نفحاتٌ من طيب بردى العروبي في “حُماة الثغور”

04:53 مساءً الإثنين 2 أكتوبر 2023
د. منى رسلان

د. منى رسلان

أُسْتَاذةُ النَّقْد الأَدَبِيّ المعاصر والمنهجيَّة فِي كليَّة الآدابِ والعُلومِ الإنسانيَّة في الجامعة اللبنانيَّة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
د. منى رسلان

قراءة الدكتورة الأميرة منى رسلان النقديَّة الأدبية والسياسيَّة لـكتاب الدكتورة ليلى أبو شقرا “حماة الثغور العلماء الموحّدون في القرن العشرين: إسهامات نهضوية”[1] (الأمير شكيب أرسلان | الأمير عادل أرسلان | عجاج نويهض | عارف أبو شقرا | عارف بيك النكدي). قدمتها بصفتها ممثِّلة اللجنة الثقافيَّة في المجلس المذهبي لطائفة المسلمين الموحِّدين، وقدمت قراءتها على على مسرح المكتبة الوطنيَّة –  عقلين، يوم الجمعة 22 أيلول / سبتمبر 2023

غلاف الكتاب

“ثمنُ الحُرّيَّة”

لـِـلأوطـانِ فـــي دَمِ كُــلِّ حُــرٍّ     …     يـَــدٌ سَـلَـفَـت وَدَيـنٌ مُـسـتَحِقُّ

وَمَــنْ يَـسقى وَيـَشرَبُ بِـالمَنايا     …     إِذا الأَحـرارُ لـَم يُـسقُوا وَيَسقوا[2]

في مشهديَّة تدليليَّة على قُربِ الفترة الزمنية بين الشهادة ونيل الحُريَّة.

و”ليس اجتماعنا اليوم إلاَّ لوضع خاص يجعلُ أبناء الطائفة الدرزيَّة طليعة كل قضيَّة تحرُّريَّة في الشرق”[3].

ومَــا كــانَ الــدُروزُ قَـبـيلَ شَــرٍّ     …     وَإِنْ أُخِــذُوا بِـمـا لَـم يَـستَحِقُّوا

وَلَــكِــن ذادَةٌ وَ قُــــراةُ ضَــيــفٍ     …     كَـيَـنبوعِ الـصَفا خَـشُنوا وَ رَقـُّوا

لــَهُـم جَــبَـلٌ أَشَــمُّ لَــهُ شُـعـافٌ     …     مَـوارِدُ فِي السَحابِ الجُونِ بُلقُ

لِــكُــلِّ لَــبــوءَةٍ وَ لِــكُــلِّ شِــبــلٍ     …     نِــضَــالٌ دونَ غــايَـتِـهِ وَ رَشـــقُ[4]

***

الناقدة الأدبية د. منى رسلان ود. ليلى أبوشقرا

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الأدباء والنقَّاد لطالما تباحثوا في الجدلية القائمة ما بين قُطبي الرحى: الأدب والسياسة[5]، بفاعليتها التأثيريَّة ومواطن التفاعل والتلاقي؛ إذ يُجمع الباحثون ومؤرّخو الأدب، أنّ الأدب نتاج فكري معرفي وهو ابن بيئته، يلوذ بها ويتفاعل بأحداثها وبطبيعة الحياة القائمة والتمايز في نوع البيئة التّي عاش ضمنها؛ ويتطبَّع بمزاياها وبـ بصمتها وخصائصها. وأنَّ الأدب عمليَّة إفصاحٍ أو تعبير عمَّا يعكس تأثيره من خلال ظاهرات الحياة العامة والشخصيَّة للأديب أو الكاتب، في نفسه والإسقاطات النفسيَّة والظروف المؤثرة في حياة الأديب ووعيه، بما يتمظهر من خلال نصّه، أو كما هي أمثولة تصويريَّة لمشهديَّات حياتيَّة لمقاومين أحرار يشعرون بمسؤولياتهم تجاه أوطانهم – إنسانيًّا وتاريخيًّا – في كُلِّ زمان حقّ وواجب عليهم في الزود عنها، في وقت الشدائد والمِحن، لا يهابون بطش المُستعمرين، وهم يمنحون الحياة لغيرهم. فقيمة الحياة ونُصرة الأوطان تعلوها رايات النور والحق.

وتُطالعنا نخبة من الأدباء والسياسيين والنُقَّاد (ممَّن كتبوا في أدب الرحلات؛ المُراسلات؛ الخَطابات؛ المُدوَّنات – اليوميَّات، والسيرة؛ وسواها…)، أولئك الَّذين عُنوا بالأدب فأحسنوا توظيفه في مشروعهم الوطني أو العروبي أو القومي أو الإنساني، وتمكَّنوا من استخدام أدوات اللغة العربيَّة فصاحة، في البلاغيَّة والإبلاغيَّة والتوكيد والتخصيص وحُسن التناغم الكلامي والموسيقي، وأحيانًا المُبالغة في المعنى بما يُلائم الأجواء الحماسيَّة، أو وصف لفاجعة، فملكوا ناصية الكلم، وجماليَّاته التصويريَّة، تعبيرًا عن شؤون الحُكم وشجون السياسة واتِّجاهات الصراعات السياسيَّة أو القوميِّة أو حتَّى الفكريَّة أو تلك الحزبيَّة أو الدينيَّة منها، وآمال الشعوب وقضايا المصير الكُبرى، ناهيك عن تعاقُب الأحداث والوقائع المُتناوبة واتِّجاهات التيَّارات الفكريَّة والسياسيَّةِ زمنذاك. علمًا بأنْ ليس كُلُّ أدب سياسي، يتحتَّمُ عليه أن يكون أدبًا قوميًّا ذا صلات، في مشروعه التأصيلي أو التأريخي؛ ولا ضير أن تنضوي تحته تلك الدِّراسات الَّتي تبحثُ عن تشابُه أو توازن بينه وبين نِتاج أدبي لشعوب أخرى وبلغات مُختلفة، أو لحقبة زمنيَّة مُعيَّنة، في حقل معرفي مُقارن، وفقًا  لتقارب أو لربُّما تشابهٍ ما.

يلفتني في هذا المقام أنني قد دُعيتُ في العام ٢٠١٨ إلى ندوة حوارية حَوْلَ كِتابِ “المرأةُ الدُّرزيَّةُ في البُنية المُجتمعيَّةِ اللبنانيَّةِ” في ثانوية العرفان، حيث قدّمت قراءتي في النقد الاجتماعي المعنونة:  “المرأة الدرزية وفاعليَّة حضورِها النضالية”؛ وهي رسالة الماجستير في العلوم الاجتماعية، للباحثة في المجال الأكاديمي السيدة سامية خُضر.

في قراءتي النقديَّة تحدّثت عن نساء مقاومات، ثابتات في انتمائهنَّ العائلي والوطني، ذوات مشروع سياسي – اجتماعي، حملن إرث زعامة الموحّدين في أزمنة تاريخية وسياسية متأزّمة وعنيفة.

كيف لا، وهذا الوجود  رسَّختهُ المرأة الموحِّدة فِعل إرادة، بمفاعيلهِ الإنسانيَّة والنضاليَّةِ والوطنيَّة والمجتمعيَّةِ والإسلاميَّة التوحيديَّة والقوميَّة في مواجهة القِوى الظلاميَّة والاستعمار الغربي الفرنسي والبريطاني بأشكاله كافة.

فـ

دَمُ الثُوَّارِ تَعرِفُهُ فَرنسا    …..   وَتَعلَمُ أنَّهُ نورٌ وَ حَقُّ

وعليه يتَّخذ هذا الوجود الأنثوي لدى طائفة المُوحِّدين، مناحيَ مُتشعِّبة ومِفصليَّة في حياة المرأة، وفاعليَّة حضورِها على الساحة الاجتماعية – السياسية والنضاليَّة، بكُلِّ ما يعتمل هذا الوجود مِن مَعْمُودِيَّة وَطَنيِّة واجتماعيَّة ودينيَّة بمسؤولية الاجتماعيَّةِ – التنويريَّةِ بهدف ترسيخ قيم الحرية (والإنسانية) والديموقراطية والعدالة بعيش كريم؛ فتكون الحركة النسويَّة بنضالها المُجتمعي ودورها السياسي الريادي في هذا المشرق العربي، أَساسًا تكوينًا لمجتمع إنساني وحضور سياسي وتاريخي ووجودي فاعل، بتثاقف عروبي في تجربة لبنان الوطن.

من اليمين: الإعلامي عبدالله ملاعب، د. منى رسلان، وزير التربية السابق والنائب الأستاذ أكرم شهيّب، وزير الثقافة في لبنان القاضي محمّد وسام المرتضى، ود.ليلى أبوشقرا

تتجلَّى هذه الارادة في (التَقَدُّمِيَّةِ) لنساء “خالفن العُرف الاجتماعي” في التخالط والتحدُّث والمواجهة واتِّخاذ القرار والحل والربط، خرجن على الأُطر الاجتماعيَّة التقليديَّة التي انتهجها المجتمع الذكوري آنذاك، ليتبوأن مراكز قيادية على مستوى طائفة المُوحِّدين الدروز، نذكر منهن: الست نسب التنوخيَّة، الست نايفة جنبلاط شمس (جدتي لوالدتي)، الست نظيرة زين الدين، الست نظيرة جنبلاط، والأميرة مي أرسلان جنبلاط وغيرهن الكثيرات من النساء المُوحِّدات المقدامات، الثابتات في انتمائهنَّ العائلي والوطني، ذوات مشروع سياسي – اجتماعي، حملن إرث الزعامة التوحيديَّة – الدرزية في أزمنة تاريخية وسياسية متخبِّطة.

الناقدة الأدبية الدكتورة منى رسلان والدكتورة ليلى ابو شقرا

وها إن الدكتورة ليلى أبو شقرا تُصدر كتابها: “حُماة الثغور” العلماء الموحّدون في القرن العشرين: إسهامات نهضويّة – الأمير شكيب أرسلان؛ الأمير عادل أرسلان؛ عجاج نويهض؛ عارف أبو شقرا؛ وعارف بيك نكد.

بيد أنّني القارئة نقدًا في متن هذين الكتابين – الرسالتين الماجستير والدكتوراه، ما بين الأمس واليوم، أجدني مُتبحّرةً في العوالم السرّية لهاتين السيدتين الباحثتين الأكاديميتين بحرفيَّة وموضوعيَّة. فالأولى تبحث في قوامة المرأة على نفسها وقيادتها الريادية لمجتمعها، والثانية تطأ رحاب المقاومين من الرجال وتجاربهم في خضمِّ العمليَّة السياسيَّة والتجاذبات أو التقاطعات السياسيَّة داخل لبنان وفي الأقطار العربيَّة والغربيَّة. من اسطنبول إلى قونية إلى لبنان، فلسطين، الأردن، سورية، نجد، ومكة، واليمن، إلى المغرب العربي، مرورًا بألمانيا – برلين وصولًا إلى سويسرا.. وسواها… فليس كل الرجال رجالًا، ولا كانت كل النساء نساءً، قد وُلدن ليتبوأن مراكز قياديَّة في السياسة وليكنَّ الرائدات والمقاومات، يقدْن الأمم والخلائق في مجتمعهن بحكمهن الرشيد؛ وفي تفعيل سيرورة للحياة الإنسانية – المجتمعيَّة تكامُلًا وليس تنافسيًّا.

ههنا تجيء قراءتي النقديَّة الأدبيَّة والسياسيَّةِ المعنونة: نفحاتٌ من طيب بردى في كتاب: “حُماة الثغور” الموحدون في القرن العشرين: إسهامات نهضوية”[6]_ الأمير شكيب أرسلان؛ الأمير عادل أرسلان؛ عجاج نويهض؛ عارف أبو شقرا؛ عارف بيك النكدي)، للدكتورة ليلى أبوشقرا.

لقد انتهجت الدكتورة ليلى، دراسة الامتزاج ما بين الأدب والسياسة بما يتضمَّنه من أُطر فكريَّةٍ في حقل القضايا الإنسانيَّة؛ أو ما يُستدلُّ عليه بالأدب السياسي – توكيدًا لبُعدِهِ التاريخي ووفاقًا للموروث – وليس بالضرورة أن يكون كُلُّ أدب سياسي هو أدب قومي، كما أسلفنا – غير أنَّه كان في مُجمل صيرورته ضد التغريب؛ وهو يُبنى كسواه انطلاقًا من التحوُّلات الاجتماعيَّة والإرهاصات الفكريّة أو تلك الأخلاقيَّة أو سوى ذاك من الميثولوجيَّة أو الأيديولوجيَّات الماضويَّة أو ما أُعيد إحياؤها، والسياسيَّة الدَّاخلة في بنائيَّة مفهوميَّة نظرة الكاتب أو السياسي أو المُجتمعي (المُفكِّر النهضوي؛ نساء ورجال البيوتات السياسيَّة؛ شيخ القبيلة؛ القائد المحلي… أو القائد العسكري…)، إلى فاعليَّة حضور المُثقَّف العربي ومشروعِهِ العروبي والإسلامي، وما يتلازم معها من الدعوة إلى تحرّر المرأة والدعوة إلى استقلال الدول العربية، والانتفاض تحرُّرًا ضد الاستعمار الغربي – الأوروبي تحديدًا.  

وبناء عليه، لقد قُيِّض للكاتب العربي – كما للدكتورة ليلى – من مُقاربة الخطاب السياسي عبر الوسيلة الأدبيَّة، في ماضيها وحاضرها، وفي نُظمِها ومُمارساتها، وفي حركتها وسكونها، بصياغتها الجماليَّةِ. وعلى وجه الخصوص، خلال القرن العشرين، بحقبته الزمنية الممتدة مع نهاية القرن التَّاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث شكَّلت “المرأة حيِّزًا شديد الاتِّساع في مجالات تثاقف الفكر المُجتمعي العربي…”[7].

بيد أنَّ المجال في “حُماة الثغور” ينفتح على توصيف مفهوميَّة التثاقُف العربي مع النتاج الفكري الغربي في عصر النهضة، من خلال الأدب والتفاعُل ما بين المُجتمعات الغربيَّة والعربيَّة والإسلاميَّة، وكيفيَّة تجسيد لبعض في القيم الجماليَّة العامّة أو تلك الخاصة في الحياة العربيَّة. وهذا ما نتج عنه ما يمكن لحظُه تحت مُسمى: الإسلام والعروبة التثاقفيَّة في عصر النهضة. وهو العنوان الأوَّل الَّذي ارتأيته بادئ ذي بدء لقراءتي النقديَّة لكتاب “حُماة الثغور” للدكتورة ليلى أبو شقرا؛ ليحُلَّ موضعه عنوان آخر: “نفحاتٌ من طيب بردى في حُماة الثغور”. فهل لكم أن تعرفوا العرب كـ أُمَّة ؟ كيف لا والعروبة تطفو في متن هذا الكتاب القيِّم، بما يحمله من صدق الأماني العربيَّة والتضحيات الجسام حدَّ الشهادة، وبما يعتلج في صدر نساء و رجالات القرن العشرين من عزَّة وكرامة اعتداء بعروبتهم وبالإسلام. حتَّى إنَّ المُستفيض في قراءة كتاب “حُماة الثغور” سيستمسك بالراية العربية الخفاقة.

ولِلمُستعمرينَ وإِن أَلانوا….  قُلوبٌ كالحِجارَةِ لا تَرِقُّ

فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ …. وَ في الأَسرى فِدىً لَهُمُ وَ عِتقُ

بما يُستدلُّ عليه في الرسائل الموجَّهة لأمير البيان بإنسانيَّة القائد المُلتزم بقضايا عروبته وشعبه؛ تقول ليلى: “ومن العبارات الَّتي عنونت بها الرسائل لأمير البيان تلك التي وصفتهُ بـ “الأخ الفاضل والمنشئ البليغ الأمير شكيب أرسلان” ممَّا يُضيف لقبًا جديدًا إلى جانب ألقابه”؛ غير أنَّ الألقاب والإطناب فيها لم تكن لتُثنيَ أمير البيان عن دوره العروبي، لن يثنيَه غدر أو قتال أو تهديد بالاغتيال؛ ناهيك عن سعيه الدؤوب إلى العمل على تحرير الأمة العربية ولبنان وسوريا وفلسطين، ولرفع الظلم التركي ولاحقًا الانتداب الفرنسي والإنكليزي عنها. قيل فيه:

هذا الذي رفع اليراع منارة

                                        غمرت سماء الشرق بالأنوار

لو دان أحرار البلاد لسيّدٍ

                                        ناديته يا سيّد الأحرار[8]

لقد ظنَّ الغرب المُستعمر أنَّ العرب، والمُسلمين الموحِّدين، سوف يعيشون على سالف أمجادهم، وعيونهم ترقبُ استجداء التحضُّر. غير أنَّ مجتمع الموحِّدين كما العرب تيقَّنوا ومنذ فجر التأسيس، أنَّ حرِّيتهم وحضورهم الأممي أبدي، واستقلال بلادهم يؤخذ ولا يُعطى، وبذا تصير الثورة الوجودية فعلًا حاضرًا في ذواتهم، لن يحيدوا عن مسارها الوطني الخلاصي؛ وأنَّ التضحية في سبيل الاستقلال، هي تلك الحقيقة الكامنة في حياة الموحدين وتؤجِّج عقول وعواطف الفتي منهم والمشيب، مثل ثبات الروح في خالقها، وفناء المادة في جُبلتها.


وزير الثقافة في لبنان القاضي محمّد وسام المرتضى،
بين د. منى رسلان، ود.ليلى أبو شقرا

كذلك الأمر قُيِّض للدكتورة ليلى أبو شقرا، أن تلج إلى مضمار الفكر السياسي والنهضوي قارئة في حقول المعارف المُتشعِّبة في دراستها الأكاديميَّة، ومضيئة تحليلًا وتمحيصًا وتفنيدًا للقضايا المحوريَّة الَّتي حمل لواءها نخبة من رجالات الموحدين، وتنبّههم للمخططات الاستعمارية لتجزئة هذا المشرق العربي.

وعليه، فإنَّ “الإنسان مِحور الحياة المُجتمعيَّة، وفاعل التثاقُف المُجتمعي فيها بامتياز؛ إذ يُتابع الدكتور وجيه فانوس: “إذ لولا وجود الإنسان لما كانت الحياة المُجتمعيَّة ؛ ولولا سعيه التثاقفي ما كان لهذه الحياة أن تتغيَّر او تتبدَّل أو تتطوَّر..”.

جليٌ أنَّ الدكتورة ليلى تلجُ في البحث عن العوالم النهضوية لشخصيَّات اجتماعيَّة وقياديَّة ولرجال الموحّدين في صيرورة الوقائع التاريخية والتصورات الاجتماعية والريادة الثقافية، إذ تركُنُ إلى معينين اثنين، ضمن قطرين اثنين نالا شرف الريادة في عصر النهضة العربية وحضارتها.

المعينُ الأول: يتمثّل بالأجواء العامة التي أهّلت أو التي دفعت لتشكّل أحد أهم الدوافع أو الدفع النهضوي، بعدما استفحل القهر الدهري وكوابيس الطغيان التركي، وبعده الاستعمار الفرنكو إنكليزي لهذا الشرق.

المعينُ الثاني: يتمثّل بالأدوار الجريئة والحكمة في التعقُّلِ، تلك التي امتاز بها روّادنا من اللبنانيين المسلمين الموحّدين، في أداء واجباتهم، اجتماعيًا، فكريًا، وطنيًّا، وسياسيًا، في مسعى منهم لتكوين شخصية مستقلة – وطنيًا – عن الدولة العثمانية، وبعدها عن مخلّفات الاستعمار.

إذ إن كثرًا من المؤرّخين يرون في مشروع “عصر النهضة” أنه قام على قطرين رائدين هما مصر ولبنان. من هنا، يبدأ الناقد بدراسة البيئة، وتباعًا يكون من الضروري الاطّلاع على الأجواء التي نشأ فيها هذا الأدب السياسي. فمصر كما لبنان كانا رائدي الفكر ومنشأي الروّاد، إذ يعود الفضل لهما، من حيث نشر الوعي بين شعوب المشرق العربي، إلى بواعث الوعي التحرري، وإتاحة المجالات أمام السياسيين والرواد المثقفين المتمرّدين على حكم السلطان العثماني باللجوء إلى أراضيها.

ولا يُغفل على أحد، أن البيئة الشامية زمنذاك، والبيئة اللبنانية، قد عانتا في ما عانتاه من ظروف قاهرة، فأحاط بهما الجوع والفقر والجهل.

إذ إنَّ أدباء ومفكّري وسياسيي عصر النهضة، أبَوْا إلا أن يلعبوا دورًا تنويريًا في مجتمعاتهم، بعد أن طغى الطغيان العثماني، وصودرت منهم حريتهم، وتمّ الاستيلاء على مقدّرات الشعب في هذا المشرق العربي، وبعد أن انتدبهم الغرب.

بناءً لمفهوميتهم للحكم وآلياته، وإدراكهم الحقيقي في عيشهم المواطنة، الحرية في أوطانهم، صمَّموا واستبسلوا لنيل حقهم في مشاركة العامة من الناس في منظورهم الفكري والسياسي والأيديولوجي والثقافي، بعيدًا عن أيديولوجيات تمعن كفصيل محكوم عليه بالتجهيل عمدًا، واستلاب أرواحهم منهم.

تستطلع الدكتورة ليلى في “حُماتها للثغور” مفكِّري وأدباء عصر النهضة العربية من حيث اختلاف أساليب مواجهتهم لأيديولوجيا الطغيان (سرًّا وعلنًا)، دفعوا ثمن المواجهة والتمرّد، وثمن مواقفهم من السلطة الظلامية؛ فكان الأدب أحد أوجه تمظهر إعادة خلق وعي عربي لعروبة حقيقية، تنطلق من الأرضية الثابتة للمجتمع العربي، وتحمل في طياتها المناخات السوسيولوجية والسياسية والاجتماعية الثقافية والعلمية، يبثون فيها مبدأ العروبة، والترابط العضوي المجتمعي المتماسك، بمدلولاته وأطره التاريخية.

لتنطلق في دراستها لأدبويَّة النصوص، كما يقول “كونديرا” عن الأدب بما يُشكِّلُهُ من مسرح أو محاولة لكشف الجانب الخفي – المجهول من الوجود / الحضور الفاعل إنسانيًّا. وليشهد عصر النهضة العربية الحديثة في مصر ولبنان، زمنًا من التحوّلات الكبرى في الفكر والفن والأدب، والنضالات المفصلية واحة مضيئة في تاريخنا العربي.

فلا مندوحة من القول إنَّ الواقع والبيئة اللذين عاش فيهما رجالات “حُماة الثغور”، في زمن التحولات السياسية والأيديولوجية، والصراع على إحياء اللغة العربية وآدابها في الحاضرة العربية والغربية، وإعادتها إلى جمال رونقها، وإبداعها أدبًا ولغةً ضمن مسار وظيفتها القومية، في فن التخاطب والتفاهم والاتحاد والتآخي أو التعاضد. فيُقدّم الأدب شعرًا ونثرًا، ومن خلال مفاهيم علم الجمال، وموازين النقد الأدبي وذاك المقارن، ومقاييس الأدب، دفقًا من الذوق الجمالي والمعرفي والإدراكي الحسّي، والعاطفي، فعلَ قبول في الفكر العربي كما الغربي، بما يشكّل إعادة اعتبار للذائقة الأدبية والذوقية، تجسيدًا عروبيًا للذات العربية؛ وواحة جاذبة للألباب الجموع من أبناء الطائفة “التوحيديَّة – الدروز” وهم طليعيو كل قضيَّة تحرُّريَّة في الشرق[9].

إذًا، وجدت الدكتورة ليلى من خلال تتبُّعها لمسار النضال الطويل للرجال القادة في المجتمع الموحِّدين، موضع دراستها في “حُماة الثغور”، وتصدِّيهم سلميًا وضد المستعمر خلال فترات الأربعينيات وعسكريًّا خلال خمسينيات القرن الماضي، مع توالي الثورات العربية، من الإضاءة على بروز أدب مجتمعي يعبّر عن قضايا المجتمع سياسيًا، في ما يتّصل بواقع تنظيم العلائقية بين دولة وأخرى، أو داخل دولة ما ضمن أُطر قانونيَّة وسياديَّة.

وعليه يكون الأدب السياسي ذاك الذي يتشابك مع القضايا السياسية التي تهتم بالحالة العامة في أيّ مجتمع، بواقعية تنظيمية وبعدالة اجتماعية، وسيادة تشريعية، وحقوق عيش، ومشاكل الحريّات والكرامة والعدالة الاجتماعية، رغبةً في التعبير الحقيقي عمّا آلت إليه الأحوال. ويتخذ الأدب السياسي ذو الخاصية التنويرية، حضوره في الواقع السياسي، ههنا الانتداب الإنكليزي والفرنسي لهذا الشرق، ويتمثّل في ما يتمثّل مضمونه في تلك الانتقادات الموجّهة إلى الفرق السياسية، أو الحزبية أو الجمعيات وسلطوية الحكام أو رجال الأمن القمعيين… إذ يدأب هذا الأدب في تسليط الضوء على الصراع المستمر الذي يختبره المجتمع مع الساسة والأحداث السياسية، في محاولة لاستنهاض الهِمم.

انطلاقًا من أن الكاتب أو الناقد أو القارئ، في حقيقته، كائن يمتهن السياسة الحياتيَّة، غير أنه يملك في ذاته نظريته الأيديولوجية الخاصة به أيضًا أو تلك الدينيَّة أو تينك التحرُّريَّة وسواها؛ لذا نجد أنَّ الدكتورة ليلى تتبحَّر في الأفكار، تقنعنا بموضوعيتها وحيوية لغتها الرافلة بالحياء والحياة، كشخصها، ومُقاربتها الشيِّقة في كتابها “حُماة الثغور”، ورؤيتها الوجودية حول طبيعة حضور وممارسة الرجال القادة لفعاليتهم ودورهم التنويري والدفاعي عن استقلال أوطانهم، موضع دراستها الأكاديميَّة –  ونظرتهم إلى الحُكم والعروبة والإسلام، وتوقهم إلى عيش الحياة، بما ينسجه من عالم خالٍ من الاستعباد والظلم والانقياد والاستسلام، معبّرين عن توجُّهاتهم العروبيَة واتجاهاتهم وطموحات أوطانهم، ومبادئهم، وحتَّى خيباتهم تلك، ونجاتهم، وموقفهم الوجودي في العالم ومسؤوليَّتهم أمام التحدِّيات الجمَّة.

ولا غيض، في أن يكون الاستمساك بعروة العربية والإسلام في هذا الزمن المستعصي على الفهم، وبأن يثبت هؤلاء القادة على ثوابتهم القويمة لتحرير هذه الأمة؛ فلم تغرَّهم وعود الغرب الطنّانة، ولا باعوا بالأقوال والخُطب الفارغة أوطانهم، بل ظهروا بمظهر المحنّكين القائمين بواجباتهم السياسية والاجتماعية والدينية – الإسلامية الحق.

في عاتيات زمن الردى… هُمُ -“النحن” مِدادُ الوطن

“حُماةُ الثغور” نجوى الفؤاد… وجدان الأُمم

فـــ 

ســـلامٌ مـــن طيبِ بــردى العروبي أرقُّ.. وَ طيبِ أثرِكُم .. صنوان لا يُردُّ.  

الدكتورة الأميرة منى رسلان

أستاذة النقد الأدبيّ المُعاصر والمنهجيَّة

 في كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة – الفرع الأوَّل – الجامعة اللبنانيَّةبيروت، السبت 16 أيلول


[1] _ أبوشقرا، الدكتورة ليلى. “حماة الثغور العلماء الموحّدون في القرن العشرين: إسهامات نهضوية”. الصادرة عن دار النهضة العربية، بيروت. الطبعة الأولى، 2024-2023.

[2] _ شوقي، أحمد. ديوان الشوقيات. قصيدة ( ثمن الحرية ) التي قيلت في حفلة أقيمت لإعانة منكوبي سوريا بمسرح حديقة الأزبكية في يناير سنة (1926م) بعد أن قصف الفرنسيون دمشق وخلفوا فيها الدمار.

[3] _ جنبلاط، كمال.

[4] _ شوقي، أحمد. قصيدة ( ثمن الحرية ) التي قيلت في حفلة أقيمت لإعانة منكوبي سوريا بمسرح حديقة الأزبكية في يناير سنة (1926م) بعد أن قصف الفرنسيون دمشق وخلفوا فيها الدمار.

[5] _ يراجع: المومني، رؤى حيدر. مفهوم الأدب السياسي في ضوء العلاقة المتبادلة بين الأدب والسياسة. الناشر. الجامعة الأردنية عمادة البحث العلمي. دراسات: العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة. العدد: المجلَّد 46؛ العدد 2 (30 حزيران/ يونيو 2019). ص. 361-378.

[6] _ أبوشقرا، الدكتورة ليلى. “حماة الثغور العلماء الموحدون في القرن العشرين: إسهامات نهضوية”. الصادرة عن دار النهضة العربية، بيروت. الطبعة الأولى، 2024-2023.

[7] _ فانوس، العلّامة الدكتور وجيه. إشارات من التثاقف العربي مع التغريب في القرن العشرين. تنفيذ: فانوبرس؛ بيروت. جميع حقوق التأليف والطبع والنشر محفوظة للمؤلِّف. الطبعة الأولى، 2004.

[8] _ الأخطل الصغير _ الأمير شكيب أرسلان

[9] _ يراجع في هذا المضمار: البعيني، حسن أمين. سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى. الناشر: مؤسسة التراث الدرزي؛ لندن، المملكة المتحدة. الطبعة الأولى؛ 2008.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات