أيّ شيء … مقطع من رواية “بخور عدني”

04:33 مساءً الجمعة 11 يوليو 2014
علي المقري

علي المقري

شاعر وروائي من اليمن

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

ما إن هبطتُ من السفينة إلى ميناء عَدَنْ، برجلين مثقلتين بالعرج، حتى رغبتُ في الجلوس على أقرب رصيف لأكتب إليكِ. أردتُ أن أخبركِ بأنَّني نجوت، أو أنَّ هذا ما شعرتُ به، بعد رحلة طويلة قادني فيها البحر إلى هذا المرفأ البعيد، حيث صار عليّ أن أطلب العذر منك، إذْ استجبتُ، فجأةً، للقلق المحرِّض، ومضيت معه دون أن أودّعك.

أردتُ أن أكتب، لكنّني انتبهت، وأنا أمسك بالقلم والدفتر، إلى أنَّني لا أستطيع أن أوجّه رسالة إليكِ، بل لا أستطيع أن أوجّه ما أكتبه إلى أيّ أحد ممن أعرفهم؛ فالشخص الذي تعرفينه لم أعد أنا هو، وأنتِ لستِ أنتِ، أو لم تعودي كذلك، أو أنَّني لا أقدر أن أبقيك كما كنتِ عليه، باسمكِ وعنوانك وبما يمكن أن يدلّ عبرك إليّ؛ فإذْ صرتُ غير الذي كُنته، فقد صار كلّ الذين ارتبطوا بي غيرهم.

رغبتُ، وأنا أمضي خطواتي الأولى في عدن، في إخفاء الاسم والأوراق التي حملتها معي، كدليل هويّة. فكّرتُ باختيار اسم جديد لي، يكون مقطوعاً من شجرة، كما يقولون؛ لا عائلة تدل عليه ولا مكان يُنسب إليه. ما يهمّ إذا قلتُ إنَّني جون من مارسيليا، أو جان من روان، أو باتريك من لندن أو من نيويورك، وبدون أوراق. أي اسم ومن أي مكان.

انشغل ذهني في كيفية تحقيق ما أرغب فيه، وتاه في الأسئلة. هل أريد فعلاً أن أخفي الهويَّة التي أحملها؟ لم أعد، في الحقيقة، أقوى على تجميع ملامح هذه الهويّة أو تشخيصها، بما في ذلك ثُقل العرج المصاحب لي. أسأل نفسي: فرانسوا أم ميشيل؟ لقد صرتُ أصدّق نفسي، حيناً أنَّني من لندن، وحيناً آخر من نيويورك، أو من فلورنسا، أو من مارسيليا.

مع هذا، أقول مع هذا، لم أستطع أن أجد لكِ اسماً آخر غير شانتال، فهذا هو اسمكِ الحقيقي، أو أنَّني أظنّه هكذا. ليكن اسمكِ شانتال؛ ما المشكلة؟ أمّا أنا فليكن اسمي لا أحد، I am nobody ، ولكن حتى هذا اللا أحد يعتبر شيئاً موجوداً وأنا لستُ أكثر من شيء. لأُدْعَى: أيّ شيء.

«أنا أيّ شيء» قلتُ مجيباً على سؤال موظف فندق كريسنت بالتواهي عن هويَّتي؛ لكن هذا الاسم لم يُقبل، وأمضيت ما يقرب من ساعة أحاول تثبيته، أو على الأقل قبوله للتسجيل في دفتر الفندق لأنام فيه، بدون أن يصحب هذا الاسم بطاقة هويَّة أو جواز سفر أو أيّة ورقة.

في السفينة سمعتُ حديثاً عن الفندق. اكتفيت بحفظ اسمه ولم أصغِ إليهم جيّداً وهم يتحدّثون عن طرازه المعماري.

قلت لعمّال الاستقبال الذين تحلّقوا ليعرفوا مشكلتي: اسمي أيّ شيء، أنا أيّ شيء وكفى. لكنّهم لم يتفهموا. أحدهم، بدا من ملابسه أنّه هنديّ، ابتسم وطلب مني جواز سفر؛ كان يظن، ربّما، أنَّني ثمل. بقي واثنان آخران، بملامح أوروبية وأفريقية، يوجّهون لي الكثير من الأسئلة ويتناقشون فيما بينهم، وفي الأخير تدخلت الفتاة، التي كانت قد وصلت لحظتها، بإلحاح أشعرني أنَّني قُبلت. بالتحديد، ليس الفندق هو من قبلني، وإنّما عميلته الصغيرة التي أخذت بيدي إلى المكان الذي صرتُ فيه.

انتبهتْ إليّ فور مجيئها وأنا أقول لعمّال الاستقبال إنَّ اسمي أيّ شيء. أقبلت نحوي وهي تمدّ يدها لمصافحتي وتقول: Salut, bien sûr, vous êtes Français. تحيّتها لي بالفرنسية، وقولها بأنَّني فرنسي، مع عبارة بدت عربيّة، لم تحفّزني على إضافة أي كلمات أخرى سوى: أيّ شيء. نطقتْ بكلمات عربيّة لم أفهمها، قبل أن تضع يدها اليمنى على صدرها وتضيف بالفرنسيّة: je m’ appellee Mama. بدت متفهمة، إلاّ أنَّ إدارة الاستقبال لم تستجب لمسعاها ووساطتها لأن يقبلوني بدون أوراق هويّة، ولو في غرفة على السطوح بجوار المطبخ، كما اقترحت عليهم.

« Suivez-moi…» قالت مشيرةً إلي أن أتبعها. أخذت حقيبتي الصغيرة من يدي لتساعدني في حملها، بعد أن لمحتني أعرج.

ظننتُ، وربّما ظنّتْ إدارة الفندق أيضاً، أنَّها ستأخذني إلى فندق آخر، لكنَّها ما إن فارقت المكان قليلاً حتى نادت رجلاً أسمر وطويلاً، كان يقف بجوار سيّارة مرتفعة، وحدَّثته بلغة لم أفهمها. ربّما طلبت منه أن ينقلنا إلى مكان آخر. حملنا الحقيبة إلى فوق السيّارة، وطلبت مني أن أصعد إلى جوارها خلف السائق الذي أوصلنا إلى حيث أستلقي الآن وأنا أكتب.

  • ·         مقتطف من رواية بخور عدني” الصادرة حديثاً عن دار الساقي في بيروت للروائي اليمني علي المقري.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات