محمد عبلة: ثائر بلوحة وفرشاة ألوان

11:32 مساءً الجمعة 16 نوفمبر 2012
سيد محمود

سيد محمود

شاعر وكاتب وصحفي، يعمل في مؤسسة الأهرام، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

الفنان التشكيلي محمد عبلة

فى أحد أيام يناير من العام 1991 استيقظ سكان القاهرة على صورة غريبة نشرتها الصحف لفنان تشكيلى مصرى يسير فى شوارع المدينة بصحبة عائلته وهو يرفع لوحة تشكيلية تندد بمشاركة قوات التحالف الدولى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية فى حرب الخليج. وقتها لم تفهم قوات الأمن وهى تسير وراء هذا الموكب العائلي، طبيعة اللوحة التى عكست السمات الأسلوبية لصاحبها الذى بات اليوم من أبرز الفنانين التشكيليين العرب، لكن كثيرين اعتبروا لوحته فعل احتجاج رمزياً لا يخلو من دلالة.

ومنذ تلك اللحظة ومحمد عبلة «58 عاما» لا يتوقف عن التظاهر فقد ظل طوال أيام الاعتصام بميدان التحرير يمسك بالألوان واللوحات القماشية وكاميرا فوتوغرافية يسجل بها كل ما يجرى فى الأيام التى يراها «أياماً طاهرة» ويتمنى لو عادت من جديد ليتمكن من استيعاب ما جرى خلالها لكنه يعتبر نفسه مبشرا بالثورة أو كما يقول الثورة حاضرة فى معارضى فى السنوات الأخيرة ومن يتأمل لوحاتى لم يكن عصيا عليه أن يفهم ذلك، لكن ما رأيته فى الميدان فاق قدرتى على استيعابه، بقدر ما أكد لى إيمانى بأن «الفن مغناطيس» يجذب الجميع ويصنع بينك وبين الناس جسرا عليك أن تعبر من فوقه لتفهم هواجسهم وتعبر عنها بطريقتك».
فى لوحات عبلة طوال السنوات الثلاث الأخيرة سعى إلى تأمل علاقته مع المدينة بكل تناقضاتها، رسم فوضاها وازدحام الكتل البشرية فيها، شافها تحت الأضواء الكابية، وأظهر قبح عشوائياتها وفوضاها دون أن يلعنها فهى ليست إلا «متاهة».

الطريق إلى التحرير: من أحدث أعمال محمد عبلة

لا يخجل عبلة من اتهامه بتسييس الفن مؤكدا أنه يفضل أن يكون ملتزما بالمعنى الذى أشاعه سارتر عن ضمير المثقف خلال حقبة الستينيات، فمن خلال الضمير كما يقول يمكن لك أن تعيش حياة حقيقية، ويتذكر جيدا الأجواء التى دفعته للتظاهر بلوحة فى العام 1991 ضد تقدم القوات الأمريكية إلى الخليج قائلا «كان ابنى صغيرا أنذاك لكنه أدرك بوعى الطفل معنى الجرائم التى ارتكبت باسم تحرير الكويت وقادتنى مخاوفه إلى فكرة حمل اللوحة والسير بها فى الشارع ومعى أسرتى الصغيرة، كانت الوجوه التى تشملها اللوحة «مشوهة» لسبب لم أكن أدركه كأنما كانت قادمة من «كوابيس»، راهنت آنذاك على جهل رجال الأمن واحتميت بـ «الفن» ولا أزال».
فى العام 2000 عمل عبلة مع الفنان عادل السيوى وآخرين على تجميل منطقة كوم غراب بحى مصر القديمة، وفى العام 2007 تبنى الفنان حملة شعبية لوقف عملية تهجير منظمة لأهالى جزيرة «القرصاية» أو بين البحرين التى تقع فى قلب نيل القاهرة وتفصل بين حى المعادى الراقى وأحياء عشوائية فى الجيزة لكنها كانت خلابة ومغرية لحفنة من رجال الأعمال رغبوا فى الاستيلاء عليها وتشريد أهلها من الصيادين البسطاء، آنذاك وقف عبلة مع الأهالي، وتبنى قضيتهم فى وسائل الإعلام ونجح بأساليب نضالية مبتكرة فى استصدار أحكام قضائية تحفظ حق هؤلاء البسطاء، ويؤكد عبلة أن تضامنه لم يكن مجانيا فهو من يسكن فى الجزيرة منذ سنوات ويزرع قطعة صغيرة من الأرض تجاوره بيته ومرسمه لكن تجربة «القرصاية» كما يؤمن أكدت له الإيمان أن الفن بإمكانه أن يكون «رسالة» أو أداة احتجاجية متذكرا كيف وقف والأصدقاء وراء تنظيم سلسلة من الحفلات الغنائية والعروض التشكيلية وفنون الفيديو آرت، وهذه المهرجانات التضامنية مع الصياديين جذبت شخصيات عامة وفنانين كباراً قدموا ما لديهم من أجل «نصرة الحق» دون أن يعتدوا على أحد، حتى أنهم أطلقوا فى سماء القاهرة بالونات تحمل عبارات احتجاج، وبطبيعة الحال لم يتمكن رجال مباحث أمن الدولة من ملاحقتها وحل شفراتها لأنهم كانوا بلا خيال فى وقت امتلكنا نحن الحق مدعوما بقوة الخيال.

الطريق إلى التحرير: من أحدث أعمال محمد عبلة

ينفر محمد عبلة من فكرة العرض فى أماكن مغلقة، غير أنه فى الوقت الحالى لا يملك بديلا لها غير الذهاب بلوحاته إلى الناس «لم أندمج أبدا مع فكرة العرض فى صالات ضيقة، وكنت أعتبر أن أجمل ما فيها كونها توفر لى أموالا أنفقها على الفن ليكون فى خدمة المجتمع» وهنا يشير عبلة إلى تجربته فى تأسيس متحف الكاريكاتير فى مدينة الفيوم «على بعد 100 كيلومتر من القاهرة» ومركز للفنون هناك فى قلب الريف يأتى إليه فنانون من كل أنحاء العالم بهدف العمل والتعارف الحر، تجربة يرى عبلة أنها تمكنه من البحث عن صدى للأشياء التى يفعلها لأن السعادة كما يراها «تستمد من النتيجة التى تجدها على الأرض».
منذ طفولته فى قرية بلقاس ـ المنصورة بدلتا مصر «نحو 230 كيلو مترا من القاهرة» والجميع ينظر إليه كطفل متمرد ويرتاح هو إلى هذه النظرة ويجد فى مسيرته ما يؤكدها «طوال 40 عاما من الرسم، اكتشفت أننى فى صدام دائما مع أية محاولة لتصنيف رسمى أو أفكاري، فكل يوم أبحث عن فكرة أو مسار جديد، ففى اعتقادى أن أى فنان يتقولب استجابة لشرط السوق أو لإرضاء الناس من حوله ينتهى وهو يشبع رغبات الزبون، وشخصيا ليست لدى رغبات من هذا النوع وأفضل الانحياز إلى كسر التوقعات، فأنا لست أكثر من مبشر، على أن أكتشف مناطق فى الفن والحياة ليأتى بعدى من يكملها وربما هذا الإيمان يفسر انخراطى الدائم فى ورش عمل مع الشباب، بأمل أن أحقق معهم مالم يحققه لى أساتذتى فقد حرمت من رعاية الكبار ومن خلال تلك التجارب تأتى المغامرة والفكرة الطازجة».

[print_gllr id=1048]
يجد محمد عبلة فى السؤال عن مدى انسجامه مع فكرة الحداثة، سؤالا لا معنى له، فالحداثة من وجهة نظره، لا ترتبط بالتقنية وإنما بالسياق الزمني، فحداثة اللوحة مهما كانت تجلياتها المباشرة مصدرها قدرتها فى التعبير عن زمن إنجازها والسياق الذى تولد فيه ومن شفرة تواصلها مع العالم ويقول: «فى غياب نقد حقيقى وموضوعي، على الفنان أن يملك إيمانا بما يفعله».
فى اللوحات التى أنجزها فى السنوات العشر الأخيرة يجد محمد عبلة الكثير من تقنيات «الجرافيتي» وهو أمر يبدو غريبا الآن، خصوصاً وأن الكثير منها تضمن شعارات كتلك التى كتبها ثوار ميدان التحرير لكنه لم ينجح فى إقناع مديرى صالات العرض بتقديمها فى معارض عامة، فى اللوحات كذلك وجوه لرجال أمن وجنود الأمن المركزي، التى لا يمكن تفادى الألم والسخط فيها، فى حديثه معى يرى عبلة أنه مارس الجرافيتى كفعل على لوحاته منذ وقت مبكر، فقد أدرك فعاليته خلال سنوات العيش فى أوروبا أوائل الثمانينيات، لكنه لم يمارسه على النحو الذى عاشه هناك قائلا «فنان الجرافيتى فى الغرب يريد الاحتجاج بتشويه الجمال البارد ومواجهة الزيف والتنميط وبالتالى فهو عمل ثورى من وجه نظر صاحبه، أما فى عالمنا العربى فالكثير من الشوارع لم تعد بحاجة إلى التشوهات فهى مشوهة بما يكفى وفى أحيان كثيرة يأتى الجرافيتى ليجملها بعمله ويخفف من قبحها وبالتالى يفقد هذا الفن الكثير من قيمته الدلالية، وبالتالى لم أعتبر الجرافيتى ممارسة ثورية وربما كنت أحتج بها على نفسى وعلى ذوق الملتقى أو مقتنى لوحاتى التى ظلت رغم ذلك صرخات مكتومة ، وعندما حدثت الثورة الحقيقية كانت المشاهد الحية أقوى من الجرافيتى الذى وثقها وأرخ لها».
عندما أسأل محمد عبلة عن سنوات طفولته وتأثيرها يردنى إلى الأعوام التى تلت ثورة يوليو 1952 قائلا: «كان الوعى بالثورة وأهدافها جزءاً من تكوينى ولا أزال أذكر أحاديث أبى عن مقاومة مصر للعدوان الثلاثى وصورة رئيس مجلس المدينة سعد عياد وملامحه وهو يمشى معنا فى شوارع بلقاس ليكنسها مع طلاب المدارس، فالجميع كان مؤمنا بجدوى ما يفعله لدعم جمال عبد الناصر بما فى ذلك أبى التاجر الصغير لمحصول القطن والذى تضرر من إجراءات الثورة فى التأميم والإصلاح الزراعى لكنه ظل على إيمانه بحلم التحرر وهو إيمان قاد العائلة معه إلى كوارث مالية أخري، فعندما عمل بالبناء اندلعت حرب يونيو – حزيران وبدأت الدولة توجه كل صناعة البناء للمجهود الحربى وفى السبعينيات ذهب للعمل كمقاول فى ليبيا لكن القذافى أوقف شركته عن العمل فى ذروة الصدام مع السادات».
كل هذه التغييرات الحادة والمتلاحقة صنعت لمحمد عبلة وعيه الخاص بمفهوم الثورة وبقضايا المجتمع ربما بأثر من محاضرات التثقيف فى منظمة الشباب أو من المناخ الذى عاشه فى مدينته الأولى التى كانت تملك مكتبة عامة ومسرحا ودار عرض سينمائى وتصدر جريدة محلية، واللافت للنظر أن هذا المناخ على ثرائه الكبير لم يمكن عبلة من القيام بعبور آمن إلى الجامعة، حيث التحق بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية ضد رغبة والده الذى قال له «لن أنفق عليك مليما فى كلية لا يوجد مستقبل لخريجيها» لكن عبلة قبل التحدى وفى الجامعة التى كانت قد خرجت للتو من حركة طلابية غنية فى العام 1972، لم يجد وهو يخطو خطواته الأولى غير مناخ استقطابى بين قوى اليسار وقوى الجماعات الإسلامية التى كانت قد بدأت تسيطر على المشهد بدعم واضح من الرئيس السادات الذى كان يمضى باتجاه توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979، لكن هذه الأجواء المتوترة لم تحرم عبلة من فرص التعلم على أساتذة كبار، أبرزهم سيف وانلى 1906 – 1979 وماهر رائف 1919 – 1999 فالأول هو الأكثر تأثيرا على الصعيد الفنى بينما كان الثانى مؤثرا على الصعيد الفكرى إذ لعب دورا يقارب الدور الذى لعبه لويس عوض فى تعليم وتثقيف جيل الخمسينيات فى جامعة القاهرة وبفضله اندفع للاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية وتعلم اللغتين الإسبانية والألمانية ليدرك مصادر الثقافة التى كان رائف مشبعا بها من دون تخلٍ عن هويته العربية والإسلامية.

يتذكر عبلة أن هذا المناخ المحموم فى الجامعة جعله يشعر بالانتماء إلى الأفكار والانفتاح على كل القوى السياسية من دون قيد وبصورة مكنته من التمتع باستقلال نسبى لم يمنعه من اعتناق البهائية لمدة عام أو من الانخراط فى قراءة عن البوذية وممارسة اليوجا وتعاليمها والدخول فى تجارب للتأمل فى قلب الطبيعة، وهى تجارب لا تزال غنية كما يعتقد، فبفضلها جرى التعرف على فلسفات مهمة، والاعتياد على الانسجام مع الطبيعة ومفرداتها لكن هذا الانخراط لم يدم طويلا بفضل تجربة «موت لحظي» مر بها عبلة بعد استنشاق غاز البوتاجاز وهى برهة مكنته من تأمل حياته وهو خارجها ليعود إلى الحياة وهو يرفع شعار «اذهب حيث يقود قلبك» وبفضل تلك اللحظة صنع عبلة خريطة فكرية قادته لمسيرة آمن فيها بالحكمة القائلة «لكى تعرف لابد وأن تكون مستعدا لدفع الثمن».
أثمان غالية دفعها محمد عبلة ليصل إلى مرحلة التكريس التى لا ينكرها الآن، بدأت بفقر مدقع عاشه فى بداية مجيئه للقاهرة عام 1979 دفعه لأن يكون أكثر جدية فى التعامل مع حياته، إذ واصل سنوات دراسته معتمدا على دخله الذاتى ودون مساعدة من عائلته ولذلك عمل «دهان حوائط» ومصمم لوحات استرشادية تعليمية لطلاب المدارس ورسام مناظر فى الشوارع وعازف ترومبيت صامت مع فرقة أفراح شعبية إلى أن التحق بخدمة العلم فى القاهرة، حيث خدم على قمة جبل المقطم لعام تمكن خلاله من رؤية القاهرة من أعلى نقطة فيها وهى رؤية غلفت لوحاته عن المدينة بعد ذلك، وعلى الرغم من صعوبة هذه السنوات فإن المعرض الأول لمحمد عبلة وجد استقبالا استثنائيا وكتب عنه بيكار وكمال الملاخ وفتحى أحمد وهم رموز النقد التشكيلى فى تلك السنوات وذاق صاحبه لأول مرة طعم الكسب من وراء الفن إذ بيعت معظم لوحاته بأسعار حددها له الفنان الكبير حامد ندا الذى قال له يومها «إيدك حلوة»، لكن هذا الاستقبال الدافئ لم يمنع عبلة من التشكك فى نوايا القاهرة التى لم يألف أجواءها بسرعة على الرغم من أن خطواته قادته إلى مقهى زهرة البستان، إذ تعرف هناك على رموز الحياة الثقافية وانفتحت أمامه أبواب المدينة التى كانت موحشة لكن وحشتها ضاعت حين قارنها بوحشة مدريد التى ذهب إليها بفضل منح دراسية حصل عليها من المركز الثقافى الإسبانى بالقاهرة.
فى إسبانيا وجد عبلة أن المنحة التى جاء من أجلها لن تضيف له الكثير، فأنفق معظم وقته متجولا يرسم فى الشوارع ويعيش من عائد مهنته إلى أن تمكن من تدبير فرصة للسفر وطواف أوروبا بالقطار حتى استقر فى ألمانيا التى يراها محطة مهمة فى مسيرته، حيث أقام فى العام 1979 أول معرض له هناك وتمكن بفضل عائداته من تدبير أموال لإيجار شقة والتفرغ للفن لمدة عامين كاملين وخلال تلك الفترة استطاع محمد عبلة السفر إلى النمسا لدراسة «الجرافيك» ثم سافر إلى سويسرا ودرس هناك علم النفس، وكان أول أجنبى يفتتح عيادة للعلاج بالرسم، ظل يعمل فيها لنحو عام ونصف العام حتى قرر بعدها العودة إلى القاهرة فى العام 1985 بعد أن أنجبت زوجته السويسرية ابنه الأكبر إبراهيم .
ويفسر عبلة قرار العودة ببساطة يحسد عليها «عدت لأنى لم أحب أن يربى ابنى خارج بلده» كما أن علاقتى بالغرب لم تكن قائمة على الدونية لأشعر بعقد تفوقه، فقد وجدت استقبالا إيجابيا كفنان عربى لأنى قبلت بمفهوم الاندماج وعشت بحرية كاملة وفهمت طبيعة الحياة العملية هناك دون التخلى عن خصوصيتى كفنان قادم من حضارة مختلفة وإلى الآن ليس لدى إحساس بالندم لأنى أستطيع العودة إلى أوروبا متى رغبت فى ذلك».

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات