بار توماس

06:09 مساءً الأحد 18 نوفمبر 2012
حسين عبد الرحيم

حسين عبد الرحيم

روائي وكاتب وصحفي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

من رواية: بار توماس

 

فصل (1 )

 

الشحاذ

 

كنا قد تواعدنا لأكثر من خمس مرات بغيه أن نتقابل. ونتناقش ، هو مخرج كبير بلا شك. على الأقل من وجهه نظرى الشخصية المتواضعة حسام الدين صاصا الذى درس الإخراخ بأمريكا، ولكنه وعندما عاد إلى مصر فى منتصف الخمسينيات قرر أن يخُْرج ما يروق له. أوقل مايتماشى مع بعض طموحاته ــ ولانه كان قد أخرج أكثر من عشرة أفلام صنفت فى خانه أفلام الحركه من قبل بعض النقاد المتواضعين فقد وضع على رأس قائمه مخرجى الأكشن، الأن صرت أستدعى اول لقاء تم بيننا لن أقول ــ الصدفة هى السبب وإلا أكون قد بدأت مشروعى كمؤلف بكذبة دنيئه ، أو إدعاء رخيص لم يعد مجدياً فى زمنى هذا،، أحببت حسام فى صغرى دون شك، ولن أجامل إذا قلت انه كان يمثل لى مثلاً أعلى فى أولى خطواتي فى طريق الكتابة،لُقب ( بشجيع السيما ) لايهم البورسعيدى المهياص أو المظراب ــ سخافة مرفوضه ، المهم أنه كان الفارس الهمام بالنسبه لشخص مثلى مُحب للسينما ، كنت قد تعمدت أن اسعى لمقابلته عندما ذهب إلى مركز الثقافة السينمائية بشارع شريف وقابلنى يومها المؤلف الطيب الراحل أحمد عبد الوهاب قائلاً بحنو و ود ـــ ( أهو صاحبك البورسعيدى جاى الإسبوع ده يا بطل ــ هنعرض له الشحاذ) حضرت عرض الفليم ، وبمجرد أن أسودت الصاله وأضيئت شاشة العرض ، وأنا ألهث وراء البطل الذى سمى فى النص الأدبى وجودى..؟! ــ يبحث عن ذاته ليل نهار..؟! ومن خلال الملذات ــ السهر ومرافقة النساء كل ليله ــ كنت أرانى وأنا أحدق فى عيون بطلاته الذى كان يطاردهن فى البارات. وكل ليلة يفوز بواحدة أكثر ضياعاً ورخاوة مما قبلها. طالت قعدتى صامتاً ولأكثر من ساعتين ، كان حسام صاصا قد دخل العرض من البدايه ــ وتعمدت أن أحدق بوجهه عندما سمعت صرير الأبواب الخلفية. وظهر سكرتير الجمعيه بصحبه أحمد عبد الوهاب الذى نادى بصوت خفيض، إتفضل يا أستاذ حسام ، إلتفت للخلف أرقب المشهد ، وأتأكد من ملامحة التى لم أرها من قبل إلا من خلال صفحات الفن وأخبارة، كان لم يزل يحمل نفس السمات . الوجه العظمى البيضاوى والعيون الضيقة الحائرة فى محجريها وشعره الأشعت المتدلى خلف قفاه النحيل المعروق المحجوب خلف الجاكيت الكاوبوى الأمريكى ماركه Lee ــ وكان كل هذا التدقيق كفيل بتركه من ناحيتى بعدما تأكدت أنه صورة طبق الأصل من صورته التى قطعتها من إحدى أعداد مجلات

“المصور” القديمة ، ــ فى غبشة الضوء ــ ظهرت بجانبه أنثى، أشار لها الأستاذ أحمد بالدخول فضربت ذراعها الأيسر فى يد حسام ودون أن تلتفت ودون درايه منى ودون توقع. رأيتها ترمقنى كونى كنت الوحيد الذى ترك شاشة العرض وإلتفت للوراء لتتبين وتراقب من هذا الذى دخل صاله العرض بعد أن دارت الماكينة المسلطه قِبل الشاشه البيضاء ،

ــ عفواً السادة الحضور ــ أسفين على الإزعاج ( الأستاذ حسام الدين صاصا حضر وهيشوف الفيلم معاكم ) تابعت الفيلم بإهتمام ، من ملهى لآخر. ومن فتاة ليل لأخرى ــ عين ترقب شاشة العرض والأخرى ترصد حركة الأنثى ــ الجالسه بجانب المخرج محاطه بهاله من التقديس والنورانيه الغير مفتعله بعد مرور الساعتين حاولت أن استجمع حواسى لعلى أفوز بمعني واضح أو تفسير أوضح لتلك الخواء الذى ظهرت به وعليه بطلات الشحاذ ، حتى طريقه توزيع الإضاءة على شخوص الفيلم كانت فاترة وشبه هلاميه وكأن حاله اللايقين  ــ أو اليقين المراوغ كانت واضحه تصبغ كل مشهد ــ بل كل لقطه فى الفيلم ــ إلا أن مشهد الفينال ــ كان أكثر من رائع ، متماهى مع ذاتى كثيراً، من الضوء الأبيض مع الأسود المسلط على وجه البطل الباحث عن ربة .. راكضاً للخلف يزحف بمقعدته فى شبه برارى مجهوله ، صفقت وزاد تصفيق الحضور من خلفى ، وبدأت الندوة ، ووجدتنى وقد صرت أحدق لرفيقته فى الصاله ، والتى لم تنبس بحرف واحد منذ دخولها القاعة ، أخيراً ضحكت برقة غير مصطنعة ، وأعتلت المنصه لتجلس بجانبه وبدأت الندوة ، طللت فى وجوه الجالسين بحرص وكياسه عكس ما تعودت ، ورأيتها تضحك فى وجهى عندما التقت عيوننا فجأة أو بتعمد من ناحيتنا سوياً ،

قدمة أحمد عبد الوهاب للحضور ، وزاد التصفيق وتقدمت الصفوف فجاءت قعدتى بمواجهه الإستيتج التى أُقيمت فوقه الندوة ، برقت فى عينى .. تلك الرقيقة الطيبة ــ أو الواضحه على ما يبدو ــ وسمعتها توجه لى السؤال الذى حيرنى وجعلنى أكثر خجلاً مما هو معروف عنى ــ أوما أعرفه عن نفسى قالت

ــ ( واضح إن الفيلم عاجبك )

صمتُ … وطال الصمت ـــ ورأيت المخرج يرقبنى بتعمد وقد أنهى نظرته بضحكه من القلب تنم عن شعورة بالإمتلاء والثقة فى النفس، خرج المؤلف وهو المعني على الدوام بإدارة الندوة ، خرج عن صمته وترك بشاشته ، ليفضح صمتى المستور خلف خجل حقيقى عانيت منه كثيراً فى بدايه مشوارى فى الكتابه قال المؤلف ــ ( إللى حضرتك متعرفوش يا حسام بيه إن حسين عبد الرحيم بورسعيدى ــ ودارس سيناريو وجه النهاردة عشان يتعرف عليك ، ياريت نبدأ بـــ حسين

ــ قال صاصا ــ ودا شىء أكيد هيسعدنى أنا شخصياً ،

وقفت وكلى ثقه أعدد مساوئ الفيلم وحسناته التى كثرت مع زيادة تسليط الأضواء على شخوص هشه بالفعل ــ داخل الشريط السينمائى ومن الممكن أن تكون خارجه أيضاً ، وقفت قريباً من الميكروفون الذى قربه إلى أحمد عبد الوهاب  فأخذتنى العزة والكبرياء وقلت على مسمع الحضور سأتحدث دون مايك ،، الصاله كانت صغيرة تتسع لحوالى خمسون مشاهداً ،

قلت . ما أجمل شحاذك وهو يخرج بشكل نسبى مما رسمة وخطط له أو حطه مؤلفه ــ كاتب ــ أو صاحب النص الأدبى ــ ( عن نفسى ودون أدنى مجامله أعجبنى الفيلم ، وليس وحدة ( الشحاذ ) ولكنه ــ ولكننى عفواً سيدى أراه مكملاً لحواس عيسى الدباغ فى السمان والخريف ــ هناك عدة طرقات فى نفس المضمار ــ وهذا رأيى الشخصى ودون أدنى مجامله ــ الشحاذ طرقه أولى ــ فى سكه ضياع البطل المنتمى واللامنتمى ــ والسمان والخريف هو منتهى آلام بطلك ــ لن أقول أن صابر سيد الرحيمى هو المنفصل عنهما ــ ولكنه كان ولم يزل بالنسبه لشخصى المتواضع هو الخارج من أحشاء الفجيعة ، والإنفلات المسمى دنس من قِبل الرائى لأحوال الأم ــ أم صابر سيد الرحيمى ــ التى لم تخشى المجاهرة بالسوءً ،، ووجدتنى أنظر فى ساعه يدى خلسة ــ ورمقنى المؤلف ــ ليعقب ووجهه ناحيه الحضور عفواً يا سادة ــ كمل يا حسين؟!

كنت قد ايقنت وبما لايدع مجالاً للشك أننى أصبت الهدف ــ طرحت بعض المفردات الفلسفية التى جاءت على هوى الأستاذ المخرج وأرضت غرورة ،  انطلقت أعدد كم الألام ــ التى شعرت بها وأنا أتابع وعلى الدوام مشاهدة هذه الأفلام تحديداً ـــ الثلاثة ، ” السمان والخريف ” ” الشحاذ ” ” الطريق ” كان قد زاد إرتجالى وتوترى وكأننى أتحدث عن نفسى، أحكى عنها أقبض على ذاتى وهواجسى .. وجودى ؟! ماذا فعل بك الوجود ــ  وماذا فعلت أنت فى الوجود .. وهل أنت موجود بالفعل ….؟! وكيف طُرحت الأقدار رؤاها أو أفكارها أو حواجزها فى سكك أو مسارات بطلها الباحث عن جدوى وملاذ فى حياة عابثة ،

صفق الجميع دون استثناء ، وأعتذرت مرات ثلاث عن الإطاله ــ وأعقب صمتى وجلوسى على مقعدى أكثر من مداخله تشابكت مع ذروة الفيلم ، وموضوعة. الوجود وحيرة الإنسان مع الأقدار وماهيه الخطى وكيف تتحدد المسارات ،ساعة ونصف وقت أُ ضيف على ساعتين العرض ، الثلاث ساعات ونصف الذى أنقضوا فى المشاهدة وما قيل فى الندوة كانت الدنيا قد صارت جميله . وتمددت جسور . وتجل ثمة تناغم لتحاور من نوع يحمل حميمه ما ، بل باتت التربه أو أرضية الحوار ممهدة ، للقفز فى مناطق أخرى بينى وبين حسام الدين صاصا، الذى ترك كرسيه وهبط من أعلى الإستيتج تتقدمه رفيقته مبتسمه تطل فى وجهى بحبور غير مفتعل ، ترجل من خلفى ليضع أصابع كفه الأيمن على كتفى مردداً بود ــ واضح إنك قارىء النصوص كويس. وعاجبك السمان والخريف أكثر، ولا ليك رأى تانى يا سحس

ــ هى دى الحقيقة يا أستاذ

التفِت إلي يتفحصنى وكأننى وجه جديد يريد تقديمه للعالم. أو العالم يعرفه ويحبه. بل ويحترمه هو شخصياً

ــ وإنت بتكتب أدب ؟

ــ بكتب أدب ،

ــ ( روايه ــ وأحياناً قصة )

ــ ( ياريت أشوف إنتاجك ؟!! )

 فاتت سنوات . وكل يوم استعيد ما جرى

صاصا ساكن فى االزمالك ــ فى شارع السراى. قريباً من ( بار توماس ) ، ( بار توماس ) فى شارع 26 يوليو ــ ( وجريمة فى الحى الهادى ) ؟!! وشوارع ضاحيه الزمالك المتناغمة ــ عشر سنوات مروا منذ أول لقاء مع الشحاذ و كلما انتهيت من كتابه نص جديد هاتفته

ــ مساء الخير يا أستاذ ،

ــ مساء الفل . إزيك يا حسين ( إيه مش هشوفك )

ــ شاهدت لك اليوم جريمة فى الحى الهادى

ــ إيه بتكتب إيه فى الأيام دى ــ

ــ بكتب حاجات كتير . لكن للأسف ـ ما زلت أبحث عن بطلى ــ أو قل نفسى ــ يصمت ــ وأضيف وسماعة الهاتف على أذنى اليسرى مركوناً بكوعى على شباك النافذة المطله على ميدان العباسية ، وقت الغروب …. ضاحية الزمالك جميلة، الشرفات فاتنه ، والنوافذ الزجاجية المغلقة حبلى بألأسرار

فى وهج ضوء أبيض خافت .. ؟! ضوء أحمر متوهج ، مرشحات ضوئيه وظلال … ثمة ذوابان لأطياف لونيه . كونيه ، نفسيه ، روحيه ،حُلمية … تنادينى من هناك .. تدعونى بالتلميح ، تناجينى . تلُح عليه النداءات بلا صوت أشبه بنفحات تحرك ثمة حنين وذكريات ، وسياط تلهب جسدىوتتجلى روحى من جديد قرب شرفات بعيدة .. هناك ؟!.. نعم هناك ، الضوء الهارب يلقى بظلاله فتتمدد الستائر الأِرجوانيه ،القرمزية الحمراء . البيضاء . السوداء . وتنسدل الستائر فتغلق النوافذ على مرمى بصري ، وتستقوى علي الحواجز وتتعالى الجدران فألتفت منهكاً الحواس ، أبحث عن دار ، ومنزله ..؟! ( ومنزلاً ……. كان هناك ومنزلهً ترجى من الآت …….. ) ،،

ــ  (بار توماس ) ــ الفيلم واكل حته من روحى يا أستاذ

ــ إنت بتحب الزمالك.

ــ لأ ــ حبيت الكونستابل اللى كان بيطارد المجرم فى شوارع نظيفة ــ أد إيه كان فيه إحساس بالقيمه

ــ قيمة الناس . ولا قيمة المخرج .

ــ وباغتنى بالسؤال،

ــ ( خلصت موضوعك القديم الذى حكيت عنه معي منذ عامين )

ــ ( بار توماس يا أستاذ ) هو ده اسم روايتى الجديدة ،

ــ ( وده لية ــ ولا ” لجون ” صاحبك ،

ــ جون بيصور ( اسكندريه كمان وكمان )؟!!

وأعتذرت على الفور للإطاله ــ خاصه وأننى قد رنا إلى سمعى أن هناك من يقف بجانبه ويتكلم بصوت خفيض وأحسست بصوته يخشوشن ويصير أكثر جديه ، مؤكداً

ــ ماشى يا حسين ، أصل ــ موعد دروس الأولاد الأن ، عفواً نتكلم بعدين ، ( وخلصّ الرواية )

ــ شكراً يا جان ــ اعطينى فرصه شهرين ــ هزور بار توماس

ــ براحتك،

تذكرت ما حدث فى بار تو ماس وتلك الليلة الغرائبية التى جمعتنى بتلك الكاتبة الألمانية والتى تعرفت عليها فى مكتبة  ( ديوان ) تذكرت كيف كنا نتحدث . وهناك ثمة هواجس كانت قد طفت فجأة تصبغ ملامح وجهها البديع الزائب فى الشقار … ورغم كل هذا إلا أن الأحاديث والحوارات بيننا قد طالت ، تحت ظلال الأشجار القاتمه الموازية للأرصفة الرمادية قِبل نيل الزمالك وتختتم الليلة الليلاء داخل ( بار توماس)  فيا لها من ليلة …. ويا له من ضوء هارب تمدد بظل شاحب . خاتلنى وهالنى وأنا جالس ليلتها على البار وكاسات البلاك هورس ترسم على شفاهها قوس قذح يتمازج فيه الأُرجوانى والقرمزى . وهذا الأصفر البشع الذى كسى سحنتى المطبوع على صفحة المرأة الثقيله على جدران بار توماس.

 

فصل ( 2 )

وجود؟!!

 

براحتك … براحتك ….؟!

وأى راحه تلك التى تسعى إليها.

“عيسى الدباغ” انت ..؟! لا .. عيسى الدباغ كنت .. نعم ، فى الصغر فى صباى كنت شحاذا ــ اتسول العطف بالعذاب ــ اشتريه فمن يبيع . أنا عمر بلا شباب وحياة بلا مستقر ، مشتت أنا. ليتنى عيسى .؟!! . خرجت من عند صاصا وقت الغروب تذكرت هيئتة فى عدة لقاءات مضت ، اشفقت عليه ، أشفقت عليه أم على نفسى

مشتت انت بين واقعك الذى تحياة ، وماضيك البائس ، تفاصيل كثيرة هى التى لا يعرفها عنك حسام الدين صاصا ــ فأى الأشياء تُرى سوف تدفعك للكتابه عن وجودك . ماضيك الأليم، طبيعة عملك الأنى ، والتى لا تجهر بها ولا يعلم عنها أحداً أية تفاصيل ــ معاون إدارى؟!..  مضطرا .ً مندفعاً وراء النسيان قبُلت بها. موظف ، يمضى ويختم أوراق الموتى . رقيب على مشرحة مستشفى أحمد ماهر ترقُب الموتى. تحوطك الكلاب الضاله كل ليله احادث نفسى ،

ــ عن أى الأشياء ستكتب ، وكيف ستكون روايتك الجديدة ، عن من ستدون كل من تحمله من ذكريات ومواقف وأحداث وأحاديث طويله مضت ولم تنقطع،

ــ قُل أنت يا عبد الرحيم! ماذا يمثل لك البحر

ــ ( بحر بورسعيد ) يا أستاذ نجيب دنيا تانية بلاد غريبة ، وموانئ عديدة بلا شطوط . بلا ضفاف . بلا شطآن ،

ــ .. ( هناك مشيت يصحبنى أبى ، رحلة يوميه ، الأولى بعد الفجر والثانية قبل المغيب يحدثنى بوعى وبثقه العارف

عارف يا اد يا حسين ،

عبد الناصر سكن فى الكابينة دى لمدة ست ساعات مع عبد الحكيم عامر بعد رحيل العدوان الثلاثى فى 56

ــ عارف يا حسين ( عبد الناصر كان رجل وطنى شريف لكنه إنخدع)

ــ إنخدع ولا خدع الناس يا أبا ــ

أحاور نفسى ، أجتر ــ شريط سينمائى مفتوح على الماضى القريب والبعيد ،

وأنت تسائل نفسك ، تثرثر كثيراً دون جدوى ،

ــ عن أى الأشياء ستكتب ، زادت الظلمة وتخطت عقارب الساعه الثامنه مساءً ، وأنا مازلت جالساً أرقب الكبائن البعيدة على الضفه الأخرى من كورنيش العجوزة ، أمام مسرح البالون.

كانت الكبائن قد أطلقت ثمة أنوار مريبه ،غبشه ضوء أحمر ضبابى وثمة إمرأة فى إسدال أسود تصعد درجات السلم قاصدة العوامة الوسطى . أحدق دون جدوى اردد فى نفسى ــ هل هناك أحد فى الداخل قد ودعته هذه المرأة ،  فجأة صرخَت وكان الصراخ مدوياً ، نهضت واقفاً فوق الجسر المؤدىلساقيه الصاوى بت أرتجف مستسلماً لهوى الخريف فعن عن الأشياء ستكتب . عن أى نفس، وعن أى روح وكيف كانت المسيرة والمسار ، والمنتهى ، وهل هناك نهايه لهذه الرحلة الطويله ، ثمة محطات عديدة متناقضة فى سيرة حياتك أيها الجوزائى المتردد، جئت …؟!!

لا أعلم من أين.

ــ إبن أى زمن أنت.

أين ولدت . وكيف كانت الرحله ،

تحمل غيوم عيسى ــ دباغ.. ضبابي  الملامح شارداًً ترقب أنفاسك ولا تحصى مكنونها ولا تجلياتها، ولكنك تسعى . فى الأرض . فى المهد . طفوله وصبا وشباب ورجوله ــ وأزمنة منتصف العمر عبرت منذ سنوات ست . وما زلت متناقضاً ولكنك تعى ما تريد .. دائخ أنت تترنح  أمك هناك . وأبيك وأشقاءك ، شقيقاتك المرضى … بل مئات المرضى ــ هناك يرقدون فى عنابر مستشفى أحمد ماهر فى باب الخلق ،

أطل فى مرآة السيارات العابرة ، الواقفة فوق كوبرى الزمالك ، مخنوق تجتر ، تعود للماضى ، أحاول القبض على ثمة يقين نافع يصلح دليلاً فى خطى دربى ، وعمرى رحلاتى الملموسه سعيي ــ مسعاى .. دون جدوى . مشتتاً أُزهقت نفسى من نفسى ،،

ترجل. فكم ترجلت ،

أربعه وأربعون عاماً من عمرك ، سته وأربعون ، مائة وأربعون يا انسان  مشيت ، منذ ساعة وأنا أمشى من شارع السراى الموازى لكورنيش الزمالك حتى صعودى للكوبرى الحديدى المؤدى لساقية الصاوى

جسدى ينتفض يراودنى هوى الفصول الأربعة رغم ركضى وومسيرى فى الخريف وقت المغيب أحدق فى شرفات عاليه بضاحيه الزمالك ، شرفات لا اعرفها ولا أعرف سكانها. ثمة ونس بعيد … بعيد … ملابس أطفال قرمزيه وبرتقاليه ونبيذيه اللون معلقه فى مشاجب صلبه فى العُلا يطوحها هوى الزمالك بشرفاته الخاليه مفتوحه على رب السماء الرماديه الغامقه دنوت اجلس قرب الرابيه . المنخفضه قبل الكبائن الخشبيه ، ها هى العوامة70 ، كثرت الثرثرة وأنا جالس القرفصاء شارداً أحادث نفسى لعلها تستجيب تنطق بالمكنون الفعلى الراقد والمنسي  ، ارقب ما يدور فى الكبائن ، هنا كان يرقد عيسى الدباغ فى زمن آخر مضى ، تذكرت الأستاذ،

ــ قولى يا نجيب بية ما هو الفارق بين النيل والبحر كتبت عن الأسكندرية فى( ميرامار ) ( الشحاذ )  والسمان والخريف ، وشهد النيل وكبائنه ثرثراتك مع الرفاق ،

( قُلى انت يا عبد الرحيم ؟)

ــ البحر دنيا تانيه يا عم نجيب ،

النيل محفوظ ، وأنا مولود فى بحر بورسعيدى المولد كنت ولم أزل . وسأظل

حدثنا عن عيسى الدباغ يا أستاذ

عيسى الذى لم يكُتب بعد ،

وسقطت الشمس فى جبها الغميق وأنا مازلت قاعداً فوق التراب أطل للعوامة ( 70 ) وأتذكر حديث الأستاذ

هتكتب عن أيه يا حسين

ــ وجودى ؟!!

عيسى الدباغ كان مكهفراً على الدوام

وريرى . ريرى لم تكن داعرة.

وهذه الطفلة البديعة الذى صرخت على اسفلت كورنيش الأسكندرية بالقرب من ميدان مصطفى كامل ،  لم تكن غواية ، ولا خطيئة ــ كان مثالاً و ثمة رمزاً . رمز طرحه القدر او قل عبثاً تجلى به القدر وخلته مجازاً  يخرج مكنون عيسى من شرودة ورقدته الطويلة مع أفكارة ،

ــ اكتب يا ابن عبد الرحيم

عن ريرى ، عن الأستاذ ، أصداء السيرة الذاتية ، أحلام فترة النقاهه ، عمرك ، عمرك انت يا بن عبد الرحيم ، صفحة النيل تطفح بالسواد ، لم يكن الماء أبيضاً ، لم يكن النيل نجاشي ، لم يعد صريحاً. طريداً  أنا بُت ، مستسلماً لسيرتى وذكرياتى وهواجسى وتقلباتى . وتناقضاتى  فى أمكنتى وكافه حوادثى فى الزمان والعديد من الأمكنه ، عدد محطاتك ، عشرون عاماً فى بورسعيد وثلاثه وعشرون فى القاهرة.

فأى سيرة ستكتب ، ؟!!

التفت أطل لمكاني من فوق الكوبرى 

استند بكوعى على الساتر الحديدى ، احدق لعمق النيل الغامق .. اخاطب نفسى هل تفكر فى الإنتحار راودتنى الفكرة كثيراً.

ولكنى وللأسف عاشق للحياة،

عفواً ـــ فمن عرف جلال الموت . لهو قادراً على القبض على لألئ الحياة وإستنطاق جواهرها .

 

                                 ****************

 

رنه الموبايل نبهتني لفحوىالمكالمة ، (حسين أنت فين ) . تعالى ضرورى الأستاذ شفيع مشى تعب فجأة لازم تيجى المستشفى أنت نوبتجى الليله،

جريت فوق الكوبرى ألوم نفسى كان ضرورى تعّرف الأستاذ حسام بطبيعه عملك الوظيفى ، معاون إدارى ترافق الموتى على الدوام حاولت ان أوقف الباص المتجه إلى بولاق أبو العلا حدقت لعقارب ساعتى

كان العقرب القصير الممتلئ قد تخطى التاسعه بردان أنا . صرت اتحسس ركبتى قدمي اللاابدة فى الحذاء الكرب البنُى،

كانت السيارات تنطلق على الأسفلت الأسود دون توقف ليأتينى صدى إصطاك الإطارات بخشونة الطريق الغير متساو،

جريت ، فجريت حتى طال ركضى حتى وصلت محطه الإسعاف فى تمام التاسعه وخمسه عشر دقيقة

ركبت الأوتوبيس المتجهه إلى السيدة قاصداً مستشفى أحمد ماهر ، اشعلت سيجارتى الأخيرة فوق المقعد الأخير الخالى أخر الأوتوبيس كان الكمسرى منهمكاً فى إحصاء نقودة الورقيه طارداً النوم من عينية متحسساً جبينة كان يرقبنى من بعيد متواطئاً ناظراً نحوى بحنو مفرط وقد حدق يتفحص هيئتى وملابسى الباليه بدله كاوبوى زرقاء اسفلها قميص كاروهات أخضر يشبة بطانية من الصوف الرخيص، جهه عابدين وعندما فارق الأوتوبيس قصر عابدين طللت انظر لشارع بورسعيد من بعيد. الشارع شبه خالى . إلا من بعض الشباب العاملين بالبورصه وقد جلسوا على رصيف مقهى “التجاريه” يلعبون الدومينو وشفاههم تقبض على مباسم النراجيل.

  

One Response to بار توماس

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات