مجلة الألسن للترجمة، التي أسسها قبل عشرين عاما الأكاديمي والمترجم الفذ الراحل د. محمد أبو العطا (1956 – 2016) لتصدر عن جامعة عين شمس، في عددها الخامس عشر والمؤرخ بمطلع 2020، وتأخر عن صدوره قرابة العام، كما قال رئيس التحرير الدكتور أشرف محمد عطية، وتضم قائمة مستشاريها نخبة وأعلام الأدب والترجمة في مصر، نشرت دراستي التي استكتبني لها الدكتورة نادية جمال الدين، إحدى مستشارات التحرير، ورئيس قسم اللغة الإسبانية (سابقا)، وقد عنونت الدراسة (الترجمة عبر لغة وسيطة | تجربة ذاتية)، فجاءت في 13 صفحة (17 – 29)، لتقدم سيرة موجزة لمساري المحدود في الترجمة، والذي اخترت أن أركز فيها هنا على ترجمتي لأربعة أعمال شعرية؛ (فضاء رتيب يبعث على الكآبة) للشاعر الهندي هيمانت ديفاتي Hemant Divate، وثلاثة من الشعراء الكوريين؛ كو أون Ko Un؛ الذي نقلت مختارات له في (ألف حياة وحياة)، وتشو أو هيون Cho Oh-hyun الذي ترجمت ديوانه (قديس يحلق بعيدا)، وأخيرا (أمتطي غيمة لأبحث عنك) وهي قصائد حب للشاعر مانهي Manhae، ورأيت توثيق الدراسة بإعادة نشرها هنا في (آسيا إن).
تُعزى المقولة الأشهر في عالم الترجمة “أيها المترجم، أيها الخائن” إلى مثل إيطالي ظهر في صيغة الجمع هكذا: Traduttori traditori “”، أو “المترجمون الخونة” ضمن مجموعة من الأمثال التوسكانية في القرن التاسع عشر، والتي أشرف على جمعها شاعر ومترجم وكاتب ساخر إيطالي هو جوسيبي جيوستي Giuseppe Giusti.
قد نسأل: كيف اهتمت ثقافة شعبية في إيطاليا بفعل غير شعبي هو الترجمة؟
الإجابة هي أن المعنى الذي قصدت إليه المقولة الإيطالية قد يحمل أكثر من تفسير أبعد مما ترمي إليه الآن كعبارة إكليشيهية؛ أولها معنى “التعبير عن الحذر في الثقافة الشعبية من أية لغة لا يمكن فهمها بسهولة، وتحديداً عدم الثقة بأولئك الذين يستخدمون لغة غير مألوفة كأداة للسلطة. في إيطاليا، كان هذا يعني، تاريخياً، أولئك الذين استخدموا اللغة اللاتينية لتعزيز سطوة وسحر مهنتهم: القساوسة والمحامين والأطباء.” (1)
فهذا المثل الشعبي – الذي استند إلى التجانس الصوتي والحروفي للكلمتين – يستشف الاستياء نفسه، ببلاغة التعميم الجمعي كحكمة أو كخلاصة؛ كما لو أن الاستنتاج الوحيد الذي يمكن التعرف عليه من التجربة الجماعية الطويلة للمترجمين – أنهم أولئك الذين يحملون مفتاح المعرفة مخبأة في لغة غير معروفة للعموم– مما يجعلهم غير جديرين بثقة ما.
ربما يكون هناك تفسير ثان يتزامن مع حركات الاستعمار؛ كون المترجمين هم الساعد الأيمن للمحتل في الحوار المباشر والفهم الأعمق للشعوب المحتلة، لذا اعتقدت الثقافة الشعبية، وممثلوها، أن المترجمين يقفون في صف الأعداء، ويليق بهم حينئذ نعتهم بالخونة.
وقد بدأ المحدَثون والمنصفون بالحديث عن نوع من الترجمة يوصف بالخيانه الخلاقه، باعتبار كل الترجمات بمثابة خيانات مبدعة للنص الأصلي، ولأن كل مترجم يضفي من روحه وثقافته ما يصب في نهر النص ذلك الأول.
لكننا نشير في كل ما سبق إلى المترجمين بين لغتين مباشرة؛ ليست بينهما لغة ثالثة وسيطة، فإذا وصمنا – أو كدنا – هؤلاء المترجمين بين طريق ذي حارتين، فما بالكم بمن يسلك طريقا ثالثة، ولتكن الإنجليزية أو الفرنسية، بين النصوص الأم، والنصوص في لغتها العربية؟!
لعل الخيانة هنا ستتضاعف، والشك سيتملك الناظرين للنصوص الوليدة، وكأن اللغة الوسيطة غيرت النصوص الأصلية مرة استهلالية، ثم غيرتها الترجمة العربية مرة تالية، فنحن أمام منتج هجين – إذا صح الوصف – تلاقحت فيه اللغة الوسيطة، مع اللغة الختامية، بكل ما يتماس معهما من ثقافات ومرجعيات وتفضيلات.
وقد عرفتُ الطريق إلى ترجمة الشعر مبكرا، خلال سني الدراسة الجامعية، وكانت النصوص التي ندرسها هي حقل الاختبار الأول، لذا شغلتنا نصوص وردزوورث Wordsworth وكولريدج Coleridge وإليوتEliot ، وأودن Auden ، حتى أننا تمادينا بجرأة الشباب لنجرب نقل صوناتات شكسبير Shakespeare’s sonnets إلى العربية.
ثم كان انفتاحي على الثقافات الشرقية سببا في الوقوع بغرام ذلك الشعر النوعي والمختلف الذي كتبه الرهبان، والفلاسفة، ليقطروا فيه حكمة العمر، وكانت ندرة وجوده بالعربية سببا في قراءته في عدة دوريات تنشره بالإنجليزية، مثل فصلية الأدب الصيني The Chinese Literature ، ومن الطريف أنني احتذيت في نقل تلك النصوص المبكرة بمترجمين أساطين كثر حين ترجموا كنوز الشرق الأدبية وملاحمها شعرا، مثلما فعل الشاعر والمترجم اللبناني وديع البستاني، حين نقل (الراميانه).
درس وديع البستاني في الجامعة الأمريكية في بيروت وتخرج فيها عام 1907، ثم عمل مدرسًا للفرنسية والإنجليزية فيها حتى عام 1909، سافر بعدها إلى اليمن ليعمل كبيرًا للمترجمين في القنصلية البريطانية، ثم إلى القاهرة ليعمل موظفا حكوميا فيها، ولتتعزز صلاته بكبار الشعراء المصريين آنذاك. وما أن اكتشف وديع ترجمة إدوارد فتسجيرالد لرباعيات الخيام حتى أبحر إلى لندن عام 1911؛ ليعرف المزيد عن الخيام، وليقوم بنشر ترجمة لرباعياته عام 1912، وهي ترجمة تنتمي إلى بواكير الترجمات العربية للرباعيات.
يقول الدكتور خليل الشيخ في تقديمه لتحقيق الراميانه:
“إنّ أحدًا من دارسي وديع البستاني لم يبين البواعث التي قادته للذهاب إلى
الهند على هذا النحو المفاجئ في هذه الحقبة التي شهدت بدايات الحرب العالمية
الأولى. ويبدو لي أن وديع كان يريد عبر ذهابه إلى هناك، أن يتعرف إلى منطقة
مجهولة، وأن يقدم للقارئ العربي أدبًا جديدًا، وملاحم شعرية لا تقل أهمية عن تلك
التي سبق لعمه سليمان (البستاني) أن قدمها. زار وديع الهند عام 1912، ومكث فيها
عامين، ثم عاد إليها عام 1915، وبقي حتى عام 1916. انكب وديع على آداب الهند
القديمة، وشرع يقرؤها مستعينا بالترجمات الإنجليزية والفرنسية وباللغة السنسكريتية
التي عرفها. وقد نقل البستاني ملحمة المهبراتا التي تعد واحدة من أكبر الملاحم
الهندية إلى العربية شعرًا، مثلما ترجم بعض أشعار أكثر أدباء البنغال شهرة، وهو
رابندرانات طاغور(1861-1941) إلى العربية، وكان طاغور قاصًّا وشاعرًا ومؤلفًا
موسيقيًا ورسامًا وكاتبًا مسرحيًا. وقد نال في عام 1913 جائزة نوبل للأدب، وتمزج
كتاباته بين العناصر التقليدية والحديثة، وبالرغم من أن موضوعاته عالمية، إلا أن
النكهة البنغالية القوية واضحة في كتاباته.
كان البستاني قد زار طاغور في معهده،
ومكث في ضيافته ثلاثة أيام أطلعه فيها على ترجمته لمختارات من أدبه، نشرها وديع
عام 1917 تحت عنوان “البستاني”.
وقد نشر وديع البستاني في مجلة “الهلال” في مايو 1916 كلمة عن طاغور عندما أشارت المجلة إلى زيارته لمعهده. وجاء حديث وديع عن طاغور طافحا بالإعجاب، فقد رفعه إلى مصاف القديسين وكبار الحكماء، فرأى أن شعره مزيج من خواطر الأطفال وعواطف الأمهات، وتبيّن له بعد أن رآه عن قرب أنه “يمتلك نَفْسًا سامية، تنبعث من عينيه أشعة سنية وتسيل مع صوته الرخيم العذب نغمات”.
كما حرص البستاني أن يشير في مقدمة كل سفر إلى الفصول المترجمة، معتمدًا في ترجمته لهذه اللملحمة على ترجمة ROMESH DUTT الإنجليزية المعنونة بـ: RAMAYANA:EPIC OF RAMA,PRINCE OF INDIA التي تختار فصولًا بعينها من الملحمة تتطابق مع الفصول التي اختارها البستاني، كما تتطابق مع مقدمات الأسفار التي ترجمها البستاني إلى العربية. (2)
وتُنسب الراميانة المتكئة على الموروث الهندي المقدس إلى الشاعر فالميكي الذي يظهر بين شخصيات الملحمة، الممتدة حتى 24 ألف بيت من الشعر، وجاءت في نصها العربي في 287 صفحة.
ولعلي اضمِّن بعض سطورها الشعرية، حيث يسجل الشاعر وصفا للشتاء في بَنْشَفَات:
وخريفٌ ذهبي جاء بالطَّلِّ وراح | وشماليُّ السَّوافي صفّقت فوق البطاح
فهو وقتٌ خَضْرميٌّ من شمال وجنوب | حلّ والليلُ تولى سَحَرًا بعد غروب
فابتغى راما وُضُوءَ الصُّبح في الماء الفُرَاتِ | وبإبريق تهادت خلفه أختُ المهاةِ
قال راما لأخيه البطل البادي الحنان | صف شتاء الهند وصفا صادقا يا لقشمان
“شبم الأرواح نور فوق نور فوق نور | كعروس تتجلى بسرور وحبور
لبست أزهى وأبهى ما تسنى عندها | فهي تشدو وتغني وتحيي هندها”
في هذه الرحلة الأدبية التي قام بها البستاني عبر ترجمة أثر أدبي هندي، سكب المترجم الرحالة العربي بعضا من روحه وثقافته، حتى كأنَّ المفردات التي تشرّبت بروح النص القرآني قد تسللت إلى الملحمة، مثلما نفذ الشاعر المترجم إلى روح الهند.
بعد نحو قرن من رحلة البستاني إلى الأدب الهندي، مررتُ بالتجربة ذاتِها مع شاعر معاصر هو هيمانت ديفاتي، حين ترجمت ديوانه (فضاء رتيب يبعث على الكآبة). (3)
الشعراء (من اليمين) هيمانت ديفاتي، تشو أو هيون، كو أون، ومانهي
كنت قد تعرفت إلى الأدب الهندي، سواء عبر المنشور في مجلة “صوت الشرق” التي تصدرها سفارة الهند في القاهرة، أو بواسطة ما استطعت الحصول عليه من أشعار رابندرانات طاغور وحكمة المهاتما غاندي التي ترجمت الكثير منها شعرا. ثم كانت الثقافة الهندية إطارا للمعرفة التي أردت أن أتزود بها، في الأدب والفن والتاريخ، كي تكون عوني في رحلتي إلى مدن الهند العريقة. ولذا كانت الراميانة، مثالا، لا تفارق مكتبتي، وظل أثر الدكتور ثروت عكاشة عن الفن الهندي رفيقا لي، مثلما أمتعتني بوليوود بأفلام تختلط فيها ألوان المتعة والدهشة كما تمتزج دموع الفرح والبكاء. لكن ذلك كله أضعه في جانب، مقابل لجوانب أخرى اكتشفتها في رحلتي إلى الهند، حيث خرجت الملاحم من أسْر السطور، وعاشت الأساطير في الحياة اليومية للبشر، واختلطت رائحة البخور في المعابد بروائح التوابل في المطاعم والعرق في الشوارع، وباتت الهند الجديدة بلدا آخر، لا يبعد عن الصورة المثالية للحكمة والعجائب وإنما يضيف إليها.
لكن هندا ثالثة يجب أن نعترف بأنها حاضرة لدى قراءتنا لقصائد شاعرها المعاصر هيمانت ديڤاتي. إنها الهند التي دخلت الألفية الثالثة، بقدم تضعها في المستقبل وأخرى تشدها إلى الماضي. في كل صورة شعرية سنجد تلك المعادلة التي لا تهدأ، بين ثقافة محلية وأخرى معولمة، بين تاريخ يخص الهند وحدها، وأفق يتجاوز جغرافيا شبه القارة الهندية إلى العالم.
يُعرف الشاعر هيمانت ديڤاتي دوليا كأيقونة للشعر الماراتي الهندي. والماراتية إحدى لغات الهند الآرية يتحدث بها أبناء ولاية ماراشترا، كما أنها إحدى 23 لغة رسمية في الهند، ينطقها أكثر من 70 مليون شخص، مما يجعلها تحتل المرتبة 19 في قائمة أكثر اللغات المحكية في العالم، كما أنها رابع أكثر اللغات المنطوقة في الهند، وتعد بين الأقدم التي عاشت منذ اكتشاف أولى الكتابات بها في حوالي العام 900 الميلادي.
لكن داخل تلك اللغة الماراتية (الفصيحة) هناك لغة ماراتية (عامية)، وهي تنضح كإناء بمحكية النخبة والعوام على حد سواء. إن مسألة قراءة قصائد هيمانت ديڤاتي أمر أشبه برحلة عبر القواميس، الإنجليزية، الهندية، الماراتية ـ فصيحة وعامية ـ ولكنها رحلة لا تقف عند حدود الكتابة الآنية لمفردات القصيدة وإنما تتجاوزها عميقا، إنه يستحضر عالم الهند المعاصر أمام عيني قارئه، ليلمس بنفسه أزرار لوحة مفاتيح كمبيوتر الحياة الهندية المعاصرة.
يلتفت هيمانت ديڤاتي إلى اللحظات المهملة فيستنطقها، لتصبح أهم لحظات الحياة بعد تأملها، بحلوها ومرها، بطهارتها وقذارتها، بسموها ودنوها، كي تغوص القصيدة آخذة إيانا في رحلة مع الشاعر الذي اعترف لي إن هذا هو أصعب دواوينه، ولكنني لم أعترف له بأنه أكثر دواوينه اقترابا من الآخر، لأن العولمة التي أصابت الهند ـ بعد انفتاحها المتأخر نسبيا ـ صدمت العالم، وأصابتنا، وبات ما يتحدث عنه مفهوما لدينا، ربما تختلف الأسماء، ولكن المعاناة متماثلة.
إن قصائد هيمانت ديڤاتي أشبه بمرثيات لتاريخ اندثر وأحلام تكسرت وصور ذهنية تم مسخها، خاصة منذ حقبة ما بعد الاستقلال السياسي للهند قبل نحو 70 عاما. في هذه العقود الأخيرة فقد كل شيء معناه، حتى قصص الطفولة التي كانت تلون الأمسيات، في غيبة الكتب، تلاشت، رغم وجود تلال الكتب اليوم.
بالأمس كانت هناك قصص بلا كتب، واليوم هناك كتب بلا قصص، بكل ما تحمله مفردة القصص من معنى، قد يوازي طعم كل شيء مميز في الحياة:
“حطمت آنية الماء المصنوعة من الطمي
التي أهداها لي صديق
الهدية الوحيدة التي روت العطش
بالعطش
فلم يبق بعدُ عطش
والآن، بعد تجرُّع زجاجةٍ تلوَ الأخرى من المياه المعدنية
يبقى الظمأُ حيا لا يُروى عطشُه”
علي أن أؤكد أن المعرفة الميدانية لم تكن تفيد لولا ترجمة عن الماراتية للنصوص وإزجائها بالشروح اللازمة التي ضمنتها الديوان في هوامش القصائد، قدمها الشاعر والمترجم سارابجيت جارتشاSARABJEET GARCHA
نشر سارابجيت جارتشا SARABJEET GARCHA أول ديوان من قصائده في عام 2004. يكتب سارابجيت أيضا باللغة الهندية، وهو محرر كُتب فضلا عن كونه مترجما محنكا بفضل كفاءته في اللغات الإنجليزية والهندية والبنجابية والماراتية. كان أول ديوان له بالشعر الهندي VaaniPhirBhi Shoonyamanaa (حتى ذلك الحين كان الصوت هاديء القلب)، وقد نشر في عام 2011 واختير سارابجيت للعمل في فريق القراء النقدية للطبعة الثالثة من دار النشر الأمريكية المرموقة والمعاصرة غارنر (2009) وحصل على زمالة لمدة عامين (2011-2012) في الأدب الهندي من قبل وزارة الثقافة في حكومة الهند، وهو يعيش مع زوجته وابنه في دلهي، حيث يرأس قسم التحرير للناشر الدولي للكتب العلمية والتقنية والطبية.
في هذ النموذج، سنعرف كيف كانت شروح المترجم عن الماراتية إلى الإنجليزية أمينة في غيصال المعنى والمرجعية الضرورين للترجمة من الإنجليزية إلى العربية:
أتيت إليك أعدو مع أغراضي، مُغْلقة، مُخَزَّنة، مُعلّبًة
قلت إن فتياتِ الكلية مخادعاتٌ
لذلك ولمدة ستة أشهر لم أكن لأغمض عيني
عن عيني أي منهن
ولأنك فقط سألتني أن أفعل،
كنت أغسل أسناني بالفرشاة مرتين كل يوم،
وأصلي للإله جانباتي
وأشدو شوبام كاروتي(*)
وأذاكر دون أن تصرفني عن الدروس الكتبُ المصورة
وأترك الشِّعرَ في عقلي
حتى يذوبَ في غياهب النسيان
فقط لأنك
سألتني أن أفعل،
التهمتُ سرا
حلوى شانكار باليا(**) وتشيفدا(***) ولادوس(****) التي أعطيتها لي،
ولم أذهب لمشاهدة الأفلام،
ولم أسهر ليلا لساعة متأخرة
ولم آكل السمبوسك فادوس بالزيت(*****)
وارتديت زوجين من القمصان بالخارج والداخل
وزوجا من السراويل المثقبة لمدة عام كامل
فقط لأنك سألتني أن أفعل،
لم أدع ذكراك تبكيني
خشية أن أؤذي نفسي
لم ألعب الكريكيت، ولا خو خو(*******) وكابادي(*******)
وواظبت على لعب البلياردو، والشطرنج
في كل الأوقات التي افتقدتك فيها
بقيت بين الأصدقاء
وحين أصبح الأمر لا يحتمل بدونك
أتيت إليك أعدو مع أغراضي، مغلقة، مخزنة، مُعلبة
_______________________
شروح وإحالات للنص أعلاه:
(*) صلاة shubham karoti السنسكريتية
(**) شانكار-باليا shankar-palya حلويات متبلة ومغلفة مع مسحوق السكر، تعرف أيضا باسم shakarparé في شمال الهند. شكر يعني السكر، بالهندية
(***) وجبة chivda الخفيفة المقرمشة مصنوعة من رقائق الأرز
(****) حلوى ladduالمحلية التي تشبه الكرة
(*****) السمبوسك samosa وجبة خفيفة مثلثة الشكل ومقلوة تصنع من دقيق القمح المكرر وتحشى بالبطاطا والعدس، والفول السوداني والبصل والكزبرة والبهارات
(******) لعبة kho-kho هي لعبة شعبية هندية يتنافس فيها فريقان من اثني عشر لاعبا
(*******) لعبة kabaddi هي لعبة شعبية جدا في جنوب آسيا
تجربة الدروبي: مثال متجدد
في حقل الأدب العالمي المترجم إلى العربية يظل المترجم الأكثر شهرة، في النقل عن لغة ثالثة، هو السوري سامي الدروبي، وهنا يتساءل الكاتب والشاعر الفلسطيني فاروق وادي متعجبا كيف كان لنا أن نقرأ دستويفسكي، بأعماله الكاملة، دون تلك الخيانة الجميلة التي أقدم عليها سامي الدروبي، وإن تمّت عبر لغة وسيطة هي الفرنسيّة؟ وهل كان علينا أن ننتظر إتقاننا للروسيّة حتّى يتسنى لنا قراءته دون مساعدة تلك الخيانة المحبّذة؟
يضيف وادي:
“ما دمنا في إطار الحديث حول الترجمة عن الروسيّة، فإنه لا يمكننا القفز عن
ذلك الجهد الكبير الذي وفّرته لنا ترجمات أبو بكر يوسف لأعمال تشيخوف القصصيّة عن
لغتها الأصل مباشرة. لكن أبو بكر يوسف، الذي نقل لنا معظم تراث
واحد من أهم كتّاب القصّة القصيرة عبر التاريخ، لا ينفي أن ترجمته لم تكن بالغة
النقاء، وهو يروي حادثة طريفة لا تخلو من دلالة. فعندما أخذ عليه صديقنا الكاتب
السوري الراحل سعيد حورانيّة من أن عالم تشيخوف بترجمة أبو بكر يوسف ظلّت تشوبه
الروح المصريّة، وعبّر عن رأيه بالقول: “لقد جعلتَ تشيكوف مصرياً
للغاية”! أجابه الأخير: “لو أنك أنت الذي ترجمته، لجعلت منه سورياً”. إنها روح المترجم التي تتلبّس النصّ المُترجَم، وهي ثقافته الأولى
وتجربته الحياتيّة التي لا يستطيع الإفلات منها أو التحرر من سطوتها، الأمر الذي
يجعل من بعض خياناته مسألة مشروعة.
صالح علماني، الذي شارف على المئة
(وربما يكون قد بلغها)، ليس في عمره بالتأكيد، وإنما في عدد الكتب التي نقلها عن
الإسبانيّة، ترجم لنا عن لغة سرفانتيس، مكتبة ما كنّا سنحيط بهذا القدر من كتبها
القيِّمة، السرديّة خاصّة، دون الجهود المشكورة لهذا المترجم المبدع.. منذ أن
تطوّع لنقل ماركيز عن لغته، بعد أن اكتشفناه عبر “مائة عام من العزلة”
بترجمة عن الفرنسيّة تولاها سامي الجندي، وهي وإن تمّت عن لغة وسيطة، إلاّ أنها
فتحت المجال لترجمة هذا الكاتب العملاق مباشرة عن لغته الأم مباشرة. والأمر نفسه
حدث مع ترجمة رواية إيزابيل أليندي “بيت الأرواح” التي نقلها الجندي عن
الفرنسيّة، لتتوالى بعد ذلك ترجمة رواياتها، بجهد علماني، عن لغتها الأصل.”(4)
وما دمنا في إطار الحديث عن ترجمة دوستويفسكي الكلاسيكية السائدة في الفرنسية التي كانت أصلا لنصوص الدروبي العربية نحيل إلى ما كتبته مايا الحاج عن الضجة التي أحدثتها ترجمة الروسي – الفرنسي أندريه ماركوفيتش (مولود في براغ 1960) لأعمال دوستويفسكي الكاملة (دار أكت سود) أعادت القرّاء الفرنسيين إلى إعادة اكتشاف صاحب “الجريمة والعقاب” وقراءته بعينٍ جديدة.، بل و تعديل عناوين أثبت عدم صحتها. حيث صرح ماركوفيتش، الذي بدأ مشروعه الضخم عام 1991 مع رواية “المقامر” لينتهي مع “الإخوة كارامازوف”، إنّ “أدب دوستويفسكي لا يشبه الأدب الفرنسي في شيء. أسلوبه السردي مختلف، وكذلك جوهر أعماله. هو يغوص في منطقة لم تطأها الرواية الفرنسية. يُدخل القارئ إلى عوالم الكذب والبهتان، يضعه على طرفي نقيض، يملأ قلبه بالشكّ والقلق. هو ليس كاتباً تسهل ترجمته إلى الفرنسية، لذا فإنّ أعماله المنقولة تكثر فيها التفسيرات الخاطئة. وأنا جاهدت كثيراً كي أبدّل مثلاً عنوان “ذكريات من بيت الأموات” إلى “دفتر البيت الميت”، المطابق للعنوان الروسي.
وتسأل مايا: “إذا كانت الترجمة المباشرة من الروسية إلى الفرنسية غير دقيقة، فكيف يمكن محاكمة الترجمة العربية المنقولة أصلاً عن الفرنسية؟ وليست رغبتنا في قراءة ترجمة جديدة و “مباشرة” نابعة من ريبةٍ تجاه ترجمة الدروبي لأعمال دوستويفسكي الكاملة، وهي من أفضل ما ترجمه العرب عن الأدب العالمي، ولكن يقيناً منّا بأنّ الترجمة عن لغة وسيطة تبقى ناقصة مهما بلغت قيمتها. دخول النص في لغة جديدة ثم خروجه منها ودخوله مجدداً إلى لغةٍ أخرى يجعله متحولاً ومتلوناً وبعيداً من روحه الأصلية.” (5)
على أن الجرأة التي تأتي إلى المترجم عن طريق لغة ثالثة قد تبلغ جسارة كبيرة حين يظن المترجم أنه تعرف إلى عوالم الشعراء المترجم لهم، وزار بيئاتهم، وقرأ أعمالهم ودراسات عنها، وأنه يملك من اللغة العربية ما يمكنه أن ينقل الروح الشاعرة للقصائد حتى ولو قرأها بغير لغتها الأم، وأن لديه معرفة تاريخية واجبه بهؤلاء الشعراء، وقد يلتقيهم وجها لوجه، وهو ما تحقق لي على الأغلب في ثلاثة من الشعراء الكوريين؛ كو أون Ko Un؛ الذي نقلت مختارات له في (ألف حياة وحياة)، وتشو أو هيون Cho Oh-hyun الذي ترجمت ديوانه (قديس يحلق بعيدا)، وأخيرا مانهي Manhae، الذي رحل في القرن الماضي، لكن إرثه الحي في آثاره التي تركها والبقاع التي وطأها، كانت مجالي للعيش والسفر، فكأني كنت معه.
لا يُذكرُ الشعر الكوري المعاصر، إلا ويُذكر أميرُه “كو أون”. وإذا زرتَ كوريا الجنوبية مرة أو مرَّاتٍ، وعشت فيها أيَّامًا أو سنواتٍ، فصعدت جبالها الخضراء والثلجية، وشممت هواءها البارد المحمل بعبير المروج، وعطور الحدائق، وعبق الشاي، أو تنسمت نسيمها الدافئ الممزوج بروائح الفاكهة والبهارات والطعام، ودخلت معابدها فسكنت لحظة في رحاب بوذا، وتأملت لحظات في طقوس الرهبان، وراقبت طيور الغابات، وأزهار البساتين، وتعرفت إلى الناس في الجنوب والشمال وإلى كائناتها الأخرى في البر والبحر والنهر والجُزر، تكون قد قرأت أشعار “كو أون”. لأن ذلك الشاعر حيٌّ في هذا كله.
خلال سني القرن العشرين، كان المشهدُ الأدبي في كوريا يسيطرُ عليه كتابٌ ونقادٌ سعوا إلى تحميل الأدب مهمة وحيدة تتلخص في التعبير عن آلام المجتمع، وخاصة معاناة الشعب خلال الحقبة الاستعمارية التي احتلت فيها اليابان الأراضي الكورية. كان الهاجس والهدف معًا أن يتم استدعاء هذه الحرب من خلال الأدب، أما ما حدث بعد ذلك من تغيير في المشهد السياسي، الذي أصبح سلطويا، فلم يجد من يعبر عن تلك الحقبة بتبدلاتها القاسية. ونتيجة لذلك اهتم النقاد ومؤرخو الأدب بالإبداع الذي يسلط الضوء على هذه التحولات، ويوثق لها.
كان من نتيجة ذلك، أن النقد الأدبي في كوريا لم يُعر إلا الاهتمام القليل للمبدعين ممن اتهموا بتجاهل الأبعاد المجتمعية. ولم يجد مسعى الإبداع الجمالي من مساندين له، بل وعدُّوا ذلك المسعى خيانة من المبدع لمسئولياته، السياسية والأخلاقية! بل أكثر من ذلك، أن شعراء كوريين ـ بسبب هذا ـ كانوا موضع شك من تلك الأقلام الناقدة، فقد كان المحتوى أهم في مقابل الأسلوب. ولم يكن “كو أون” سوى ذلك المزيج المدهش، من شاعر وروائي، يهتم بالأسلوب، دون أن يهمل مسئولياته المجتمعية.
لذلك حين قرأتُ ديوان “كو أون” الأول، تطلعت بشوق للقاء ديوانه الثاني، وما بعده، لألتهمها جميعًا ببصري وبصيرتي، وبات هاجسي أن أعثر على المزيد من الترجمات (الإنجليزية) التي قدَّمت هذا الشاعر العظيم للعالم. وأسعفتني الإنترنت بقراءة مئاتٍ من قصائده التي كتبها، وتصفح عدد من رواياته، ومطالعة كثير من حواراته التي أجراها، ومعرفة الكثير من الجوائز التي نالها، والتقرب إلى عالم طوله ثلاثة أرباع القرن من العطاء لأشهر مبدعي كوريا، والمرشح لنيل جائزة نوبل في الآداب.
ولد “كو أون” سنة 1933 في جونسان، بمقاطعة تشولا الشمالية، لعائلة من الفلاحين، وقد عانى أثناء الحرب الكورية، سواء ضد الاحتلال، أو خلال الانفصال، مما دعاه ليصبح كاهنًا بوذيًّا من طائفة الزن. نشر “كو أون” أول قصائده عام 1958، وبعدها بسنوات قليلة عاد إلى العالم مجددا، ليصدر أول كتبه سنة 1960 فيصبح صوت الصراع من أجل الحرية والديمقراطية في السبعينيات والثمانينيات، وهو صراع أوقعه في براثن السجن مرارًا.
نشر “كو أون” أكثر من 150 كتابًا، بينها دواوين قصائده، ومقالات نقده، ورواياته، وسيرته الذاتية، وترجماته لأعلام الشعر الكوري، وكتبه للأطفال، وكثيرًا ما ترى رسومًا أولية لها بجانب الأشعار. كما ترجمت مؤخرًا مختارات من أعماله إلى 14 لغة، وقد وضعتُ ثبتًا بالمؤلفات والتراجم في نهاية هذا الكتاب. وقد دعي “كو أون” ليحاضر وليقرأ بعض أعماله في مهرجانات شعرية و أدبية في بلاد عديدة .
كتب “كو أون” قصائده في أشكال مختلفة ولمواضيع متعددة. فقصائده الأولى كانت معظمها على هيئة عبارات قصيرة ركزت على المفردات الموحية، وغالبا ما كان “كو أون” يستوحى قصائده من مشهد طبيعي رآه، أو من شخص لاقاه، أو من ذكريات صادفها.
إذا تحدثنا عن أحد أنواع القصائد التي يكتبها “كو أون” فسنتعرف إلى قصيدة (الزن) التي تعد تعبيرًا عن لحظة تنوير للعقل، وتتكون من حفنة كلمات، تخفي تحتها لحظة من التأمل، وهو شعْرٌ يساعد رهبان زن البوذيين على ممارسة طقوسهم، وقد ازدهرت تلك القصائد في البلدان التي عاش فيها هؤلاء.
عدا ذلك يكتب “كو أون” قصائد مطولات أو مختصرة ، لكنها عفوية، تهتم باللغة، ولقد كتب “كو أون” ملحمة من 7 أجزاءعن الصراع الكوري للاستقلال عن اليابان. وعلى عكس البعض، لم تكن السياسة جزءا من أعماله المنشورة، على الرغم من قراءته لبعض قصائد الاحتجاج في السبعينيات والثمانينيات.
إذا عدنا إلى طفولة “كو أون” نجده قد استطاع إتقان الكلاسيكيات الصينية بسرعة فائقة نبهت إلى موهبته المبكرة. وفى سني مراهقته الأخيرة، وبفضل خبرته خلال الحرب الكورية ، تم تقليده العديد من المناصب. و بعد عشر سنين من حياة التكهن، اعتزلها وعاد إلى العالم. لكن سلوك “كو أون” كان قد أصابه تغيير شديد وحاد، مما أدى إلى محاولته الانتحار سنة 1970، كما ساعد الطلاب والفنانين في ثوراتهم في 1972. وكان بين من اعتقلوا أثناء حادث شون دو هوان في مايو 1980.
استمر “كو أون” في دعم الكتاب المتصدين للديكتاتورية خلال الثمانينيات، فاعتقل أكثر من مرة، إلى أن تزوج ـ في عمر الخمسين ـ سنة 1982 من سانج ـ وا لي، أستاذة الأدب الإنجليزي، وانتقل إلى أنسونج ليعيش فيها، جنوب سيئول. وبعد عامين أنجبا ابنتهما، ولم تكن وحدها ثمرة ذلك الزواج، إذ أن هذا الرباط قدم مرحلة من أزهى مراحل الإنتاج الإبداعي غير المسبوق في تاريخ الأدب الكوري. حتى يمكن أن يطلق عليها اسم مرحلة “الانفجار الشعري”، وهي تسمية ضمن مسميات أخرى كالبركان الإبداعي التي وصفت نتاج “كون أون”، وبدأ شريان شهرته يسري في جسد العالم، سواء في أوربا أو أستراليا، أو الولايات المتحدة.
انتخب “كو أون” رئيسا لاتحاد كتاب الأدب الوطني، وكرِّم باختياره أستاذًا متقاعدًا في جامعة كونج ـ جي ، وأستاذا زائرًا بجامعات هارفارد وكاليفورنيا وبيركلي، فضلا عن عشرات الجوائز في كوريا والعالم.
يقول “كو أون”، في مقدمته التي نترجمها في تمهيدٍ لهذه المختارات الشعرية:
“في ليلة مقمرة، كان العالم على اتساع مئات الأميال من حولنا يشكل بيتًا. في ليلة مقمرة كتلك، قد تُنشدُ قصيدة، ثم تعزف على الناي، فيتوقف القمرُ في مداره السماوي، ويسكنُ هنيهات مطولاتٍ ينصتُ إلى قصائد الأرض. أيكون ما حدث شأنا سماويًّا؟ كيف يكون ذلك شأن السماء، والشمس، والقمر، والنجوم وحسب؟ اعتادت القصائدُ أن تضفِّرَ العوارض الخشبية في البيوت الكورية، وأن تتردد أصداؤها بعيدة وعالية. في البدء كان الشِّعرُ في السماء، ثم هبط إلى الأرض. وكذلك الشاعر، الذي حطَّ من، أو نفي عن السماء، ليلتقي مع قدره الأرضي”.
هكذا يؤمن “كو أون” بسماوية الشعر، وتساميه، في آن واحد. وهو يؤمن كذلك بأنه عاش فيما قبل، وأن أحلامه قد تكون مستلهمة من حيوات سابقة عليه ـ لسواه أو له هو نفسه ـ وقد تكون كذلك إلهامًا لحيوات قادمة، له أو لسواه. هذا التناسخ لروح الشعر، عبر الحلم والحياة، هو جوهر الكتابة عند الشاعر “كو أون”. وهذه الحيوات ـ السابقة واللاحقة على روح الشاعر وحلمه ووجوده ـ هي التي ألهمتني عنوان المختارات ليكون: “ألف حياة وحياة”، وأدين بنصوصها الإنجليزية لمجموعة كبيرة من المترجمين الذين نقلوها من اللغة الكورية مباشرة. لقد كانت قسوة الحياة، والفقر، والحرب، هي أدوات المحراث، والمذراة، والمنجل؛ التي مهدت التربة لينمو شعر “كو أون”. كان في طفولته كثير التطلع إلى السماء، فيرى المجرات وأذنابها تضيء الليل، فيتخيل أنها فاكهة يريد يقطفها ليأكلها. وينادي: “اقطفوا النجوم وأعطوها لي!” كنتُ أظن أن باستطاعتنا أكل النجوم. وكان ذلك قبل وقت طويل من بلوغه عتبة الشعر، يغني للنجوم، في أحلامه، بعد أن عاشت معه في الواقع. وليصبح بعد ذلك يكتبُ الشعر كما يتنفس.
هذه القصائد، القصير منها والمطول، هي جزءٌ من “كو أون”، فلستُ أزعم أنني في هذه المختارات أقدمه بشمول، حسبي أن تكون هذه هي مجموعته الأولى في اللغة العربية. ولم يشجعني على هذه التجربة إلا أنني لم أجد نفسي غريبًا عن عالمه، ففي مجموعاتي الشعرية القصيرة كان هناك ذلك الاحتفال بالإنسان وعالمه. ولذلك لم أجد صعوبة في أن أعيش قصائده، وأن أستعيد في سطورها المشاهد التي لا تزال تسكنني من رحلاتي الخمسة إلى كوريا الجنوبية. وأرى أن هذه القصائد تقدِّم رحلتين، أولى إلى الأدب الكوري عامة، والشعر الكوري على وجه الخصوص، ورحلة ثانية إلى الأرض التي أنجبت “كو أون” وقصائده.
تعذر لقاؤنا يومًا، وكانت الطبعة الكورية من روايتي (شماوس) قد صدرت، فأرسلتها له مهداة مع صديقتنا المشتركة الشاعرة والمترجمةالإيرانية “بونه ندائي”، فقبَّل “كو أون” الرواية، ووضعها على قلبه. وأنا ترجمتُ هذه القصائد لتكون قبلة لأشعار “كو أون” التي أضعها في قلبي.
مقدمة الشاعر لديوانه (أزهارُ اللحظة) (6)
لستُ أدري ما السبب، لكن الليلة ساكنة، راكنة تمامًا.
سكونٌ محيطٌ وكأني أكادُ أسمعُ رمالا تذروها الرِّيحُ تغني على مدارج جبل “مينجشا” الزَّلقة في “دون هوانج”، بعيدًا على طريق الحرير، تخترقُ كل تلك المسافات.
آلاف الأميال الصامتة!
هل يكونُ ذلك صوت فراغ ينادي على فراغ، أم صدى أسماء تستدعي أسماءً؟
هذا الصوت الساكن لشخص ما، يشق الطريق التي تقبع وراء الخير والشر، صوت بلا صوت، كما لو كان ينادي على النيرفانا. صوت الدَّائرة المفرَّغة، لما وراء البهي والقبيح، لما خلف الطيب والشرس، بل هو صوت يتجاوز كل ما على شاكلة ذلك، ربما ليصل إلى الحالة التي قد يختفي فيها ذلك الصوت.
هاأنا ذا أتجرَّأ لأحرِّك هذا السكون.
ربما كان سؤال العالم الأول، “ما هي القصيدة؟” ولعل ذلك كان السببُ ـ خلال العصور المتوالية، وعند لحظات حرجة ـ لا يزال هذا السؤال “ما هي القصيدة؟” يطرحُ نفسه، دون كلل، أو ملل، أو فشل.
منذ ستين ألف سنة مضت، كانت شعوب “الناندرثال” تحرقُ موتاها، وتزين نعوشهم بغصون خضراء، وسنابل أرجوانية، وأقحوان ذهبي متوّج، وعراقيب مقدسة، وسواها، ثم يضعون الجسد فوقها. هذا ما اكتُشِف في كهوف بالعراق. وكان جسد صبي من العصر الحجري، قبل عشرين ألف عام، قد اكْتُشِف في كهف بكوريا بمقاطعة تشونجي هونج، وعلى حاجبيه أقحوان متحجر. الأمر نفسه في مصر، حين عثروا على أكاليل زهور على رأس الفرعون الصبي توت عنخ آمون، الذي مات قبل ثلاثة آلاف وثلاثمائة سنة خلت.
أنا على اقتناع تام، بأن طقس تقديم هذه الزهور هو لبُّ الشعر. فالشعرية، ونظريات الشعر التي نشأت في الشرق والغرب، منذ العصور الكلاسيكية، تتشابه في كونها مرت بتطورات جمَّة. ومنذ الأزل، كان الناس يتلون صلواتهم، بقلوب ملؤها الشعر، على موتاهم، لكي يبعثوا في العالم الآخر، عالمًا من الأزهار، حيث تمثل تلك الجنانُ الأسى الناشئَ بين الحضور والغياب.
وكما انحاز الشعرُ للإنسانية على مدى عشرات الآلاف من السنين، فقد أصبح، بمرور الزمن، أصدقَ ما يعبِّرُ عن كنه ذلك الزمن. إن بيتا واحدًا من الشِّعْر، بل وربما كلمة واحدة منه، قد تبعثُ فيَّ عشرة آلاف زهرة!
الشعر، دون شك، عهدٌ نقطعُه على أنفسنا للمستقبل. لذا يعلن عن لبِّ خلوده كما لو كان حلمًا. وبعدد البشر، تتعدد الأحلام.
اكتشفتُ أنني مفتون بآثار الخطى الرُّوحانية، تلك التي تركها الشعراء السابقون عليَّ. أحلام هؤلاء الشعراء لا تزال تضيء. تبدأ نبوءات بعض الشعراء في أحلامهم.
يقالُ أن شاعرًا استعار من حلمه خمسة ريشات للكتابة، كل منها ذات لون مختلف، وكتب بها قصائده. ثم أنه، أعاد الريشات لأصحابها خلال الحلم، فلم يأتهِ إلهامُها أبدًا! وحين وجد نفسه بلا قصيدة، لم يجد سببًا لتستمر حياته، فرحل عن عالمنا.
شاعرٌ آخر بدأ ـ بالمثل ـ بالأحلام. في أحدها وجد نفسه يتقيَّأ عنقاء لها ذيلان؛ طارت وحلقت عاليا، وفي اليوم التالي وما بعده، انهمرت القصائد المجنحَّة من تلقاء نفسها.
شاعرٌ آخر، بدأ، أيضا، حياته عبر الأحلام. ذات مرة، تفتح برعمُ زهرة “الفاوانيا” على طرف غصن في ذلك الحلم، غير أنه بين الرؤيا واليقظة، كتبَ عشرة آلاف قصيدة تجعلُ كل الأرواح ـ في السماء وتحتها ـ تبكي. لم يكن الأمرُ متعلقا بالقصائد وحسب، لأنه احتسى أيضا عشرة آلاف كأس من الخمر، أثناء كتابته لتلك القصائد. في حياته كان هو العالَم، وفي مماته تجسدت الأكوان فيه.
ثم أن شاعرًا سواهم بدأ كذلك بحلم. كان يمضي على طريق برية، زلقة، وصخرية، إلى حيث ينبت العشب في الأعالي. كان هناك راع قد وصل قمة الجبل مع قطيع أغنامه. وحين نظر إلى العالم من عل، فغلبه سلطانُ النَّوم.
جاءته في الحلم تسع حوريات. فاستيقظ. فإذا به في الواقع حوله الحوريات التسعة. وفي صوت رائق، كما لو كان صوت حجر كريم يرن في الهواء الشاف، تحدثت إحداهن: “منذ الآن، ستكون شاعرًا. شاعرٌ يغني الحقيقة كلها للعالم”.
آنئذ، كان الرّاعي الأمي، الذي كان يجهل ما معنى القصيدة، قد بدأ حياته كشاعر. وانطلقت من بين شفتيه نافورة لا تتوقف من القصائد. وعلى الرغم من تدوين تلك القصائد، فإنها لم تكن مصطنعة، بل وهبت ذاتها حياتها.
أتكون كل هذه الأحلام، لكل أولئك الشعراء، ملكًا لي، فأكون حلمتُ بها أيضًا، في هذا العالم، وسواه؟
إن عددًا من قصائدي ـ دون شك ـ كانت الأحلام أجنّتها. في الليلة الماضية وحسب نهضت قصيدة في أحلامي ـ هي من بنات أفكاري، بالقدر الذي قد تكون قصيدة سواي. هذا الشخص المجهول ربما يكون كذلك هو أنا في حيوات سابقة. وربما يكون شخصا سأصبحُه في عالم مستقبل.
هاهي القصيدة:
قدِّمي حياتك كلَّها قربانا للظلمة،
أيُّتها الرقطاء،
أيتها الموجات المتسارعة،
الساحقة الماحقة النافِذة،
الضاربة لمنحدرات الصخر في الظلام.
فسيولدُ الضوء. وسيأتي الفجرُ.
حين تذكرت القصيدة بعد استيقاظي، وجدتها استثنائية. بعض قصائد الأحلام طويلة، وتختفي تمامًا لحظة الاستيقاظ، لكنها على الأغلب تكون مثل تلك القصيدة، ليست طويلة. تنبت جذور قصائدي الموجزة في حلمي.
تخيل أن شاعرًا يكتب قصائده وهو على ظهر حمار. إنه حين يسعل، فإن بصاقه سيكون قصيدة. بعض الشعراء يقولون أنهم يشربون الشعر. أحدهم قال مرة إنه يتنفسُ الشعر.
توقفت في طريقها سحابة تجرها الريح.
في ليلة مقمرة، كان العالم على اتساع مئات الأميال من حولنا يشكل بيتًا. في ليلة مقمرة كتلك، قد تُنشدُ قصيدة، ثم تعزف على الناي، فيتوقف القمرُ في مداره السماوي، ويسكنُ هنيهات مطولاتٍ ينصتُ إلى قصائد الأرض.
أيكون ما حدث شأنا سماويًّا؟ كيف يكون ذلك شأن السماء، والشمس، والقمر، والنجوم وحسب؟ اعتادت القصائدُ أن تضفِّرَ العوارض الخشبية في البيوت الكورية، وأن تتردد أصداؤها بعيدة وعالية. في البدء كان الشِّعرُ في السماء، ثم هبط إلى الأرض. وكذلك الشاعر، الذي حطَّ من، أو نفي عن السماء، ليلتقي مع قدره الأرضي.
ولا يكون ذلك ـ بالطبع ـ دون صراع داخلي أليم، حين تواجهنا أسئلة من قبيل: “ما ذا يعني الشعرُ في مواجهة العدوان، والقهر، والفقر؟” و”ماذا يعني الشعر في عالم ملؤه الجشع، والجهلُ، والمرض؟” حتى مع مواجهة التحدي في السؤال عما إذا كانت كتابة الشعر ممكنة بعد التطهير العرقي، حين يفقد الشعر جلاله. لقد بدأت كتابة أولى قصائدي كما لو كانت فسائل عشب، تنمو من بين الأنقاض التي خلفتها الحربُ الكورية، التي خلفت وراءها زهاء أربعة ملايين فقيد.
لقد مزج الرَّاهب البوذي الكوري القديم “وونهيو” بين الحقيقة التي تعتمد على الكلمات، مع الحقيقة الصامتة. هنا تبدأ إمكانية دخول الشعر إلى حالة من المفازات الغامضة تتجاوز حدود الحكي.
وفي علاج الوساطة الروحانية للبوذي شيون، هناك إنكارٌ تام للكلمات والكتابات. رغم ذلك، وبعد تمام الهدف، فإن أزهار الكلام تتفتح من براعمها على نحو مماثل.
لقد كتبتُ قصائد مطولاتٍ، جدًّا، وسطرت عدة ملاحم. لكن قصائد “أزهار اللحظة” هذه تأتي عكس ذلك.
سِر في طريقِك.
أنت الأول، والآتي بعد الأول.
فامض، وامض.
حيث ستبدو في المرآة،
خطواتك السريعة.
أنت لسان صغير لنرجس الربيع وسط عاصفة ثلجية.
(2) ترجمة ديوان تشو أو هيون (قديس يحلق بعيدا)
سعدت بلقاء الشاعر تشو أو هيون أكثر من مرة، وهو يرسم بروح مفعمة بالحب، رغم بعض التأملات الفلسفية التي قد يشيع منها شعور باللاجدوى: “لا سبيل للتقدم، لا سبيل للتراجع، أنظر حولي، فلا أجد إلا سماء خاوية وجرفا لا نهاية له. إنها سخافة: أن أطوف طيلة حياتي، فقط كي أصل إلى حافة هذا الجرف. يهبطُ الضبابُ حولي ليزيدَ ارتباكي، هذا الجرفُ هنا، حيث يجبُ أن أحطَّ الرحالَ لذاتي أخيرًا، بالحياةِ والموتِ معًا. إنه عبثٌ: أنَّ كلَّ ما قبضتُ عليهِ طيلةَ حياتي ليس سوى الضباب”. (7)
أصبح الشاعر تشو أو ـ هيون (1932- 2018) راهبًا بوذيا سنة 1958، ثم بدأ مسيرته الأدبية في 1966، ليكون واحدًا من الأسماء المرموقة في عالم الشعر. نال تشو أو ـ هيون عدة جوائز رفيعة في كوريا، فحصل عام 2007 على جائزة تشونج شيونج الأدبية عن ديوانه (قدِّيس يُحلقُ بعيدًا)، وشغل حتى قبيل وفاته منصب مدير معبد (بائيكتام) في شمال غرب كوريا الجنوبية، حيث يلقب في المعبد باسم (ماناك)، بينما يحتفظ باسمه البوذي (موسان) .
من قصائد ديوان (قدِّيس يحلق بعيدًا):
صَعَدْتُ أعاليَ جَبلِ (نامسان)،
راقبتُ الشمسَ وهْيَ تأفلُ غاربةً.
كانت مدينة (سيئول) سربًا
من زبدٍ أحمر داكن يتغرغر.
هذا هو جسدي؛ لم يكن أكثر من مجرد عَلقةٍ
عالقةٍ في ورقةٍ طحلبٍ في هذا السرب.
هناك نِساءٌ لسْنَ كمثل النِّساء
حتى تُسَمَّى إحداهن امرأةً.
عليك أن تشبهَ وترًا في آلة “كومنجو”،
متى مَا جئْتَ، وأيْنَمَا حللتَ.
ولكن بعْدَها
يجب أن يكون هناكَ رجلٌ
ينتظرُ في ثنايا دهْرٍ لا نهاية له.
(آلة “كومنجو” الموسيقية، هي “قيثارة” كورية لها ستة أوتار).
يتنوّعُ الحبُّ.
الحب الحقيقي
عليه أن يشيِّدَ على الأقل
جِسْرًا من الحَجَر
فوقَ تيَّار متدفقٍ.
على أنْ تصلَ مسافةُ العودةِ للقاءِ
بين ذلكَ الجسْر والعالم الآخر.
لا سَبيل للتقدُّم،
لا سَبيل للتراجُع.
أنظرُ حولي، فلا أجدُ
إلا سماءً خاوية وجرفًا لا نهاية له.
إنها سخافة:
أن أطوِّفَ طيلةَ حياتي
فقط كيْ أصلَ إلى حافةِ هذا الجرفِ.
يهبطُ الضبابُ حولي ليزيدَ ارتباكي
هذا الجرفُ هنا
حيث يجبُ أن أحطَّ الرحالَ لذاتي أخيرًا
بالحياةِ والموتِ معًا.
إنه عبثٌ:
أنَّ كلَّ ما قبضتُ عليهِ طيلةَ حياتي
ليس سوى الضباب.
ألوِّحُ بيديَّ، حتى لأسرابِ الطيور التي تحلقُ بعيدًا،
ألوِّحُ بيديَّ، حتى للمارِّين بي،
نحن الفزَّاعاتُ التي تبتسمُ وهي تَعْمَلُ
في حقولِ أرْز الآخرين.
أقفُ بساقين منفرجتين فوق ضفافِ حقل الأرز
في سنواتٍ حصادها سخاء،
وفي سنواتٍ حصادها ضنين،
ناظرة إلى حقل الخريف،
حقلي أو حقل سواي،
لا أتقاضى أجرًا،
وأقول أنا الفزاعة البسَّامة.
رغم قول البشر إني فزاعة،
يحدث حين أفرغ رأسي، وأفرد ذراعيَّ،
أن كلَّ شيءٍ، حتى السَّماء،
يأتي إلى فضائي الحميم.
هناك، ينضجُ حبُّ الجدِّ لحفيدِه
مثلَ ثمرةِ يُوسُفي.
ويَكْبُرُ حبُّ الجدّةِ لحفيدتِها
مثل صلصة الفلفل.
وفي خاتمة اليوم أدركُ
فجوة ريح الصباح.
لنصفِ يوم أستمعُ لأغنياتِ الطيور
في الغابة.
لبضْع ساعاتٍ قربَ البحر
أستمع لموجات البحر.
متى سيحينُ لي أنْ أسْمعَ
صوتَ بكائي؟
في العقود الأولى من القرن العشرين، كان الراهب البوذي هان يونج أون (1879 – 1944)، والمعروف كذلك باسم مانهي (وتعني “عشرة آلاف بحر”)، يخاطبُ قراءه في حاشية تذيّل قصائد الحب التي نشرها في ديوانه ” كل شيء شغفت به” مدعيا أنه “حييٌ حين أقدم نفسي إليكم كشاعر.”
هكذا لم يكن مانهي ينظر إلى نفسه كشاعر، لكنه مثل كثير من الرهبان البوذيين الذين سبقوه، ولحقوا به، كان لديه ضعف تجاه التعبير بالنظم، يبدو في تأملنا للقصيدة التالية، “فجر كوخ جبلي”؛
“صاعِدَةً، تُحَلِّقُ ندَفُ الجَليدِ خَارَجَ النَّافذةِ
لتغطيَ الجبالَ ـ حينَ يحلُّ الفجرُ الآنَ.
منازلُ القريةِ الدافئةِ تبدو كصورةٍ ـ
دفقةَ إحساسٍ شعريٍّ، يُنسِي حتى المرض”.
هذه القصيدة شهادة على ممارسة الشعر للراهب الكلاسيكي، خاصة وهو ممن هم ينتمون إلى تقاليد طائفة الزن /التشان (sĕn بالكورية)، مغلفا بإطار الطبيعة، مع تفعيل يقظته المنتمية للحياة، لحظة بلحظة واقتناصها بمفردات الشعر.
وعْي مانهي المتدفق حياة بالمشهد خارج نافذته يحول كل إدراك يومي إلى قطعة من الفن – حتى تبدو منازل القرية “مثل صورة”، وهذا الصحو يتم تجسيده في وحي شعري يتجاوز الضعف المادي الذي يهدد الحواس بخطر الفناء.
صاغ مانهي الشعر باللغتين الصينية والكورية. هناك 164 قصيدة صينية باقية، نظمت عبر فترة تجاوزت ثلاثين عاما (1909 – 1939)، منها “فجر كوخ جبلي”.
من قصائده الكورية، تسعون قصيدة، كتبت في صيف 1925 في معبد بائكدام البوذي، في جبال سوراك Sŏrak ،حيث تم تنصيب مانهي راهبًا في 1905. وتعتمد الشهرة الحالية التي نالها مانهي في كوريا على هذه المجموعة من القصائد.
في ديوانه الذي اخترت منه القصائد التي ترجمتها في الصفحات التالية، ويحمل عنوان “صَمْتُ كل شيء شغفت به” قصائد قوامها الحب؛ فالقصيدة الأولى؛ “صمتُ حبيبي”، تحكي عن رحيل الحبيب وتؤسس الثيمات الأساسية للعمل: سعادة اللقاء، حزن الفراق، عذاب الشوق والانتظار، وأكثر من ذلك كله، معاناة الحب التامة في غياب الحبيب.
ما يمكننا فهمه، أن هوية حبيب مانهي، أو “نيم” باللغة الكورية ، أضحت موضوعا له افتراضات كثيرة. في تناقض مفاجيء للغة الديوان الحسية، طالما فضل الكوريون القراءة الاستعارية غير الرومانسية والحاسمة لمفردة الحب / نيم حيث خضع مسقط رأس مانهي للاحتلال الياباني (1910 – 1945).
هذا التفسير السياسي المجرد على نحو كبير تم تأكيده عبر القراءات المستمرة لمقدمة مانهي الشهيرة لديوانه “صمت كل شيء شغفت به”، والتي يبدو أنها تشجع هذه التفسيرات الاستعارية للقصائد:
“نيم” ليس الإنسان المحب وحسب، بل كل شيء يكون الشوق إليه.
كل الكائنات هي “نيم” بالنسبة إلى بوذا، والفلسفة كانت هي “نيم”.
مطر الربيع هو “نيم” الوردة، وإيطاليا هي “نيم” ماتزيني.
“نيم” هو ما أحب، وهو أيضا من يحبني”.
إصرار مانهي على المعنى المنفتح بلا نهايات لكلمة / مفهوم / كون “نيم” هو استخدام له علاقة بالتقاليد الكورية؛ حيث لا يعبر “نيم” عن عاشق وحسب بالمغزى الرومانسي والحسي، ولكنه أيضا أي شخص وأي شيء في إطار حالة العشق – سيادة المرء السياسية، والديه، مُدرِّسه؛ بلدُ المرء، الإنسانية، الله.
يفضل مانهي أن يلتقط الدين، بالإضافة إلى الفلسفة والسياسة. لهذا السبب، يبرز جليا أن أقوى ما يجادل القراءة السياسية للنيم يختلف، فالتفسير الديني يبدو مشابها تماما للسياسي حين نفترض أن “حبيب” مانهي استعاري، وليس شخصية حقيقية مادية موجودة في حياته.
هذا التفسير الاستعاري له سببه، وهو تاريخ مانهي النضالي، حيث قاوم ـ سلميا ـ احتلال اليابان لبلاده، وكتب عريضة الاستقلال التي وقعها 33 من المثقفين والمناضلين ضد الاحتلال.
حين زرت متحفه في معبد بائكدام البوذي، في جبال سوراك، حيث تقيم مؤسسة مانهي فعالياتها الثقافية، رأيت من تلك الآثار لوحات ومخطوطات وكتبا في طبعاتها الأولى، ولافتات، وأدوات استخدمها الشاعر في حياته. وفي الثاني عشر من أغسطس من كل عام تقدم جائزة كُبرى باسمه، تخليدا لمباديء الحرية والسلام التي دافع عنها، وتُمنح في فروع الأدب، والفن، وخدمة المجتمع، والسلام. وقد شرفتُ بأن منحتني مؤسسة “مانهي” هذه الجائزة السامية في الآداب عام 2014.
من ديوان مانهي، قصيدة “صمتُ حبيبي”، التي نقلتها للإنجليزية الناقدة والمترجمة فرانشيسكا تشو (Everything yearned for: Manhae’s poems of love and longing, translated and introduced by Francisca Cho, 2005)، التي اعتمدتُ على شروحها ومصادرها في إنجاز هذه المجموعة المختارة باللغة العربية، يقول:
مضى حُبِّي.
آه، ومضى مَنْ أحبُّ.
عابرةً الممر الضيق نحو دغْل أشجار القَيْقبِ الذي يفصل خُضرة الجبل، كما انفصلتِ مبتعدة عني.
الوعودُ، مثل براعمِ الذهب البراق، تضحي رمادا تنثره الريحُ الناعمةُ.
ذكرى أول قبلة عنيفة غيرت قدري للضد ومن ثم، انسحبت، وتلاشت إلى اللاشيء.
هُزمْتُ بصوتِها العطِر؛ أعماني وجهها الذي يشبه الزهر.
الحبُّ شأنٌ إنساني ـ حينا التقينا كنت بالفعل أخشى الرحيل، ولا أزال رغم الانفصال، ينبض قلبي بالحزن الطازَج.
لكنّا حين نحوِّلُ الرحيل إلى دموع عديمة الجدوى كأنّا ندمر الحب، لذا جعلت من قوة الأسى أملا جديدا.
ومثلما خلق اللقاءُ قلقَ الفراقِ، خلق الرحيلُ أملَ اللقاء مجددا.
مضى حبي، لكني لم أودعها.
أغنيتي المعتادة للحب تلف نفسها حول صمت حبيبي.
أما قصيدته “لستُ أعرف” فيقول فيها:
وقع أقدام مَن الذي يرقرق ورقة زهرة البولفينيا (زهر صيني عطر) عبر الهواء الساكن؟
وجهُ مَن الذي تزفره السماء عبر السحب الداكنة يحركها زفير نهاية موسم المطر؟
نَفَسُ مَنْ ذلك العطر المجهول يطفو عبر مَجْمَع الطحلب الأخضر؟
في الغابة العميقة، غير المزهرة، وهو يطلي بريشته السماء الهادئة فوق الباجودا (بناءٌ كالبرج) العتيقة؟
أغنيةُ مَنْ ذلك التيار المتدفق بنعومة مجهول المنبع وهو يرشرش مصطدما بالأحجار؟
شِعْرُ مَنْ ذلك الوهج العاشق للشمس الماثلة، بأياديها التي تشبه أحجار اليَشَم وهي تلاطف السماء اللانهائية وهضباتها التي تشبه زهرات اللوتس وهي تعبر فوق المحيط غير المحدود؟
بعد الاحتراق، تعود الجمرات وقودا مرة أخرى.
مصباحُ مَنْ الخابي قلبي، الذي يحترق لأسباب مجهولة على مدار الليل؟
عدا الشعر، ترك مانهي لمحبيه آثارا مادية؛ منها هانوك عاش به (الهانوك: البيت الكوري التقليدي)، وهو يشبه صومعة صغيرة على منحدر منعزل في سيونج بوك دونغ، بالعاصمة الكورية سيول. هنا عاش هذا الراهب البوذي والشاعر المناضل في هذا البيت كناسك في السنوات الأخيرة من حياته. لا ينسى أحد دوره الرائد في تحديث البوذية في كوريا. لقد أصر أن يجعل باب منزله مواجها للشمال، لأنه أراد أن يعطي ظهره لمكتب الحاكم العام الياباني في الجنوب. وقد سمى تلك الدار Simujang. وكلمة (سيمو) تعني حرفيا “البحث عن بقرة” كما لو كانت إشارة لعملية استعادة البشر لطبيعتهم الحقيقية. وعندما تزوج في عام 1933، أهداه المقربون منه هذا البيت.
كرس مانهي نفسه لحركة الاستقلال، وقدم للمثقفين الكوريين نفسه كنموذج حي للكفاح ضد الإمبريالية اليابانية. وحين واجهه شعور عميق باليأس، كتب قصيدة (عشاق الصمت في بلادي). وافته المنية في هذا البيت في يونيو 1944، قبل عام من تحرير بلاده. تحرير البلاد
ختاما، لم أشر في تجاربي المختارة عبر الإنجليزية إلا لدواوين ثلاثة، فلم أضع تجربة ترجمتي الأحدث (عطايا الخلايا الجذعية) لأنه كتاب علمي، ولأن مؤلفه الكوري، العالم الدكتور تشونج هيونج را، هو الذي تولى مراجعة ترجمته الإنجليزية بنفسه. والطريف، أن تلك اللغة الثالثة؛ الإنجليزية، كانت هي الوسيط في ترجمة فارسية لمختارات أشعاري، أعانتني على شروح دواويني لمترجمتها البروفيسورة نسرين شكيبي ممتاز في ترجمتها الفارسية (ذاكرة الفراشات) أو (خاطرات بروانه ها)! (8)
لكن يبقى التأكيد على أن روحًا من المترجم تتقمص شخصية الشاعر المترجم له، وهي الروح التي تجعل من الترجمة عبر لغة ثالثة بمثابة لغة أولى ـ أو تكاد.
_______________________
هوامش
http://www.alhayat.com/article/891852/عودة-دوستويفسكي-العربي-مغتربا-عن-لغته-الأم
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.