ادبحني يا معلم.. قطّعني يا معلم!

10:08 مساءً الثلاثاء 13 أغسطس 2013
شريف صالح

شريف صالح

قاص وروائي وكاتب صحفي، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في ثمانينيات القرن الماضي، انتشر إعلان لدجاجة ترقص وتغني وتقول: “ادبحني يا معلم.. قطّعني يا معلم!”، وحدث هوس شعبي بهذه الجملة. فهي تنطوي على إيحاء جنسي مازوخي، مثير للمخلية الشعبية المحرومة والمكبوتة، إلى درجة أن أحداً من الفرحين والمنتشين بالإعلان لم يسأل نفسه سؤالاً منطقياً: إلى هذا الحد تطلب الدجاجة بكل فرح وسرور، أن تُذبح وتقطع إلى أشلاء كي تتحول إلى “مرقة” و”شوربة” و”دم”؟!

“المعلم” إذن ليس قاتلاً ولا “جزاراً” بل بشهادة الدجاجة نفسها، هو المنقذ، والمنفذ لرغباتها المعلنة والمكبوتة، هو البطل! والعنف ليس حالة قسوة مفرطة يمارسها طرف قوي على طرف مستضعف وعاجز عن الدفاع عن ذاته، بل حالة يتواطأ طرفان في الانتشاء بها، مثلما انتشت الدجاجة بالذبح، وانتشى “المعلم” باستعراض رجولته!
وكما يحدث هذا بين “الدجاجة والمعلم”، يحدث بين الزوجة وزوجها، وبين الشعب وحاكمه. طرف يستمتع بدور الضحية وطرف يستثيره دور الجلاد.
دعونا من “الجلاد”، فهو ذات مريضة، يمارس شراً صرفاً.
ماذا عن الضحية؟
إلى هذا الحد هي مستلبة، وفاقدة الشعور، ومستعدة لما هو أسوأ من الذبح والموت والدمار؟ ألا تنتبه إلى المخاطر المحيطة؟ كيف لا تقاوم؟ كيف تحول طقس الذبح إلى “وصلة دبكة”؟
أسئلة تجعلنا، أحياناً نتعاطف مع “الضحية” ونشفق عليها، ونحن نراها تساق مثل ثيران مغمضة العينين إلى المذبح.. وأحياناً أخرى ننقم عليها ونلعنها: الضحية تطلب جلادها، والشعوب تستحق حكامها!
وقد صك المفكرون مصطلحات كثيرة تبحث هذه الحالة المركبة، فهناك من تحدث عن “القابلية للاستعمار” الذي طرحه ـ عربياً ـ مالك بن نبي، فالضعيف المستعمَر يقبل شروط المستعمِر، ويتماهى معه، يطلب رضاه ويغني له أحياناً: “قطعني يا معلم”.. مع مرور الزمن، تتأصل شروط المستعمِر في جينات المستعمَر، كأنها طبيعة لا تتغير.. ولكي يقاومها يحتاج إلى عقود مثلما قاومت الجزائر احتلال فرنسا أكثر من 130 عاماً!
وثمة تحليل نفسي يُسمي تلك الحالة بمتلازمة استكهولم Stockholm Syndrome وهو مصطلح مأخوذ عن واقعة حقيقية، عندما سطا مجموعة من اللصوص على بنك عام 1973، واتخذوا بعض موظفي البنك رهائن لستة أيام، خلال تلك الفترة بدأ الرهائن يرتبطون “عاطفياً” مع الجناة، بل قاموا بالدفاع عنهم بعد إطلاق سراحهم. ولو طلب الجناة أن يغنوا لهم: “قطعني يا معلم” لن يترددوا!.
إنها حالة نفسية تصيب الفرد عندما “يتعاطف” أو “يتعاون” مع عدوه أو من “أساء” إليه بشكل من الأشكال. فالضحية وتحت الضغط النفسي الرهيب، تبدأ لا إرادياً بصنع آلية دفاع عن النفس، من خلال الاطمئنان للجاني، خاصة إذا أبدى حركة تنم عن الحنان أو الاهتمام حتى لو كانت صغيرة، هنا تقوم الضحية بتضخيمها جداً. بل تفكر في خطورة إنقاذها، وأنه من الممكن أن تتأذى إذا حاول أحد مساعدتها، فتتعلق أكثر بالجاني.
أي نظام قمعي لا يمارس أكثر من ذلك، يختطف بلداً وشعباً، ليس لستة أيام فقط، بل لعقود من الزمان، فيتحول الشعب كله إلى ضحية تغني لجلادها، وتضخم أي لفتة ود تصدر عنه، وتخشى أدنى تغيير في هذه المعادلة. وهكذا يتعود الشعب على الذل والقهر بل ويدافع عمن يذله، خوفاً وطمعاً.. وبالفطرة يعرف الجلاد ذلك، فلا يتورع عن ابتزاز الشعب بكل حيلة ممكنة، وإثارة مخاوفه، وتنفيس معدلات الضغط حتى لا تنفجر، عن طريق الأغاني وبعض النقد السياسي، واللفتات الحانية، كأن أقرر إعدامك ـ بلا سبب ـ ثم أخفف الحكم إلى السجن المؤبد، ساعتها ستكون ممتناً لي، لأنني لم أقتلك رغم أنه لا شيء يمنعني من قتلك!
إذن الأمر ليس مجرد “قابلية” أو “قبول” للذبح، بل أيضاً دفاع مستميت عن الجلاد والتماس الأعذار له، ضد الذات المهدرة والمقهورة.
لا يبعد كل هذا كثيراً عما أطلق عليه بيير بورديو “العنف الرمزي”، والذي يكشف إجمالاً عن ممارسات القوة والتسلط والقهر، غير المرئية.. أو تلك التي لا ننتبه إليها. فمثلاً الفلاح الريفي يخجل من لهجته أمام لهجة سادة المدينة.. رغم أنه لا أفضلية للهجة على أخرى.. لكن سادة المدينة دربوه دائماً على أنهم الأعلى والأقوى، وعليه أن يعبر بلا كلل عن قهره واستلابه أمام كل النماذج التي يقدومونها له: اللهجة، السيارة، بنطلونات الجينز، وأغاني الفرانكو آراب…!
عشرات الدراسات حول “سيكولوجية المقهور” تنتهي بنا إلى أنه ليس مجرد “ضحية بريئة”، بل ضحية تم تشويهها عبر تدريب وخبرات سلبية وسيئة وعقود من الزمن، فُرضت فيها أنماط ثقافية بعينه، وفضاءات اجتماعية وسياسية واقتصادية، كي تعيد الضحية إنتاج أدوات قهرها بنفسها.. وتحول تلقائياً بذور العنف الذي مُورس طويلاً ضدها إلى جينات راسخة في روح مهزومة. وقبل أن نفكر في اقتلاعها من “الجلاد” علينا أولاً أن نقتلعها من الضحية.. نعالجها من “متلازمة استكهولم” وقابليتها للقهر والاستعمار.
وإذا طبقنا ذلك على الوضع في سورية، فإن كل هذا الدم والعنف والدمار، هو بمثابة “حُمى” أو مخاض عسير، تتخلص فيه الضحية من عقود طويلة جداً من القهر والاستلاب، من شبكة إذلال سرية وعلنية اخترقت كافة مجالات الحياة. إنها مسألة عميقة تتجاوز الخلاص من شخص ما.
يُقال إن الله خلق الإنسان حراً، لكن الإنسان لم يخش فعلاً مثلما خشي ممارسة فعل الحرية الذي لا يتطلب منه أي شيء، سوى أن يمارسه ويعيشه.
بكل بساطة هذا أوان أن يخرج الإنسان إلى النهار.. إلى العدل والحرية.. مهما كان الثمن.
فعلى الضحية أن تتوقف عن إنتاج السم الذي يوضع في طعامها، وعن فتل الحبل الذي تشنق به نفسها، وصناعة البارود الذي لا يُدمر إلا بيتها.. عليها أن تتوقف عن عبادة جلادها الذي يهيمن على روحها.. الجلاد بائس لا وزن له، لكننا نحن الذين نضخمه.. نحن الذين نجسده ونستدعيه ونضفي عليه الهالة عندما نغني له: ادبحني يا معلم.. قطعني يا معلم!

 

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات