فصل من رواية “تلك القرى” للكاتب أحمد سراج

06:47 مساءً الجمعة 22 أغسطس 2014
أحمد سراج

أحمد سراج

مسرحي وروائي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

عبده

كل شَيءٍ بِلا طَعم

وصلنا أخيرًا إلى المركز الذي تتبعه قريتنا أنا وسعيد وهندي ومعنا أبناء القرى الأخرى القليلون، كانت مديرية أمن المحافظة قد أرسلت إشارة سِرية تفيد بوصولنا، هكذا همس لي جندي حراسة العربة خلسة وهو يدخلنا إليها:

لكن قريتنا يا عبده لا تنام منذ علمت بمجيئك

انطلقت العربة في طريقها دون أن يحاول أحدهم الاقتراب من الشبابيك الصغيرة فبدأت الشمس تضرب وجوهنا واحدًا واحدًا. سأل أحدنا:

متى سنصل إلى بيوتنا؟

رد سعيد:

يعني خمسة أو ستة أيام إذا لم يكن في قريتك مكان للاستجواب

حدجته بنظرة غاضبة؛ فمن أدرانا أنه ليس بيننا من سيقول هذا الكلام عند الاستجواب القادم؟ بينما بدا على هندي أنه ما زال في عالمه الغريب.

توقفت العربة فوقفنا في ذلك الطابور المعتاد إلا أن وقفتنا طالت، ولم نستطع أن نفعل شيئًا، حتى قال صوت:

لنجلس، فسوف نقف طويلاً

فُتِحتْ كوة فوق الباب المغلق ونظر إلينا جندي بلهجة خافتة قلقة:

اجلسوا

كنت أول الجالسين، ليس لأن لهجة الجندي أخافتنا – فللأسف لم أعد أشعر بشيء مطلقًا ليس مما جرى لنا منذ دخولنا الحدود، ولا منذ القبض علينا- بل يعود الأمر إلى أبعد من ذلك، ربما إلى يوم غادرت الحدود نفسها منذ اثنين وعشرين عامًا؛ ياااااه عمر كبير. عمر أَصْلِي. مضى تاركًا شيئًا لا طعم له يسكن لساني ولا يتحرك كهذه العربة تمامًا.

انتبهت إلى أنها ما زالت لا تتحرك، وإلى أن الجميع يعلوهم التوتر عدا هندي الذي ظل على حاله، ليتنا كلنا هندي، فلا نشعر بما حولنا، هل هذا هو هندي الذي كنا لا نناديه إلا بدياب بن غانم بطل أبطال السيرة الهلالية؟ كان هندي بصدره المفتوح دائمًا، وجلبابه الخفيف ليل نهار، صيف شتاء: يتخايل كنهرنا في شوارع الرافد.

ليس هذا من عندي بل هي جملة قالتها تلك السيدة زوجة الجنرال وصاحبة القصر التي طلبت ثلاثة عمال –كنت منهم – ليساعدوا في نظافة جنينة قصرها، وبعد ساعة واحدة عدنا اثنين وبقي هندي، وقتها لم أسكت، كنت لم أفهم بعد قانون المنطقة، وعبثًا حاول أبناء سَهَر كلهم أن يفهموني، إلا أنني أقسمت ألا أهدأ حتى أعثر عليه، (هكذا أوصتني أمه العجوز وهي تبكي، تركَتْ الدنيا كلها وجَاءتْ إليَّ!).

بعد أسبوعين كاملين تمكنت من دخول القصر ضمن مجموعة عمال لتنظيفه، وظللت أدورُ حول القصر لأجد صاحبي بأي شكلٍ دونَ فائدةٍ، إلا أنني كنت قد اتخذت قراري: سأدخل القصر مهما كلفني ذلك، حتى وجدتها تناديني في لهجة آمرة. كيف يكون لهذا الجمال هاتين العينين المخيفتين؟! وكيف تنقلب هذه المتوحشة إلى أنثى؟! – عرفت ذلك فيما بعد وذقته –.

هرولت نحوها وفي يدي الفأس التي كنت أنظف بها الحديقة، ولم أجد إلا أن أقول لها:

أريد هندي

وفاجأتني بابتسامة أجابتني عن كل الأسئلة:

وأنا أريده، لن أترك نهركم يتبعثر في طرقات الرافد، أريد أن أشرب وحين أرتوي سيكون عند قدميك، ألا ندرك من نهركم شيئًا قبل أن يخترق الصحراء تأكل منه، ولا يعطيها حتى يتلقفه الأعداء؟

خارت قواي وشعرت بالفأس جبلاً على ذراعي فوضعت رأسها على الأرض مستندًا براحتي إلى مؤخرتها:

أي نهرٍ سيدتي؟ أي أعداء؟ ما علاقة هندي وعبده بما تقولين؟

أشارت بإصبعها بالابتعاد لرئيس العمال الذي يقترب، وأشارت لي بذات الإصبع أن أتبعها حتى دخلنا.

وقفت مذهولاً من اتساع المكان وجماله، إلا أنها نادتني:

تعال

انتبهت إلى نعلي المتسخ فخلعته ومسحت راحة قدمي اليمنى بسمانة اليسرى والعكس وكررت ذلك، وهي تراقبني صامتة وقد جلست على كرسي هزاز وأمامها منضدة عليها كتب وأوراق وصحف، ثم جلجلت ضحكتها:

كلكم هكذا.

عاد الصمت ليسود، وأنا أنتظر أن تنادي على صديقي فاصطحبه وأرحل، ولما لم يحدث شيء، رفعت رأسي وأنا أسألها:

سيدتي…

قاطعتني:

رئيسكم قبل هلاكه كان يريد أن يصل الماء إلى الأعداء

(ما هذه الألغاز التي تقولها هذه المرأة؟ هل أفقدها هندي بما يملك عقلها؟) خرج صوتي متحشرجًا راجيًا:

نحن فقراء تركا بلادنا لنجد ما نقيم به حياتنا؛ فلا نفهم هذا، ولا علاقة لنا به، ثم إن هذا الرئيس كما تقولين: مات

عادت إلى طبيعتها المتوحشة:

هلك، هلك الطاغية، وخلفه ثانٍ، وسيأتي ثالث، أنتم هكذا لا يحكمكم سوى الطواغيت؛ لأنكم لا تريدون أن تفهموا ومن يفهم منكم لا يتكلم، ومن يتكلم لا يفعل

ألقت في وجهي بكل الذي أمامها في هياج، وانحنيت ألملمه، وأعيده إلى المنضدة (ما هذه المصيبة؟ جئت من أجل هندي المزارع ابن المزارع الذي نَحَلَ وبَرَه العملُ في الوسية هو وأباه وأجدادنا، من أجل هندي الهارب من الجوع والحسرة إلى بلد تزرع وتحصد ونجد فيها ما يكفينا) كنت لا أفهم شيئًا مما تقول ولا أريد – وما زلت – لذلك قلت في صوت واهن:

أين بلدياتي؟

رفعت في وجهي الكتب والأوراق والصحف مرة أخرى:

كل هذا كتبه أبناء بلدك على مر العصور، ولم تقم ثورة واحدة حقيقية منذ سبعة آلاف سنة، لقد درست في جامعتكم الكبرى، وسرت في شوارعكم المكتظة دائمًا، وحتى عندما حصلت على الدكتوراه كان موضوعها: نقد المثقف للسلطة. سَهَر نموذجًا.

مضت تتحدث بجمل لم أفهم منها شيئًا، فقط شعرت أنني في قفص الاتهام، وأن الحكم لن يقل عن الإعدام، بكل ما أملك من وهن وقلة حيلة:

وهل سأقوم أنا وهندي بهذه الثورة؟

(هندي يا نهار أسود، لقد كان جده يُضرَبُ من الباشا بالحذاء فيصرخ: احذر يا باشا، الحذاء سيتسخ يا باشا ويُقبل الحذاء، ويمسحه بخده)

ثم ما علاقتنا نحن بالطواغيت؟

ابتسمتْ (كأنها غيرها):

أنا طاغيته، وهو شعبي

قامت لتصعد السلم الداخلي:

عمومًا أنت من الآن في رعايتي، وإن أردت أن تعمل عندي، فابق.

استدارت قبل نهاية السلم وأشارت بسبابة يسراها:

لقد جاءتني فكرة، سأقوم بعمل بحث عن شعب سَهَر ودوره في الاستبداد، وستكون أحد مصادري بحكاياتك الشعبية؛ فكلامك يدل على أنك خبير في هذا المجال، لكن اخرج الآن

صفقت فانفتح بابٌ وفتحت ذراعيها، بعد أن أسقطت روبها بحركة لم أرها لأدرك أنها لم تكن ترتدي سواه وأن هناك بياضًا يفوق الشمس ساعة الضحى حين كنت أستند إلى جذع شجرة أتأمله، وكان هندي يأخذها في حضنه – وهو يرتدي أفخر الثياب – يحمل ذات النظرة التي يحملها الآن، تمامًا كهذه العربة التي لا تتحرك.

نظر جندي من الكوة:

يا جماعة، لو سمحتم، لا أحد ينظر من الشبابيك، من أجل خاطري

أثارت البعض لهجة الاستعطاف والكلمات التي لم نسمعها من قبل، فَرُفِعَ صوتٌ أو أكثر:

ماذا هناك؟

قال الجندي:

مصيبة، فقط اجلسوا وسيحلها الحلَّال

أشار لنا أحدنا بالصمت (كنت صامتًا بالطبيعة) وألصقوا آذانهم بأركان العربة هُمِسَ:

هناك جلبة في الخارج

نام أحدنا على بطنه تحت الكراسي الحديدة التي يجلسون عليها (كنت أجلس دائمًا على أرضية العربة بين الكرسيين الكبيرين المتقابلين الممتدين من أول العربة حتى آخرها؛ لأركن ظهري إلى ظهر مقدمة العربة) وبدأ ينظر بعينيه من فتحات صغيرة جدًّا، وقد بدا على الجميع الترقب، وعندما رفع وجهه وجلس وهو يمسح جبهته المغطاة بالتراب، ويسعل بشدة وقال هامسًا من خلال كل ذلك:

إن العربة محاطة بالعساكر الذين يبدو أنهم يمنعون شيئًا ما

اقتربوا منه وهم يتكلمون في الوقت نفسه:

شيئًا ما. أيعيدوننا إلى الرافد؟ / هل احتل التازيون هنا أيضًا؟/ هل …؟ متى…؟ لماذا…؟ / كيف…؟/ هل…؟ / …

تحركت العربة فجأة كما توقفت فجأة (الغريب أن المحرك يعمل سواء توقفت العربة أم لم تتوقف، كما كان يحدث في بلاد الرافد تمامًا) وعاد كلٌّ إلى موقعه، صوت باب ضخم يفتح على مصراعيه، همس صوت:

العربة لم تتوقف ككل مرة، بل إنها دخلت دون أن تهدئ السرعة أمام الباب، هناك شيء ما بعد مسافة مماثلة لكل مرة تدخل فيها العربة مكان تسليم جديد توقفت. تبادلنا النظرات في سخرية، استعددنا: وقفنا في نفس الصف/ فُتِح الباب/ وضعنا أيدينا على وجوهنا/ بدأنا في التحرك الهادئ المنظم/ عين التالي على كعب السابق/ رءوسنا في الأرض لا ترفع لأي سبب كان. لكن الجندي الذي فتح لنا الباب همس لنا:
ارفعوا وجوهكم، ولا تخفوا أعينكم. خلاص، أنتم وصلتم

عمت الفرحة الهادئة من حولي، وتدافعوا للنزول، إلا أن نظرة معتادة ممن يملأون الأرض جعلتهم يصطفون مرة ثانية.

لماذا التفتُّ خلفي؟ ها هو يستند إلى عصا، يمد رأسه للأمام باحثًا عني، بنفس هيئته القديمة التي ودعني بها منذ اثنين وعشربن عامًا، نعم كدت أصرخ:

أنا هنا؟

لكن رائحة جلبابي المتسخ، ونظرات من حولنا، وتلك الهراوات الثقيلة منعتني من الصراخ والعدو نحوه لأقبل يده صارخًا:

عندك حق، رب هنا، رب هناك

لكن شيئًا لم يمنع عينينا من الالتقاء؛ لأزدادَ تماسكًا بما يكفي لأراه يتماسك في صعوبة، ثم يغلبه الترنح لولا مسارعة مَنْ حَولَه بإسناده بينما علا صوت الجميع:

عبده … عبده… هو … هو… ما زال حيًّا … الله أكبر … الله أكبر…

وجدتني أترنح لأقف في الصف، وباب المركز يغلق بيننا بصريره المزعج، ليزيد العين دمعًا، والقلب شيئًا لست أعرف كيف أسميه، سوى أن كل شيء بلا طعم، إلا المرارة.

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات