بشـيـر عيـَّـاد على مشارفِ الاحتفالِ بذكرى ثورةِ الخامسِ والعشرينَ من يناير

01:18 مساءً الإثنين 20 يناير 2014
بشير عياد

بشير عياد

شاعر ، وناقد ، وكاتب ساخر ، يغني أشعاره كبار المطربين، له عدة كتب في نقد الشعر، متخصص في " أمّ كلثوم وشعرائها وملحنيها " .

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الغناء للفردِ ، جمال عبد الناصر وعبد الحليم حافظ     


  • قصائدُ وأغنياتٌ منسيّة أعادتها الثورةُ إلى الدوران وأخرى ماتت تحتَ أقدامِ مؤدّيها
  • “صوتُ المقهورين” ثنائي نجم والشيخ إمام الأكثرُ حضورًا من البداية وأمّ كُلثوم … الطغيانُ إلى ما لا نهاية !!
  • منيرة المهديّة غنت للوطن ، وظلمها النقّادُ البرّمائيّونَ ، وسيّد درويش .. علامةٌ مضيئةٌ في الموسيقى والغناءِ والوطنيّة
  •  محمّد عبد الوهّاب … خريطةٌ باتّساعِ الوطن ،وعلى صوتِهِ وألحانِهِ ارتقت الأغنيةُ الوطنيةُ أثيرَ الزمنِ العربيّ
  • الغناءُ للفردِ محكومٌ عليهِ بالموتِ مهما تكن عظمةُ الفرد ، ومهما يطُلْ عمرُه، أمّا الغناءُ للوطنِ فلا يموتُ ولا يبلى
  • سقطت الأغنيةُ الوطنيةُ المعاصرةُ في مستنقعِ النفاقِ والارتزاق ، فاستعارَ الثوّارُ الصدقَ من خزائنِ الأجداد 

لمْ يكنِ الشعرُ المُغنّى ببعيدٍ عن مَيدانِ التحرير ، ولا ميادينِ مصرَ الأخرى التي شاطرتْهُ الثّورة ، بل كانت الأغاني الحماسيّةُ على رأسِ قائمةِ أسلحةِ الثورةِ التي كانَ شعارُها الأكبرُ ” سلميّة ” ، وما أصدقَ هذا الشعارَ عندما يتوغّلُ محفوفًا بالموسيقى والغناء !

 امتدّت ألسنةُ الثوّارِ إلى ما غنّاهُ أجدادُهم على مدارِ القرنِ العشرينَ الحافلِ بالثوراتِ وبالفَوَرانِ الوطنيّ ، تارةً في مواجهةِ المحتلِّ وذيولِهِ من خونةِ الدّاخلِ ، وتارةً أخرى في مواجهةِ الديكتاتوريّةِ والاستبدادِ وكلّ ما في جعبةِ حكّامنا وبطاناتهم من المنتفعينَ الذينَ يشبهونَ الديدانَ الطفيليّةَ التي ترعى في أمعاءِ الشّعب .

الشيخ سيّد درويش

كانَ الشيخ سيّد درويش أقدمَ الحاضرينَ في الميادينَ ، وكانَ حضورُهُ على استحياءٍ وبخفّة في أعمالٍ خاطفةٍ مثل ” قوم يا مصري ” أو ” أنا المصري كريم العُنصرين ”  ، غير أنّ الحضورَ الأطغى منذ ” جمعة الغضب ” كان لـ ” صوت المقهورين ” ، وهو ما أُطْلِقُهُ على ثنائيّةِ الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم ، مع وجود شعراء آخرين على صوت الشيخ إمام مثل نجيب شهاب الدين وزين العابدين فؤاد وآدم فتحي ، وفي المنحنى الأخيرِ للثورةِ أطلّت أمّ كلثوم بقوّةٍ ، وبعد نجاحِ الثورةِ أصبحَ الحضورُ الكلثومي الأكثرَ طغيانا وبقاءً ، إذ لم تصمد معظمُ الأعمالِ الجديدةِ أمامَ القديمِ الأصيلِ الراسخ ، بعد أنْ سارعَ أهلُ الغناءِ من أجلِ اللحاقِ بأضواءِ الثورة ، فجاءوا بأعمالٍ ركيكةٍ  باهتةٍ ، من مثل :

شهداء 25 يناير

ماتوا ف أحداث يناير !!

 فكانت أشدّ إيلامًا من الرصاصِ الحيّ والخرطوشِ وقنابلِ الغازِ ، وكأنها ليست من صُنعِ مبدعينَ موهوبين ، بل من إنتاجِ اللهو الخفيّ أو الطرفِ الثالثِ وكلّ قائمةِ الأشباحِ التي لم نعرفها بعد !

نظـرةٌ إلى الـوراءِ طولُها أكثرُ من مائةِ عام

قبلَ أكثرَ من مائةِ عامٍ كانَ أجدادُنا يحاربونَ من أجلِ الاستقلالِ والتخلّصِ من الوجودِ الإنجليزي على أرضنا ، وكم من دماءٍ طاهرةٍ سالت على هذهِ الأرضِ الطيّبةِ ، وكم من رجالٍ ضحّوا بأرواحِهم من أجلِ هذا الترابِ الغالي ، ومن أجلِ الكرامةِ والحريّةِ والحقّ في الحياةِ الشريفة . وعلى مدارِ سنواتِ الشَّدِّ والجذبِ كانَ الشعرُ ـ بكلّ أشكالِه ـ حاضرًا بقوّةٍ في صدارةِ المشهد ، وعلى رأسِ شعراءِ الوطنيّةِ في بداياتِ القرنِ العشرين يقفُ إسماعيل صبري باشا كالعَلَم ، وكانَ ربُّ السيفِ والقلمِ الشاعرُ العظيمُ محمود سامي البارودي قد رَفضَ أن تدخلَ أشعارُهُ مدارَ الغناءِ ، وكانَ يأنفُ من مجرّدِ الجلوسِ مع المطربينَ أو العازفين ، وكانَ يرى في هذا الفعلِ تنازلا من الشاعرِ وإهدارًا لقيمةِ الشعرِ وأهلِه ، بينما راحَ إسماعيل صبري يجالسُهم ويعترضُ على أغنياتهم الهابطة ، وذات ليلةٍ اعترضَ على أغنيةٍ يؤدّيها محمد عثمان فقيلَ له : ولماذا لا تكتبُ له أنت ؟ فأمسكَ بالقلمِ وكتبَ واحداً من أشهرِ الأدوارِ التي حفظتها ذاكرةُ الموسيقى ، ألا وهو ” قدّك أمير الأغصان ” ، وبعد انتهائهِ من كتابتِهِ اشترط أن يلحّنَهُ محمد عثمان ويغنيه في الحال ، وكان له ما أراد ، ومن وقتِها لم يمانعْ في أنْ يكتبَ للغناء ، كما سمحَ لبعضهم  بغناءِ أشعارِهِ العاطفيّةِ والوطنيّةِ بل اندفعَ إلى أبعد حدٍّ بأن ظلَّ يكتبُ العاميّاتِ والأزجالَ البسيطةَ وكأنّهُ يقاتلُ بمفردِهِ في مواجهةِ طوفانِ الانحطاطِ والابتذالِ ،وعندما عاد البارودي من المنفى ، شدّ على يديهِ وأيّدهُ في كتابةِ الأغنيةِ باللهجةِ الدارجةِ ، وهمسَ في أذنهِ أن يُكثرَ من الوطنيّاتِ ليجذبَ الناسَ من مستنقعاتِ الابتذالِ والانحطاطِ إلى القضايا الكبرى للوطنِ ، مذكّرًا إيّاهُ بأنّ الأغنيةَ سلاحٌ خطيرٌ إذا ما استخدمناهُ بما يليقُ بهِ ، والغريب أن البارودي ظلّ على موقفِهِ الرافضِ أن يعطي الملحنين والمطربين الإذنَ بتناولِ أشعارِهِ بالغناء ، لكنّ طلبَهُ ، أو أمرَهُ ، إلى إسماعيل باشا صبري بالتركيز على الغناء الوطني كانَ من أهمّ النصائحِ التي عملَ بها إسماعيل صبري باشا والآخرونَ الذين أدركوا قيمةَ الكلمةِ عندما تصبحُ سلاحًا يدافعُ عن قضايا الوطن .

 بدأ القرنُ العشرون وعلى ناصيتِهِ أشعار محمود سامي البارودي وإسماعيل صبري اللذين واصلا إشعالِ جذوةِ الوطنيّة بعد رفاعة الطهطاوي وعبد الله نديم ، ومن خلفهما ـ البارودي وإسماعيل صبري ـ انهمرت أشعار شوقي وحافظ وغيرهما ، ويومها لم تكن هُناكَ إذاعاتٌ ولا تليفزيون ، وكان الإعلامُ الورقي سيّد الموقف ، وبالرغم من بطءِ حركةِ القصيدةِ في الوصولِ إلى العامةِ إلا أنها كانت تصل ، وبالمثلِ كانَ الغناءُ محكومًا بأماكنِ السهرِ واللهو ، ولم تكن الاسطوانة والفونوغراف قد عرفا طريقهما إلى العامة بعد ، لكنَّ هذا لم يمنعْ شعراءَ الوطنِ وفنّانيهِ من التغنّي بقضاياهُ وتحريضِ الجماهيرِ على الثورةِ في وجهِ المحتلِّ ، وعلى خونةِ الدّاخلِ الذين باعوا الوطنيّةَ لقاءَ منافعَ آنيةٍ لا تساوي حبَّةً من ترابِ مصر .

منيرة المهديّة ، سلطانةُ الطربِ في العقدينِ الأول والثاني من القرنِ العشرين

كانت منيرة المهديّة ، سلطانةُ الطربِ في العقدينِ الأول والثاني من القرنِ العشرين ، في طليعةِ الأصواتِ التي جعلت الغناءَ للوطنِ فرضَ عينٍ لا يجوزُ التكاسلُ فيه ، وكانت تحاربُ المحتلّ وتحرّضُ عليهِ ، فيغلقونَ مقهاها ـ أو ملهاها ـ  ويضيّقونَ عليها ، فتلتفُّ على أوامرهم وتعودُ لممارسةِ دورِها في التثويرِ والتحريضِ ، ويكفي أنهم أطلقوا على مسرحها اسمَ  ” هواء الحريّة ” ، غيرَ أنَّ  هواةَ التأريخِ من منازلهم ، ومحترفي الدورانِ على الفضائيّاتِ والدوريّاتِ التي تدفعُ لمن يجيدُ البيعَ ، بيعَ القيم ، لا يحفظونَ لمنيرة المهديّة سوى ما غنّته من أعمالٍ هابطةٍ ( لو كانَ لنا أن نقارنها بما نراه اليوم لترحّمنا علىها وكلّ الذين كانوا معها ) ، كما يتناسى هؤلاء البرّمائيّونَ ما قدّمته منيرة المهديّة لفنّ المسرح ، وأنها قدّمت اثنتين وأربعين مسرحيّة معظمها من روائع المسرحِ العالمي .

 وفي العقد الثاني من القرنِ العشرين لاحت أسطورة سيّد درويش الذي كان صوتُهُ وقودًا لواحدةٍ من أعظمِ ثوراتِ الشعبِ المصريِّ ، ثورة 1919 ، وكانَ وراءَهُ اثنانِ من كبارِ شعراءِ الأغنيةِ وهما بديع خيري ويونس القاضي ، وبالرّغمِ من رحيلِ سيّد درويش كشهابٍ خاطف ، إلا أنّ ما تركه في فضاءِ الأغنيةِ الوطنيّةِ يُقاسُ بمئاتِ الأعمار ، ويكفيهِ منّا أننا نتنفّسُ لحنه الخالد ” بلادي بلادي ” ، نشيدنا الوطني المسافر فينا ، والذي يُقالُ إنّه صاغَهُ تأليفًا وتلحينًا ، بالرغمِ من نسبِ الكلماتِ إلى الشيخ يونس القاضي .

أمّ كُلثوم

 برحيل سيّد درويش في العام 1923 م ، كانَ تاريخُ الغناءِ العربيّ يستعدّ ليفتحَ صفحاتِهِ مستقبِلا أهمّ صوتينَ ربّما في سجلّ الغناءِ العربيّ إلى قرونٍ مقبلة ، ألا وهما أمّ كُلثوم ومحمّد عبد الوهّاب ، واللذانِ سارا في خطّينِ متوازيينِ ولم يلتقيا معًا ـ عمليّا ـ إلا في فبراير من العام 1964 م ، وكما كان التنافسُ على أشدّهِ بينهما في الأغنيةِ العاطفيّةِ ، فقد كانَ كذلك في الأغنيةِ الوطنيةِ ، وإذا كانت كلّ الأغنياتِ ( التي تشبهُ الوطنيّة ) التي غنّتها أمّ كُلثوم حتى 1950 تدورُ في دوّامةِ الغناءِ للفردِ ، وأعني الملك ، لا للوطنِ والناس ،( باستثناء قصيدتها التي غنّتها في رثاء سعد زغلول 1927 ) ،  فإنّنا نجدُ محمّد عبد الوهّاب يأخذُ منحى آخر ، فيغنّي للملك ، ولكن لا ينسى أن يغنّي للوطنِ حتى ولو كانَ الملكُ حاضرًا في ظلالِ النصِّ ، فنجدُ عبد الوهاب يغني  لبنك مصر ولمعاهدة 1936 ، ثمّ يأتي بنشيد الجهاد ، ثمّ مصرُ نادتنا ، ثمّ يطرّزُ واحدةً من أبدعِ ما في أوجاعنا القوميّة وهي قصيدة فلسطين للشاعر الفذّ علي محمود طه :

أخي جاوز الظالمونَ المدى

فحُقَّ الجهادُ ، وحُقَّ الفِدا

أنتركُهُم يغصبونَ العروبةَ

مجدَ الأبوّةِ والسؤددا

وليسوا بغيرِ صليلِ السيوفِ

يجيبونَ صوتًا لنا أو صدى

……..

محمد عبد الوهاب

وهي القصيدةُ النازفةُ إلى الآن على ضفافِ أيّامنا ، تكبرُ أوجاعُنا وتصغرُ وتتلاشى ، ويبقى الجُرحُ الفلسطينيُّ مفتوحًا منتظرًا أطبّاءَهُ القادمينَ من رحمِ الغيبِ في يومٍ ما .

على جانبي الطريقِ هناك شعراءُ وملحنونَ ومطربونَ كثيرونَ ، يكتبونَ ويلحنونَ ويغنونَ للوطن ، غيرَ أنَّ النموذجَ الأكبرَ هو أمّ كُلثوم ( بمن معها من شعراء وملحّنين ) وعبد الوهّاب ( بمن معه من شعراء ومطربين )  ، وأراهما معًا قد جمعا حولهما أعظمَ ما في القرنِ العشرين ، وفي تراثنا الغنائي كلّه .

     في الهزيعِ الأخير من العامِ 1951 م شاءَ القدرُ أنْ تفلِتَ أمّ كُلثوم من سجنِ الغناءِ للملكِ لتغنّي للوطن ، وكانَ الإفلاتُ على أجنحةِ سبعة عشرَ بيتًا من قصيدةِ مصر للراحل العظيم حافظ إبراهيم ، والتي نعرفُها الآن بـ ” مصرُ تتحدّثُ عن نفسِها ” وغنّتها للمرّةِ الأولى في السادس من ديسمبر 1951 ، وكأنّها إشارةٌ لتهيئةِ المسرحِ لاستقبالِ الحدثِ الأكبرِ في العام 1952 وهو ثورة يوليو ، تلك اللحظة الفارقة في تاريخ مصر استقبلتها أمّ كُلثوم في بدايتها بالغناء للوطنِ فكانت ” صوت الوطن ” لرامي والسنباطي ، ثم “الجلاء ” لشوقي والسنباطي ، و ” نشيد الجلاء ” لرامي والموجي ، وانطلقت في الفترة من 1952 إلى 1970 ( رحيل عبد الناصر ) لتترك لنا عددا هائلا من الأغنيات الوطنية ، دخل معظمها ثلاجة المناسباتِ إذ انصرف الشعراءُ إلى تخليدِ الفرد ( عبد الناصر ) على حسابِ المجموع ( الوطن ) ، فماتت الأغنيات بموت عبد الناصر ولم تعد تستيقظُ ـ وبحساب ـ إلا في ذكرى وفاته ، وعلى الجانبِ الآخر حاولَ عبد الوهّاب في العام 1951 أن يقدّم ” نشيد الحرية ” ، أبدع ما كتب كامل الشناوي

صلاح جاهين

في الوطنيّات ، فمنعوه إذ كان الاستهلال :

أنتَ في صَمْتِكَ مُرغَم … أنتَ في صبرِكَ مُكرَهْ

وقالوا إنّ في ذلك ما قد يثيرُ غضبَ القصر ، ويشاءُ القدرُ أن تنجحَ الثورةُ ، فيتمّ تغيير أنتَ إلى كُنتَ ، ليصبحَ النشيدُ نشيدًا أبديّا ، ودرسًا في الإبداعِ من كلّ جوانبِهِ ، الكلمة واللحن والأداء ، وينطلقُ عبد الوهّاب ملحنا ، لغيره وللآخرين ، ويملأ سجلَّ الغناءِ الوطنيِّ بعشراتِ الأعمالِ التي تناطحُ بعضها وتستديرُ لتناطحَ ما تؤدّيهِ أمّ كُلثوم ، كان عبد الوهّاب يميلُ إلى اصطيادِ الأصواتِ الجاهزة ، أي لا يسعى إلى تبنّي صوتٍ ما وتدريبه وتعليمه ، فكانت أعمالُه للمطربين محسوبةً بحسابٍ دقيقٍ وكانت مضمونةً الوصولِ إلى جمهور هذه الأصواتِ وعلى رأسها عبد الحليم حافظ ونجاة ، وما أوردناه عن وطنيات أمّ كلثوم ينطبقُ على ما نجده في حقل عبد الوهاب ( والآخرين أمثال الطويل والموجي وسواهما ممن لم يتعاملوا بشكلٍ مستمرٍ مع أم كلثوم ، أو معسكر عبد الوهّاب من شعراء ومطربين )  ، وأعني الغناء للفردِ ، جمال عبد الناصر ، بشكلٍ يكادُ يصبحُ قانونا عامًا أو دستورًا للجميع ، وهذا ما كتبَ الموتَ على معظمِ تلكَ الأعمال ـ ومعظمها جيّد المستوى بميزان النقد ـ بموتِ الزعيم جمال عبد الناصر ، ولذلك نرى الأعمال الوطنية المجرّدة ( لمصر ) أو القومية ( للعروبة ) هيَ التي عاشت ودخلت ذكريات الأجيال الجديدة وتكوينهم ، مثل “مصر تتحدّثُ عن نفسها ، صوت الوطن ، والله زمان يا سلاحي ، بغداد ،طوف وشوف ( بعد استئصال الجزء الخاص بعبد الناصر )   حقّ بلادك ، أصبح عندي الآن بندقيّة ” عند أم كُلثوم ، و ” دعاء الشرق ، أقسمت باسمك يا بلادي ، الوطن الأكبر ، الجيل الصاعد ، صوت الجماهير ” عند محمد عبد الوهاب .

 أمّا أغاني الهزيمة ( 1967) ، فجاءت كلّها مصبوغة بالأمل والحماسة في البداية ، ثم تحوّلت إلى أكوامٍ من الغبار بعد الإفاقة ، وبسببها انزوى كبارٌ كثيرونَ كان أصدقهم عبد الفتّاح مصطفى الذي أمضى ما تبقّى من حياته ( رحل في 13 يوليو 1984 ) لا يكتبُ إلا الأعمالَ الدينية ، وكان أصعبُ ما آلمَهُ هو ما خاطب به الرئيس جمال عبد الناصر في أغنية ” يا سلام على الأمة ” ( الموجي /أم كُلثوم ، 25 مارس 1965):

ماشيين على نور هدايتك …..

الملحن عمّار الشريعي الذي نزلَ بالأغنيةِ الوطنيةِ إلى أدنى مستوياتها وجعلها لا تنافسُ إلا إعلاناتِ المقرمشاتِ أو المنظّفاتِ الصناعيّةِ

بالإضافة إلى عدد كبير من الأغنيات بصوت أمّ كلثوم وغيرها ، ومع هزيمة يونيو كتب قصيدة بطيئة لحنها بليغ حمدي وغنتها أمّ كلثوم في يونيو المشؤوم وهي ” إنا فدائيون ” أو ” سقط النقابُ عن الوجوهِ الغادرة ” ، ومن بعدها أقسم ألا يكتبَ إلا ما هو ديني فقط .

 أمّا أغنياتُ النصرِ فحدّث ولا حرج ، فقد تعلّم الشعراءُ ـ باعتبارهم الأساس الأوّلَ للعمل ـ الدرسَ القاسي من الهزيمة وما قبلها ، فانصرفوا يكتبونَ للوطن ، ولم يشيروا إلى الزعيم ـ السادات ـ إلا فيما ندَرَ وعلى استحياء مثل أغنية “عاش ” التي غنّاها عبد الحليم ، وهي من الروائع من حيث كونها عملا متكاملا ، لكنها ماتت بموت السادات أيضا ، وبعد معاهدة السلام دخلت الأغنيةُ الوطنيةُ في سردابِ النسيان ، ثمّ أفقنا على الحقبةِ المباركيّةِ الطويلةِ التي اخترعوا فيها مظاهرةً سنويّة نغنّي فيها لصاحب ” أوّل طلعة جويّة ” ونقول ” اخترناه اخترناه .. واحنا معاه لما شاء الله ”  ، وكانَ بطلُ هذه الحقبةِ بلا منازع هو الملحن عمّار الشريعي الذي نزلَ بالأغنيةِ الوطنيةِ إلى أدنى مستوياتها وجعلها لا تنافسُ إلا إعلاناتِ المقرمشاتِ أو المنظّفاتِ الصناعيّةِ بل لا نبالغُ إذا قلنا إن من بين تلكَ الإعلاناتِ ما هو أبقى من تلك الاكتوبريّاتِ التي شيّدها الشريعي وشركاه من فراغٍ ودُخانٍ وغُبار.

ولذلك

نعودُ إلى نقطةِ البدايةِ لنقولَ إنّ الثّوّارَ لم يجدوا في الحاضرِ القريبِ ما يُشبِعُ نهمَ ثورتهم ، فراحوا يستعيرونَ من خزائنِ الأجدادِ ما يليقُ بالحدَثِ ، وكانَ أسرعُ مَنْ يلبّيهم هو الثنائي العملاق : الشيخ إمام عيسى وأحمد فؤاد نجم ، لأنّهما انطلقا من رفض الهزيمة ، ورفضِ ما يقومُ به الكبارُ من غناءٍ للفردِ إلى درجةِ التقديسِ والتنزيهِ ، رفضا أمّ كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ووو ….. إلخ ، وانطلقا يعبّرانِ عن آهاتِ الشعبِ وأحلامِهِ المُهدرةِ بتحالفِ الإعلامِ الكاذبِ والفنِّ الارتزاقي المنافقِ وأوهامِ القادةِ الذين صدّقوا هذا الكذبِ وهذا النفاق .

 تحرّكَ الميدانُ ـ والميادينُ الأخرى أو كلُّ التوابع ـ تحتّ مظلّةِ أغاني الرفضِ التي أطلقها إمام ونجم من عمقِ ستينيّاتِ القرنِ العشرينَ عندما بدأتْ شجرةُ الاستبدادِ التي غرسها الحكّامُ في تربةِ الخمسينيّاتِ تؤتي ثمارَها من القسوةِ والتعذيبِ والإذلالِ ، وحوّلت مصرَ إلى دولةٍ مغلقةِ النوافذِ تكادُ تشبهُ الغرفَ المعقّمةِ بانتظارِ إجراءِ العمليّاتِ الجراحيّة .

 كانت بدايةُ إمام ونجم في 1962م ، وجاءت في سياقٍ عاطفيٍّ بحت يدور في فلكِ الأغنياتِ السائدةِ ، وبعد هزيمةِ يونيو 1967م كانت الضربةُ التي زلزلت كلّ المصريينَ وجعلت أهراماتِ الأحلامِ الكاذبةِ تتهاوى كغبارٍ يتطايرُ في الريحِ ويتلاشى لتحلَّ محلَّهُ ندوبٌ غائرةٌ في أعماقِ الرّوحِ تطلقُ أظافرَ اليأسِ والإحباطِ والانكسارِ في جنباتها بلا هوادة ! انطلقت ردودُ فعلِ الشيخ إمام ونجم على هيئةِ أغنياتٍ ساخرةٍ قاسيةٍ لا ترحم :

الحمد لله خبّطنا .. تحت بطاطنا

يا محلا رجعة ظبّاطْنا .. من خطّ النار

وغيرها من القذائفِ الصاروخيةِ الحارقةِ التي جعلت الرئيس عبد الناصر يناشد الأدباء والمثقفينَ أن يكفّوا عن إطلاقِ النكاتِ والاستهزاءِ بجيشِ بلادهم بأيّ شكلٍ حتى لا يهدموا ما تبقّى من روحهِ المعنويّةِ ( وكانَ على حقِّ في هذهِ الرؤيةِ بالرّغمِ من مسؤوليتهِ عن كارثةِ الحرب ) ، ولذلك كان إمام ونجم في طليعة المُستجيبينَ للنداء ، وتحوّلا معًا إلى إطلاقِ الأغاني المبتهجةِ التي تعيدُ الثقةَ وتحرّضُ على الثأرِ وتستنهضُ الهمَمَ في كلّ المجالات ، وجاءت غنائيّاتهما للوطنِ أبدعَ من وجباتِ النفاقِ الفاسدةِ التي وضعها الآخرونَ على مائدةِ الإعلامِ الرسميّ ، وكانت في معظمِها ـ منذ 1954 ـ وكما أسلفنا ـ  تتغنّى بـ ، وتغنّي لـ جمال عبد الناصر ، بعيدًا عن الوطنِ ككيانٍ لا محدودٍ ، وجاءت الهزيمةُ لتقذفَ بهذهِ الأغنياتِ في سلالِ النسيانِ وكأنها قطعٌ من المُخدِّراتِ التي يُخشى ظهورها على الملأ .

الفاجومي وشريكه الشيخ إمام

 بدأ إمام ونجم الغناءَ لمصرَ العظيمةِ الشابّةِ التي لا تشيبُ ولا تنحني ، ولا تهزمها المحنُ ، ولا تكسرها الانكسارات :

مصر يا امّه يا بهيّة

يا امّ طرحة وجلابيّة

الزمن شاب وانتي شابّة

هوّ رايح وانتي جايّه

إلخ ….

وتابعا في سلسلةٍ من الروائعِ التي لا تفنى ، وفجأة ، استيقظا على الوهم ، وألا فائدة ، فعادا إلى القسوةِ مرّةً أخرى ، ليدخلا السجن بحجةِ ضبطهما بمخدّرات ، ولم يكن السجنُ إلا مصنعًا لأعمالٍ حارقةٍ جديدةٍ ، ومن سجن ناصر إلى سجون السادات ، والمصنعُ لا يغلقُ أبوابَهُ ، لتجيء حصيلةُ التجربةِ عشرات الأعمالِ التي كنّا نتداولها (جيلنا ) مكتوبةً ونحن بالمرحلةِ الثانويّةِ ثمّ الجامعيّةِ، ولم نكن ندري ـ لا الثنائي ولا نحن ـ أننا بصدد وقودِ أعظم ثوراتِ القرنِ الحادي والعشرين ! كان الميدانُ يستعيرُ ” إرادة الحياة  ” من تونس ، من الشابي العظيم :

إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياة

فلابدّ أن يستجيبَ القدرْ

ثمّ يميلُ إلى الفاجومي وشريكه الشيخ إمام ، ثم تنطلقُ الآهاتُ البريئةُ من الميدان نفسه ، أشعار بريئة وألحان بريئة وأصوات بريئة ، لم نكن نطالبهم بأكثر من ذلك ، ليس من المعقولِ أن نطلب منهم وهم تحت القصفِ والتهديدِ وقنابل الغازِ أن يكتبوا لنا ما نضعه إلى جوار ” قفا نبكِ ” ، الكارثةُ الكبرى كانت من خارج الميدان ، من المرتعشين الخائفين الذين قفزوا كفئرانِ السفينة وسرقوا الثورة ! كلّ مرتزِقةِ العهدِ البائدِ الذين تمرّغوا في خزائنِ إعلامهِ وثقافتِهِ احتلوا الصدارةَ الآنَ وأصبحوا آباءَ الثورة ، وأطلقوا أعمالهم الرنّانةِ و…. أخذوا الثمن !!

بليغ حمدي

في منتصف الطريقِ إلى النهاية ، أي بعد موقعة الإبل والحميرِ المُستعارةِ من العصرِ الجاهلي ، انطلقت أغنيات أمّ كلثوم تزلزل الفضائيات :

أنا الشعبُ لا أقبلُ المستحيلا

ولا أرتضي بالخلودِ بديلا

وهذا جزء من قصيدة “على باب مصر ” من شعر كامل الشناوي وألحان عبد الوهاب لأم كُلثوم ( 1964 ) ، وهي من القصائد الميتة التي تقع ضمن ما أسميه ” المقالات الموزونة ” ، وكتبها الشناوي من بحر المتقارب ليأتي فيها بكلمة ” جمال ” ، وهي ـ من حيث الكلمة واللحن والأداء ـ ليس فيها إلا ما أوردناه أعلاه ، وبقية العمل كومة من الكلام الموزن المتخبّطِ في ماسورة فعولن فعولن فعولن فعول !

 عادت إلى الوجود أيضا قصيدة ” مصر تتحدّثُ  عن نفسِها  ” لحافظ إبراهيم والسنباطي وأمّ كلثوم ، كما عادت ” صوت الوطن ” لرامي والسنباطي وأم كُلثوم ، وعادت ” يا حبيبتي يا مصر “، محمد حمزة وبليغ وشادية ، وبعد التنحّي انطلقت “حقّ بلادك ” أو ” قوم بإيمان وبروح وضمير ” ، وهي من الزجل البسيط والتلقائي ، كتبها عبد الوهاب محمد ولحنها السنباطي وغنتها أم كلثوم في سبتمبر 1967م في أعقابِ الهزيمةِ التي يدللونها بالنكسة ، وهي أغنيةٌ تصلحُ دستورًا لكلّ القادمين على أرض مصر إلى يوم القيامة :

قوم بإيمان وبروح وضمير

دوس على كلّ الصعب وسير

حقّ بلادك وحدك عليك

عايز منّك سعي كتير

إدّي لعملك جهد زيادة

دا الإخلاص في عملنا عبادة

………

وتزدحمُ الأغنية بأفعالِ الأمرِ ازدحامًا لم أرهُ فيما قرأتُ أو سمعت ، وفي قلبِ هذهِ الموسيقى الشعريّة واللحنيّة التي تكادُ تكون كلها من ” المتدارك “( فعلن فعلن فعلن فعلن ) ، يباغتنا عبد الوهّاب محمد بموّالٍ خُماسيّ يصلُ الماضي بالحاضرِ ويقفزُ بهما إلى المستقبل :

ياللي بنيت الهرَمْ .. قبل الزمان بزمان

وبنيت لنا ف عصرنا .. السّدّ في أسوان

كمّل لمجد الوطن … وابني كمان وكمان

خلّي الأمل بالعمل يصبح وجود ممدود

دانتَ مفيش يا بطل .. من معدنك إنسان

وهكذا …..

ماتت أغنيات الملك ، وعبد الناصر ، والسّادات ، بموتهم ، وسقطت أغنيات مبارك بخلعه ، ولم يجد مكانَهُ على ألسنةِ الناسِ إلا ما كُتِبَ لهم ، ولترابِ بلدهم ، جاءت ثورة الخامسِ والعشرينَ من يناير لتكونَ ضدَّ القُبحِ بكلّ أشكالِهِ ومن بينها القُبحُ الإبداعيُّ الذي رهنَ الوجدانَ المصريَّ ، ومن ثمَّ العربيَّ ، في قبضةِ الارتزاقِ والاستسهالِ والتسطيحِ والتفاهة ، ولم يستحِ الثّوّارُ في أنْ يستعينوا بالصدقِ القديمِ لمجابهةِ كذبِ الحاضرِ ونفاقِه ، وليعيدوا صياغةَ الواقعِ الجديدِ بما يلائمُ العصرَ والحدثَ ، وليظلَّ الدرسَ معلّقًا على نواصي الزمن ، ربّما يتعلّمُ المنافقونَ والكذّابونَ وماسحو أحذيةِ النظام ، وربّما يدركُ المتاجرونَ بنا أنّ صفعاتِ الزمنِ أقسى من أنْ تُطاق ، وأنها تأتي بغتةً لتأخذَ الثأرَ وتتركَ العبرة .

One Response to بشـيـر عيـَّـاد على مشارفِ الاحتفالِ بذكرى ثورةِ الخامسِ والعشرينَ من يناير

  1. بشير عياد

    بشير عـيـَّـاد ، شخصيًّا رد

    20 يناير, 2014 at 4:44 م

    ألف شكرٍ لـ” آسيا إن ” ولأخي المتفاني الأستاذ أشرف أبو اليزيد ، لقد جلستُ لأقرأ كأيِّ قارئٍ عابر ، حرضني على ذلك ما كتبه أخونا الأستاذ الدكتور عبد الله السمطي الذي لم أره منذ ربع القرن ، الوجبة دسمة جدًّا ، وبها آلامٌ كثيرة أرجو أن تتحمّلوها ، كما أرجو أن تغفروا لي خطأً نحويًّا لا أدري كيف وقعتُ فيه وأنا الذي أتكلّمُ الفصحى الصحيحة ولو كنت تحت تأثير ” البنج ” ؟؟؟ لقد كتبت : بدأ القرن العشرين ، والصواب : بدأ القرن العشرون ،،، فهل تسامحونني ؟؟؟

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات