تجربتي مع أشعار كو أون

05:13 مساءً الثلاثاء 6 نوفمبر 2012
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

غلاف المجموعة التي ترجمها أشرف أبو اليزيد لقصائد الشاعر كو أون

غلاف المجموعة التي ترجمها أشرف أبو اليزيد لقصائد الشاعر كو أون

لقاء الشاعر الكوري الكبير كو أون ومترجمه إلى العربية الشاعر أشرف أبو اليزيد

لقاء الشاعر الكوري الكبير كو أون ومترجمه إلى العربية الشاعر أشرف أبو اليزيد

 

لا يُذكرُ الشعر الكوري المعاصر، إلا ويُذكر أميرُه “كو أون”. وإذا زرتَ كوريا الجنوبية مرة أو مرَّاتٍ، وعشت فيها أيَّامًا أو سنواتٍ، فصعدت جبالها الخضراء والثلجية، وشممت هواءها البارد المحمل بعبير المروج، وعطور الحدائق، وعبق الشاي، أو تنسمت نسيمها الدافئ الممزوج بروائح الفاكهة والبهارات والطعام، ودخلت معابدها فسكنت لحظة في رحاب بوذا، وتأملت لحظات في طقوس الرهبان، وراقبت طيور الغابات، وأزهار البساتين، وتعرفت إلى الناس في الجنوب والشمال وإلى كائناتها الأخرى في البر والبحر والنهر والجُزر، تكون قد قرأت أشعار “كو أون”. لأن ذلك الشاعر حيٌّ في هذا كله.

خلال سني القرن العشرين، كان المشهدُ الأدبي في كوريا يسيطرُ عليه كتابٌ ونقادٌ سعوا إلى تحميل الأدب مهمة وحيدة تتلخص في التعبير عن آلام المجتمع، وخاصة معاناة الشعب خلال الحقبة الاستعمارية التي احتلت فيها اليابان الأراضي الكورية. كان الهاجس والهدف معًا أن يتم استدعاء هذه الحرب من خلال الأدب، أما ما حدث بعد ذلك من تغيير في المشهد السياسي، الذي أصبح سلطويا، فلم يجد من يعبر عن تلك الحقبة بتبدلاتها القاسية. ونتيجة لذلك اهتم النقاد ومؤرخو الأدب بالإبداع الذي يسلط الضوء على هذه التحولات، ويوثق لها.

كان من نتيجة ذلك، أن النقد الأدبي في كوريا لم يُعر إلا الاهتمام القليل للمبدعين ممن اتهموا بتجاهل الأبعاد المجتمعية. ولم يجد مسعى الإبداع الجمالي من مساندين له، بل وعدُّوا ذلك المسعى خيانة من المبدع لمسئولياته، السياسية والأخلاقية! بل أكثر من ذلك، أن شعراء كوريين ـ بسبب هذا ـ كانوا موضع شك من تلك الأقلام الناقدة، فقد كان المحتوى أهم في مقابل الأسلوب. ولم يكن “كو أون” سوى ذلك المزيج المدهش، من شاعر وروائي، يهتم بالأسلوب، دون أن يهمل مسئولياته المجتمعية.

لذلك حين قرأتُ ديوان “كو أون” الأول، تطلعت بشوق للقاء ديوانه الثاني، وما بعده، لألتهمها جميعًا ببصري وبصيرتي، وبات هاجسي أن أعثر على الترجمات (الإنجليزية) التي قدَّمت هذا الشاعر العظيم للعالم. وأسعفتني الإنترنت بقراءة مئاتٍ من قصائده التي كتبها، وتصفح عدد من رواياته، ومطالعة كثير من حواراته التي أجراها، ومعرفة الكثير من الجوائز التي نالها، والتقرب إلى عالم طوله ثلاثة أرباع القرن من العطاء لأشهر مبدعي كوريا، والمرشح لنيل جائزة نوبل في الآداب.

ولد “كو أون” سنة 1933 في جونسان، بمقاطعة تشولا الشمالية، لعائلة من الفلاحين، وقد عانى أثناء الحرب الكورية، سواء ضد الاحتلال، أو خلال الانفصال، مما دعاه ليصبح كاهنًا بوذيًّا من طائفة الزن. نشر “كو أون” أول قصائده عام 1958، وبعدها بسنوات قليلة عاد إلى العالم مجددا، ليصدر أول كتبه سنة 1960 فيصبح صوت الصراع من أجل الحرية والديمقراطية في السبعينيات والثمانينيات، وهو صراع أوقعه في براثن السجن مرارًا.

نشر “كو أون” أكثر من 150 كتابًا، بينها دواوين قصائده، ومقالات نقده، ورواياته، وسيرته الذاتية، وترجماته لأعلام الشعر الكوري، وكتبه للأطفال، وكثيرًا ما ترى رسومًا أولية لها بجانب الأشعار. كما ترجمت مؤخرًا مختارات من أعماله إلى 14 لغة، وقد وضعتُ ثبتًا بالمؤلفات والتراجم في نهاية هذا الكتاب. وقد دعي “كو أون” ليحاضر وليقرأ بعض أعماله في مهرجانات شعرية و أدبية في بلاد عديدة .

كتب “كو أون” قصائده في أشكال مختلفة ولمواضيع متعددة. فقصائده الأولى كانت معظمها على هيئة عبارات قصيرة ركزت على المفردات الموحية، وغالبا ما كان “كو أون” يستوحى قصائده من مشهد طبيعي رآه، أو من شخص لاقاه، أو من ذكريات صادفها.

إذا تحدثنا عن أحد أنواع القصائد التي يكتبها “كو أون” فسنتعرف إلى قصيدة (الزن) التي تعد تعبيرًا عن لحظة تنوير للعقل، وتتكون من حفنة كلمات، تخفي تحتها لحظة من التأمل، وهو شعْرٌ يساعد رهبان زن البوذيين على ممارسة طقوسهم، وقد ازدهرت تلك القصائد في البلدان التي عاش فيها هؤلاء.

عدا ذلك يكتب “كو أون” قصائد مطولات أو مختصرة ، لكنها عفوية، تهتم باللغة، ولقد كتب “كو أون” ملحمة من 7 أجزاءعن الصراع الكوري للاستقلال عن اليابان. وعلى عكس البعض، لم تكن السياسة جزءا من أعماله المنشورة، على الرغم من قراءته لبعض قصائد الاحتجاج في السبعينيات والثمانينيات.

إذا عدنا إلى طفولة “كو أون” نجده قد استطاع إتقان الكلاسيكيات الصينية بسرعة فائقة نبهت إلى موهبته المبكرة. وفى سني مراهقته الأخيرة، وبفضل خبرته خلال الحرب الكورية ، تم تقليده العديد من المناصب. و بعد عشر سنين من حياة التكهن، اعتزلها وعاد إلى العالم. لكن سلوك “كو أون” كان قد أصابه تغيير شديد وحاد، مما أدى إلى محاولته الانتحار سنة 1970، كما ساعد الطلاب والفنانين في ثوراتهم في 1972. وكان بين من اعتقلوا أثناء حادث شون دو هوان في مايو 1980.

استمر “كو أون” في دعم الكتاب المتصدين للديكتاتورية خلال الثمانينيات، فاعتقل أكثر من مرة، إلى أن تزوج ـ في عمر الخمسين ـ سنة 1982 من سانج ـ وا لي، أستاذة الأدب الإنجليزي، وانتقل إلى أنسونج ليعيش فيها، جنوب سيئول. وبعد عامين أنجبا ابنتهما، ولم تكن وحدها ثمرة ذلك الزواج، إذ أن هذا الرباط قدم مرحلة من أزهى مراحل الإنتاج الإبداعي غير المسبوق في تاريخ الأدب الكوري. حتى يمكن أن يطلق عليها اسم مرحلة “الانفجار الشعري”، وهي تسمية ضمن مسميات أخرى كالبركان الإبداعي التي وصفت نتاج “كون أون”، وبدأ شريان شهرته يسري في جسد العالم، سواء في أوربا أو أستراليا، أو الولايات المتحدة.

انتخب “كو أون” رئيسا لاتحاد كتاب الأدب الوطني، وكرِّم باختياره أستاذًا متقاعدًا في جامعة كونج ـ جي ، وأستاذا زائرًا بجامعات هارفارد وكاليفورنيا وبيركلي، فضلا عن عشرات الجوائز في كوريا والعالم.

يقول “كو أون”، في مقدمته التي نترجمها في تمهيدٍ لهذه المختارات الشعرية:

“في ليلة مقمرة، كان العالم على اتساع مئات الأميال من حولنا يشكل بيتًا. في ليلة مقمرة كتلك، قد تُنشدُ قصيدة، ثم تعزف على الناي، فيتوقف القمرُ في مداره السماوي، ويسكنُ هنيهات مطولاتٍ ينصتُ إلى قصائد الأرض. أيكون ما حدث شأنا سماويًّا؟ كيف يكون ذلك شأن السماء، والشمس، والقمر، والنجوم وحسب؟ اعتادت القصائدُ أن تضفِّرَ العوارض الخشبية في البيوت الكورية، وأن تتردد أصداؤها بعيدة وعالية. في البدء كان الشِّعرُ في السماء، ثم هبط إلى الأرض. وكذلك الشاعر، الذي حطَّ من، أو نفي عن السماء، ليلتقي مع قدره الأرضي”.

هكذا يؤمن “كو أون” بسماوية الشعر، وتساميه، في آن واحد. وهو يؤمن كذلك بأنه عاش فيما قبل، وأن أحلامه قد تكون مستلهمة من حيوات سابقة عليه ـ لسواه أو له هو نفسه ـ وقد تكون كذلك إلهامًا لحيوات قادمة، له أو لسواه. هذا التناسخ لروح الشعر، عبر الحلم والحياة، هو جوهر الكتابة عند الشاعر “كو أون”. وهذه الحيوات ـ السابقة واللاحقة على روح الشاعر وحلمه ووجوده ـ هي التي ألهمتني عنوان المختارات ليكون: “ألف حياة وحياة”، وأدين بنصوصها الإنجليزية لمجموعة كبيرة من المترجمين الذين نقلوها من اللغة الكورية مباشرة. لقد كانت قسوة الحياة، والفقر، والحرب، هي أدوات المحراث، والمذراة، والمنجل؛ التي مهدت التربة لينمو شعر “كو أون”. كان في طفولته كثير التطلع إلى السماء، فيرى المجرات وأذنابها تضيء الليل، فيتخيل أنها فاكهة يريد يقطفها ليأكلها. وينادي: “اقطفوا النجوم وأعطوها لي!” كنتُ أظن أن باستطاعتنا أكل النجوم. وكان ذلك قبل وقت طويل من بلوغه عتبة الشعر، يغني للنجوم، في أحلامه، بعد أن عاشت معه في الواقع. وليصبح بعد ذلك يكتبُ الشعر كما يتنفس.

هذه القصائد، القصير منها والمطول، هي جزءٌ من “كو أون”، فلستُ أزعم أنني في هذه المختارات أقدمه بشمول، حسبي أن تكون هذه هي مجموعته الأولى في اللغة العربية. ولم يشجعني على هذه التجربة إلا أنني لم أجد نفسي غريبًا عن عالمه، ففي مجموعاتي الشعرية القصيرة كان هناك ذلك الاحتفال بالإنسان وعالمه. ولذلك لم أجد صعوبة في أن أعيش قصائده، وأن أستعيد في سطورها المشاهد التي لا تزال تسكنني من رحلاتي الخمسة إلى كوريا الجنوبية. وأرى أن هذه القصائد تقدِّم رحلتين، أولى إلى الأدب الكوري عامة، والشعر الكوري على وجه الخصوص، ورحلة ثانية إلى الأرض التي أنجبت “كو أون” وقصائده.

تعذر لقاؤنا يومًا، وكانت الطبعة الكورية من روايتي (شماوس) قد صدرت، فأرسلتها له مهداة مع صديقتنا المشتركة الشاعرة والمترجمةالإيرانية “بونه ندائي”، فقبَّل “كو أون” الرواية، ووضعها على قلبه. وأنا ترجمتُ هذه القصائد لتكون قبلة لأشعار “كو أون” التي أضعها في قلبي.

 

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات