مجلاتُ السحاب

09:50 صباحًا الإثنين 9 ديسمبر 2013
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في كل لحظة، تمتد ملايين الأيدي إلى حيث توضع المجلات التي تصدرها شركات الطيران، ربما حين تبدأ الطائرة بالاتجاه إلى ممر الإقلاع، أو بعد أن تستوي بين السحاب وفي أغلب الأحيان بعد أن يستقر مسارها فوقه. يسلي بها البعض وقته حتى ينام، أو إلى أن تأتي وجبة الطعام، أو يبدأ السماح بتشغيل الموسيقى وعروض الأفلام. قراء (مجلات السحاب) أكثر من قراء الصحف في العالم! فالمجلة متاحة على مدار الشهر، وربما طيلة شهرين، حسب دورية الصدور، وبحسبة بسيطة فإن عدد النسخ المقروء يتخطى الملايين من العدد الواحد، ويزيد العدد كلما اتجهنا إلى إحصاءات الشركات الأوفر حظا بعدد المسافرين، والأطول مسافة حسب وجهات السفر. نحن أمام ظاهرة قراءة فريدة تستحق التأمل، نتصفح خلالها عشرات المجلات التي انتظرتنا على متن الخطوط الجوية الدولية، نسأل عن اللغة التي تحدثت بها، والثقافة التي قدمتها، والفن الذي بشرت به.

حين هبط الطيار محمد شفيق بطائرته “ذا هافيلاند دراجون” في مطار هليوبوليس شرق القاهرة في يناير 1930 كان ملك مصر فؤاد وشعب المحروسة بانتظاره في احتفالات حاشدة جعلت من ذلك اليوم عيدًا للطيران في مصر، يؤرَّخ به لبداية حركة الطيران التجاري المصري والعربي، تأسست بعده في السابع من مايو 1932 شركة “مصر للطيران” التي بدأت برحلات داخلية من مطار هليوبوليس (ألماظة حاليا) إلى مطار مرسى مدينة مطروح لى ساحل مصر الشمالي، ثم مدينتي الإسكندرية وبور سعيد.

في عام 1933نظمت مصر للطيران رحلات إلى الخرطوم وبلاد الحجاز وبغداد ودمشق وعمان وبنغازي. وعقب الحرب العالمية الثانية، أضيفت خطوط أخرى لتتوجه الطائرات إلى 11 مدينة داخلية ودولية، لتبلغ اليوم نحو 90 داخل وخارج مصر تنقل نحو 6 ملايين راكب سنوياً على متن أكثر من 400 رحلة أسبوعيا.

هذا الموجز عن تاريخ الطيران في مصر يمثل ملمحًا للحديث عن (كم) الركاب، وهم القراء المحتملون في موضوعنا عن (مجلات السحاب). خطوط طيران KLM  قدمت إحصائية طريفة مفادها أن 80 بالمائة من المسافرين على متن رحلاتها، تصفحوا مجلتها مرة واحدة على الأقل خلال الرحلة. إنه إحصاء إيجابي لصناعة النشر وكُتَّاب المجلات على حد سواء. فمجلات شركة الطيران توفر مادة صحفية منوعة جنبا إلى جنب مع خدمات السفر، فضلا عن كونها سوقا لعرض الإعلانات الملونة، وقد تبلغ المادة الإعلانية في كثير منها إلى نحو 40 بالمائة، ولو أن هذه النسبة قد تقلصت بعد أن جعلت بعض المجلات سوق عرض منتجات السوق الحرة في نشرة منفصلة عن المجلة الأم.

إن سوق الإعلان ـ كما تقر بذلك مجموعة إنك اللندنية والتي تنشر أكثر من 10 مجلات طيران ـ يتجاوز عالميا أكثر من مليار مليون دولار أمريكي! وهو رقم أعلى بنسبة 20% من العام الذي سبقه، وأعلى بكثير من سوق الإعلان قبل 4 سنوات الذي لم يتجاوز في 2004 756 مليون دولار فقط، وهو ارتفاع لم يهزه سوى السنوات القليلة التي تلت أحداث سبتمبر 2001، والتي أطاحت بسوق السفر وقتا ليس بالقصير.

لم تعد هذه المجلات اليوم مجرَّد عباءة للمبيعات والإعلانات، بل أصبحت جزءًا مهمًّا من الإعلام المقروء، تنافس لكي تجتذب قراء جددا من بين ملايين المسافرين كل يوم. خاصة وأن تكلفة الوقود المساوي والمطلوب لحمل مجلة في كل مقعد يوازي ملايين الدولارات سنوياًّ، في شركات الطيران الكبرى، حيث تتجاوز مجلات كثيرة حاجز الصفحات المائة من الورق المصقول واللامع والغلاف المقوَّى. وهو ما يدعو بعض الشركات الخاسرة إلى تقليص حجم المجلات، أو عدد نسخها على متن الطائرة الواحدة. لا يعوض هؤلاء سوى قيمة الإعلانات في المجلة.

تعد مجلة الطيران في بعض الأحيان قيمة مضافة للرحلة، وعلى سبيل المثال فإن الخطوط الجوية الأيبرية تقدم مجلتين، واحدة لركاب الدرجات الاعتيادية، وأخرى لركابها في الدرجات الأولى ورجال الأعمال! بل بدأت الشركة الإسبانية بإصدار جريدتها اليومية الخاصة بمسافريها، وهي باللغة الأسبانية، وتماثل تلك الصحف التي يطالعها ركاب الترانزيت في المطارات، وتحمل شعار الشركة على صفحتها الأولى، إلا أن التحرير يتم وفقا للطرق الاحترافية بعيدًا عن تدخل الشركة، ودون أن يكون هناك مساس بالموضوعات الحساسة كالدين والسياسة أو الوضع المالي لشركات الطيران!

 تتجنب شركات أخرى المواد الإعلامية ثقيلة الوزن، والخطوط الجوية البريطانية على سبيل المثال لديها مطبوعتان،  High Lifeويجدها المسافرون على كل الرحلات، و Business Life  وهي مخصصة للرحلات الأوربية فقط! وتحاول أن تكون مفيدة للقراء، حيث يعتقد المسئول عنها أن مؤسسته لن تجني احترام القراء ـ المسافرين، إذا كانت مجرد شركة للنقل فقط.

(إنهم يشترون عندما يطيرون)، هذا هو شعار خطوط طيران كونتننتال الذي ترفعه لتشجع المعلنين على وضع إعلاناتهم على صفحاتها، وهو شعار تدعمه بتحرير قوي، وصور ممتعة، وتنوع مثير للأبواب، إنها مثلما تدعوهم ليشتروا أكثر تؤكد لهم على أهمية أن يكتشفوا العالم بطريقة أفضل.

في سنة 2001 قلصت شركة Virgin Atlantic  من حجم مطبوعاتها على متن رحلاتها، ولكن من الطريف أن استفتاءات بين المسافرين بينت افتقاد هؤلاء للمجلة! ولذلك قدمت Virgin Atlantic  مطبوعة جديدة لركاب الدرجة الأولى فقط! وهو مشروع لم يكن يقدم مجلة تشبه أيا من المطبوعات التي تقدمها شركات الطيران الأخرى، فماذا كان يضم؟

على ورق فني ثقيل، يشبه ورق الرسم البني اللون الأصلي، قدمت Virgin Atlantic مجموعة من الرسوم ـ لا الصور ـ ومقالات مطولة، لا يعترضها سوى الرسوم الكارتونية، ولا يتجاوز حجم الإعلان فيها 8 صفحات تأتي في منتصفها! كان ذلك يعني ـ ضمن تجارب أخرى ـ أن تتلازم الجودة مع الفخامة لخدمة قطاع الملايين من المسافرين. إن هؤلاء الركاب مستعدون لتقديم ولاءهم لمن يؤثر فيهم بطريقة أفضل.

إنها سوق لملايين القراء، ولذلك فإنها سوق للملايين من المشترين والمعلنين على حد سواء، وتسعى إليها شركات النشر العملاقة في العالم لأنها تفيد من وراءها كذلك، ولذلك قرأنا عن قيام طيران الإمارات مجدداً بتوقيع خمس سنوات عقد شراكة مع موتيفيت للنشر لإصدار مجلة «أوبن سكايز» استمرارا للتعاون بين الطرفين منذ انطلاق خدمة طيران الإمارات في العام 1985 ليستمر إصدار مجلة «أوبن سكايز» على مدى 21 عاماً. وستقوم موتيفيت بإصدار مجلتين كل شهرين وهما بورتفوليو التي ستخصص لركاب الدرجة الأولى ودرجة رجال الأعمال ودليل طيران الإمارات للتلفاز والإذاعة إلى جانب المجلة الأم.

أسماء على الهواء

حين تستقر بين أيدينا (مجلات السحاب) نهتم بمطالعة الأسماء، والتي تنقسم إلى ثلاثة أنماط لا رابع لها، فئة أولى تمثل اسم الشركة الراعية، أو الخطوط الجوية التي تشغلها، مثل كونتننتال، والجزيرة، وآسيانا، ويونايتد، وغيرها وأخرى تسمح للاسم بأن يكون مرادفا للطيران والتحليق مثل حياة السماء Sky Life  أو High Life  والأجواء المفتوحة Open Skies  والبراق، ومنهم من يستمد الاسم من الدرجة التي يستقلها الراكب: The First Class وسواها، وفئة أخيرة تجعل لها اسمًا ثقافيا له ثقله المرادف لأدب الرحلة مثل عوليس Ulisse التي نقرأها على متن الخطوط الجوية الإيطالية.

بعد أن نتجاوز الغلاف الذي يحمل الاسم والصورة التي تعبر ـ على الأغلب ـ عن مكان ما، نتصفحُ الأبواب التي لا تنحصر في أدب الرحلة، ومعلومات عن وجهات السفر، وإرشادات السلامة، وأغراض السوق الحرة على متن الطائرة، بل ستجد الفنون الجميلة والآداب الإنسانية، ولقاءات مع الأعلام في كل مجال، بين مخرج سينمائي، ونجمة تليفزيون، ورجل اقتصاد، ومهندس معماري، وشاعر شهير، وقاص أثير، ورسام فذ، فضلا عن حكايات تقليدية وطبخات شعبية، وكل ما يخطر على البال، ستجده يحلق معك لتقرأه في (مجلات السحاب).

الانفتاح على الآخر

أول القيم التي تدعو إليها (مجلات السحاب) بل وتطبقها بكثير من المتعة البصرية والفكرية معًا، هي قيمة الانفتاح على الآخر. ففي مجلة طيران كورية ستسافر إلى مدينة نيويورك، وفي مجلة لخطوط الإمارات ستتوقف في بكين، وفي مجلة الخطوط الجوية الكويتية ستسافر بالكلمة والصورة قبل أن تصل إلى مطارات مدن أوربا والشرق الأوسط.

هذا الانفتاح على الآخر لا يتوقف عند قراءة ما تمتلكه مدنه من سحر. إذ تدعوك هذه المقالات التي كتبها رحالة إلى معالم المدن الأشهر، بجانب التعرف على أسرارها المخفية أيضا. لديك نساء ورجال جربوا المطاعم وسيدلونك عليها، وشاهدوا العروض المسرحية وسينصحونك بأفضلها، وعاشوا أياما وليالي في شوارع قرطبة الثقافية، وحارات دمشق العريقة، وجداول فينيسيا الرومانسية، ومقاهي باريس الشهيرة، وعليك أن تستمتع بخبرتهم، وأن تأخذ نسختك المجانية من مجلة الطيران لتكون دليلك الأول إلى هذه المدن.

وتتنافس المجلات الدولية على الدخول في مسابقات تقيم أداءها، وتعلن شركة مثل يونايتد عن فوزها ـ سنويا ـ بنحو عشرين جائزة صحافية، مما يدل على كفاءة المادة المكتوبة والمصورة.

ملمح ثان يشدك حين تتصفح (مجلات السحاب) هو حضور الإنجليزية كلغة ثانية ـ أو أولى ـ في جميعها، أحيانا كترجمة مطابقة لنصوص اللغة الأخرى، أو كمواد مغايرة للقسم الأساسي، أو حتى كحضور مبسط في تعليق الصور في المجلات التي تعتمد لغة واحدة فقط.

من الطريف أن تكتشف أن مجلات خطوط الطيران الكورية المحلية تفتح كالمجلات العربية، من اليمين إلى اليسار، ولكن مجلات خطوط الطيران الكورية الدولية تفتح كالمجلات الأجنبية لأن فيها اللغة الإنجليزية كتعليقات إضافية!

 أما القيمة الأهم، فهي من وجهة نظري الحفاظ على قيمة الكلمة المطبوعة، ففي حين تقدم الرحلة الجوية فرصة سماع الموسيقى ومتابعة الشاشة الصغيرة، واللعب الإلكتروني، يبقى اهتمامها بتقديم مجلة مطبوعة مساهمة في مقاومة القراءة للواسائط الإعلامية الأخرى الأكثر إبهارًا.

وهنا نأتي للملمح الرابع والأخير، وهو أنه في ظل هذا التنافس تحرص هذه المجلات على تقديم صور نوعية، وإعلاء قيمة فن الإخراج الصحفي، والاستعانة برسوم قوية، والخروج عن رتابة التقارير الإعلامية الخبرية، لأنها تدرك أنها تقدم خدمة ثقافية ولذلك لم يكن غريبا أن تسمى بعض الدوريات بأسماء ثقافية مثل آسيانا الثقافية.

في الرحلة الجوية القادمة، وحين يعلن قائد الطائرة عن السماح لك بالاسترخاء وتعديل المقعد على هواك، مد يدك إلى حيث توجد مجلة الطيران، وستكتشف فيها دليلك السياحي الأول، ومرشدك إلى ثقافة البلد الذي تقصدُ إليه، أو ربما جعلتك تختار وجهة السفر في الرحلة التالية!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات