الحلوى هديةٌ مناسبةٌ لشاعرٍ أحببتَ شعرَه؟

سامي: نعم! ما دمْتُ أعبِّرُ لهُ عن حبي على أساسِ قولِ نبيِنا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: “تهادوا تحابوا”، وما دمتُ “لا أَمنُّ عليهِ بالعطِيَّةِ”.

الجدّة: أحسنْتَ يا سمسومةَ قلبي، يا وارثَ…

الجدّ (يكملُ جملةَ زوجته):… مورّثاتِ جدتِكَ مهيبة خانمْ المتعلقة بالذَّكاءِ، و…و…و…

سامي (يضحك ويكمل الجملة):…كلّها.

الجدّ: كلّها.

الجدّة: اسمعْ يا سامي، كانَتْ السَّيداتُ في بلادِنا قديمًا- الثَّريَّاتُ منهنَّ والفقيراتُ- يُتقِنَّ فنونَ تقديمِ الهدايا!

الجدّ (يتدخل): ولكن- طبعًا- كلُّ شخصٍ يتناسبُ ما يقدمُهُ من هديةٍ ووضعَهُ الاجتماعيَّ والاقتصاديَّ.

الجدّة (تصحح معلومات زوجِها): غيرَ أنَّ المتعارَفَ عليهِ- يا عزيز بِكْ- أنَّ الهدايا أعلى قيمةً إنْ صُنِعَتْ يدويًّا.

الجدّ (يوافق): نعم يا مهيبة خانمْ، كانَ هذا وما زال وسيظلُّ.

سامي (باهتمام): مثلًا؟

الجدّ (يتذكر): الحياكةُ!

الجدة (تضيف): والتّطريزُ!

سامي (يطلب المزيد من الشّرح): الحياكةُ والتّطريزُ؟ 

الجدة: مثلًا، مثَلًا: كانَتِ السّيداتُ يحكْنَ معاطفَ الصُّوفِ المشغولةَ يدويًّا للأطفالِ المولودينَ حديثًا إذا وُلدوا شتاءً، أو يطرّزْنَ الألبسةَ القطنيةَ  بخيوطِ القطنِ أو الحريرِ الزّرقاءِ للفتيانِ والورديَّةِ للفتياتِ.

سامي (يستنتج): من زمااااان كانَ الأزرقُ للبنينَ والورديُّ للبناتِ!

الجد (ضاحكًا): السّيداتُ هنَّ اللَّواتي- من خلالِ الحياكةِ والتّطريزِ- صنّفْنَ باللَّونِ ما للذُّكور وما للإناثِ يا سمسومةَ قلبِ جدتكَ. فهل خطرَ ببالِكَ قبل حديثنا هذا لماذا حاكَتْ مهيبة خانمْ قفازيْكَ اللَّذين فخَرَتْ إذ رميتَهما باللّونِ الأزرقِ؟

سامي (يشهق): لا!

الجد: بلى!

الجدة (ضاحكةً): ولو كنتَ فتاةً لكانَ قفازاكَ ورديينِ!

سامي (ضاحكًا): سأتحرى في خزانتي منذ اليوم الألوانَ إذن.

الجد: وأرجو ألا تقتصرَ على مراقبة الثّيابِ، بل…

الجدّة (تقاطعه كي يستنتج حفيدها بقية الحديثِ): كُنَّ يحكْنَ لُحُفًا للمواليدِ الصِّغارِ من خيطانِ الصُّوفِ شتاءً أو خيطانِ القطنِ صيفًا، ويزيّنَّ لُحُفَ الفتياتِ بالورودِ والمُخَرَّماتِ.

سامي (يشهق): لحافي أزرقُ، وستارة الغرفةِ! يا إلهي!

الجدّ: واسمعْ يا سامي اسمعْ: ورودٌ ومُخَرَّماتٌ للبناتِ.

سامي (يضحك): طبعًا للبناتِ يا جدي.. أتريدُ لنا- نحنُ الفتيانِ، يعني أنا وأنتَ- أن تُزَيَّنَ ألحفَتُنا بالورودِ والدَّانتيلِ؟

الجدّ (ضاحكًا): تصوَّرْ!

الجدّة (ضاحكةً): تصوَّرا!

الجدّ (يخاطب زوجته): ولم تقتصرِ الهدايا على الحياكةِ والتّطريز.

الجدة: لا!

الجد: بل كنَّ يصنعْنَ المُرَبَّياتُ اللَّذيذةَ الفاخرةَ.

الجدّة (تكمل): ولا تنسَ- يا عزيز بكْ- المعمولَ، وخاصةً أيامَ العيدِ، بعدَ أن يعجِنَّ السَّميدَ، مُضيفاتٍ إليه ماءَ الوردِ وماءَ الزّهرِ والسُّكرَ، ويُحشينَهُ بالجوزِ أو التَّمرِ أو الفستقِ الحلبيِّ، فيؤخَذُ هدايا للأقاربِ أو للعائلاتِ التي لم تعدْ سيداتُها في عمرٍ يسمحُ لهنَّ بصنعِهِ بأنفسِهِنَّ، أو يقدَّمُ للعائلاتِ الفقيرةِ التي لا تملكُ من المالِ ما يكفي لصنعِهِ.

الجدّ (يشرح): وخاصةً إذا كانَ لدى هذه العائلةِ أطفالٌ لا يمرُّ العيدُ- باعتقادِهِمْ- من غيرِ وجودِ المعمولِ.

الجدّة: ولا تنسَ ثيابَ العيدِ التي كانَتْ تقدَّمُ كهدايا للعائلاتِ التي لا تستطيعُ شراءَها لأطفالِها، وكانَتْ تقدَّمُ طبعًا قبلَ يومِ العيدِ ليفرَحَ بها الصِّغارُ.

سامي (يسأل): ما أحلى هديةٍ كنتَما- يا تيتا مهيبة وجدو عزيز- تتمنيانِ نيلَها في صغركِما؟

الجدّ (ضاحكًا): أحلى هديةٍ هديةٌ كالتي كنتَ ستحملُها لمحمد الهَرَّاوي…

الجدّة (ضاحكةً): كلُّ هديةٍ لها طعْمٌ سُكّريٌّ.

الجدّ: سأخبرُكَ عن علاقةِ اللُّبنانيينِ بالسّكرِ من زمانٍ يا سامي، يعني مِن زمنِ جدِّي.

سامي: أخبرني.

الجدّة: وأخبرني أنا أيضًا، لأنَّ جدَّكَ أكبرُ من جدِّي بكثيرٍ.

الجدّ (يسعل): أكيد..أكبرُ بكثيرٍ، فجدُّكِ لم يكنْ قد وُلِدَ عندما تزوجَ جدي.

الجدّة (بحرد): ماذا تقصدُ؟

 سامي (يضحك): أخبرنا يا جدي عن السّكرِ في لبنانَ.

(ب)

الجدّ: كانَ السُّكّر يأتينا نحن- اللّبنانيين- من الهندِ بشكلِ قوالبَ كبيرةٍ تشبه شكلَ الهَرَمِ.

سامي: من الهندِ؟

الجدّة: في الهندِ- يا سمسومةَ قلبي- توجدُ مزارعُ قصبِ السّكرِ، والسّكانُ كانوا خبراءَ بعصرِ نباتِ قصبِ السّكرِ وتكثيفِ عصيرِه وبلورتِه؛ لذا كانتِ الهندُ تصدّرُ إنتاجَها من السّكرِ إلى العالمِ. 

الجدّ:  وكانوا خبراءَ بلفِّهِ أيضًا، إذ كانوا يلفّونَهُ- كما كانَ يخبرُني جدي- بأوراقٍ زرقاءَ بعنايةٍ وأناقةٍ.  

سامي: ومنْ يكسرُ هرَمَ السُّكرِ في البيتِ؟

الجدّ: أحدُ الكبارِ طبعًا.

الجدة (بحماس): طبعًا أحدُ الكبارِ كما قال جدُّكَ، فلا تعتقدَنَّ- يا سمسمومةَ قلبي- أنَّ الأمرَ سهلٌ، فالقالَبُ يُمسَكُ باليدِ اليُسرى، والفَأْسُ باليدِ اليُمنى، ويكسَرُ القالبُ: طَقْ!

سامي (بدهشة): الفأسُ؟ وهل قالبُ السّكرِ جذعُ شجرةٍ؟

الجد: كان يحتاجُ إلى قوة عضلاتٍ وتركيزٍ، ولكنَّ هذا لم يعنِ أنَّ السّيداتِ لم يُجِدْنَ تكسير السّكَّرِ؛ فقد كنَّ قويّاتٍ.

الجدة (تعترض): كنَّ؟

الجد (يستدرك): كنَّ وما زلنَ!

الجدة (بفخر): نعم!

سامي (يسأل): ويوزَّعُ على أفرادِ الأسرةِ؟

الجدّ (مستنكرًا): يوزَّعُ؟ قطعَ الطَّريقَ من الهندِ ليوزَّعَ على أفرادِ الأسرةِ؟ بل يخبأُ ليضافَ قليلٌ منه إلى قهوةِ الضُّيوفِ أو شايِهم.

سامي (بخيبة): وبمَ يتحلّى الصِّغارُ؟

الجدّة: بالتّينِ والزَّبيبِ والدِّبسِ والعسلِ، والفاكهةِ طبعًا.

الجدّ (ممازحًا ومدعيًا الدَّهشة): كيفَ عرفتِ؟

الجدّة: (بارتباك): توقعْتُ.

الجدّ (ممازحًا): توقعُكِ في محلِّه، ولكنَّ الصِّغارَ لم يكونوا ليقتنعوا بالتِّينِ والزَّبيبِ والعسلِ والدِّبسِ، فكانوا يغزونَ علبَ السّكرِ، إن نسيتْ أمهاتهم مفتاحَ الخزانةِ المخبّأَ فيها السُّكّر.

سامي: ويأكلونَه.

الجدّ: بلْ يملأونَ جيوبَهمْ ويذهبونَ إلى دوالي العنبِ، حيثُ يفقأونَ الحِصْرِمَ ويعصرونَه فوقَ السُّكرِ…

سامي: ويأكلونهَ؟

الجد: وهل أطيبُ من مزج الحامض الحلو يا سامي؟

سامي (مجيبًا): لم يسبقْ لي أن تذوقْتُ الحِصْرِمَ، لكنني سأفعلُ. ولكنني أتساءَلُ عن مصيرِ الصّغارِ…

الجدّة: (تضحك): عندما تسألُ الأمُّ عن السّكرِ…

الجدّ (ضاحكًا): يرددُ الصِّغارَ تلكَ القصيدةَ التي كتبَها الشَّاعرُ  (كامل كيلاني)، والتي تصلحُ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ.

سامي (باهتمام): وهي؟

الجدّ: قصيدةُ (لا أحد!) التي تقولُ:


شخصٌ غريبٌ تسمعونَ دائمًا
به…وإنْ لم يرَهْ منكمْ أحدْ
ولستُ أدري أبدًا: ما شكلُهُ
وكمْ له من معجزاتٍ لا تُعَدّْ
أما اسمُه: فهو غريبٌ عندكمْ
تعرفُه كلُّ فتاةٍ وولدْ
فإنْ سألْتُ: ما اسمهُ؟
فهو يسمى: لا أحدْ!
إنْ تُركتْ أبوابُنا مفتوحةً
أو طارَ من نافذةٍ زجاجُها
أو خُلِعتْ أزِرّةٌ من مَلْبَسٍ
أو ضاعَ من آنيةٍ غطاؤها
أو بُعثرَتْ من مكتبٍ أوراقُ
أو سالَ من محبرةٍ مدادُها
ثم سألنا: مَنْ فعلْ؟
 
كان الجوابُ: لا أحدْ.

(ت)

سامي: لو أستطيعُ أنْ أهديَ كامل كيلاني أيضًا علبةَ حلوى!

الجد: مصنوعةً يدويًّا.

سامي: طبعًا.

الجدة: أو قالبَ سكَّرٍ.

سامي (ضاحكًا): مع فأسٍ.

الجد: وعنقودَ حِصْرِم.

سامي (ضاحكًا): وعنقودَ حصرم.

انتهت

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات