كل شَيءٍ بِلا طَعم
وصلنا أخيرًا إلى المركز الذي تتبعه قريتنا أنا وسعيد وهندي ومعنا أبناء القرى الأخرى القليلون، كانت مديرية أمن المحافظة قد أرسلت إشارة سِرية تفيد بوصولنا، هكذا همس لي جندي حراسة العربة خلسة وهو يدخلنا إليها:
انطلقت العربة في طريقها دون أن يحاول أحدهم الاقتراب من الشبابيك الصغيرة فبدأت الشمس تضرب وجوهنا واحدًا واحدًا. سأل أحدنا:
رد سعيد:
حدجته بنظرة غاضبة؛ فمن أدرانا أنه ليس بيننا من سيقول هذا الكلام عند الاستجواب القادم؟ بينما بدا على هندي أنه ما زال في عالمه الغريب.
توقفت العربة فوقفنا في ذلك الطابور المعتاد إلا أن وقفتنا طالت، ولم نستطع أن نفعل شيئًا، حتى قال صوت:
فُتِحتْ كوة فوق الباب المغلق ونظر إلينا جندي بلهجة خافتة قلقة:
كنت أول الجالسين، ليس لأن لهجة الجندي أخافتنا – فللأسف لم أعد أشعر بشيء مطلقًا ليس مما جرى لنا منذ دخولنا الحدود، ولا منذ القبض علينا- بل يعود الأمر إلى أبعد من ذلك، ربما إلى يوم غادرت الحدود نفسها منذ اثنين وعشرين عامًا؛ ياااااه عمر كبير. عمر أَصْلِي. مضى تاركًا شيئًا لا طعم له يسكن لساني ولا يتحرك كهذه العربة تمامًا.
انتبهت إلى أنها ما زالت لا تتحرك، وإلى أن الجميع يعلوهم التوتر عدا هندي الذي ظل على حاله، ليتنا كلنا هندي، فلا نشعر بما حولنا، هل هذا هو هندي الذي كنا لا نناديه إلا بدياب بن غانم بطل أبطال السيرة الهلالية؟ كان هندي بصدره المفتوح دائمًا، وجلبابه الخفيف ليل نهار، صيف شتاء: يتخايل كنهرنا في شوارع الرافد.
ليس هذا من عندي بل هي جملة قالتها تلك السيدة زوجة الجنرال وصاحبة القصر التي طلبت ثلاثة عمال –كنت منهم – ليساعدوا في نظافة جنينة قصرها، وبعد ساعة واحدة عدنا اثنين وبقي هندي، وقتها لم أسكت، كنت لم أفهم بعد قانون المنطقة، وعبثًا حاول أبناء سَهَر كلهم أن يفهموني، إلا أنني أقسمت ألا أهدأ حتى أعثر عليه، (هكذا أوصتني أمه العجوز وهي تبكي، تركَتْ الدنيا كلها وجَاءتْ إليَّ!).
بعد أسبوعين كاملين تمكنت من دخول القصر ضمن مجموعة عمال لتنظيفه، وظللت أدورُ حول القصر لأجد صاحبي بأي شكلٍ دونَ فائدةٍ، إلا أنني كنت قد اتخذت قراري: سأدخل القصر مهما كلفني ذلك، حتى وجدتها تناديني في لهجة آمرة. كيف يكون لهذا الجمال هاتين العينين المخيفتين؟! وكيف تنقلب هذه المتوحشة إلى أنثى؟! – عرفت ذلك فيما بعد وذقته –.
هرولت نحوها وفي يدي الفأس التي كنت أنظف بها الحديقة، ولم أجد إلا أن أقول لها:
وفاجأتني بابتسامة أجابتني عن كل الأسئلة:
خارت قواي وشعرت بالفأس جبلاً على ذراعي فوضعت رأسها على الأرض مستندًا براحتي إلى مؤخرتها:
أشارت بإصبعها بالابتعاد لرئيس العمال الذي يقترب، وأشارت لي بذات الإصبع أن أتبعها حتى دخلنا.
وقفت مذهولاً من اتساع المكان وجماله، إلا أنها نادتني:
انتبهت إلى نعلي المتسخ فخلعته ومسحت راحة قدمي اليمنى بسمانة اليسرى والعكس وكررت ذلك، وهي تراقبني صامتة وقد جلست على كرسي هزاز وأمامها منضدة عليها كتب وأوراق وصحف، ثم جلجلت ضحكتها:
عاد الصمت ليسود، وأنا أنتظر أن تنادي على صديقي فاصطحبه وأرحل، ولما لم يحدث شيء، رفعت رأسي وأنا أسألها:
قاطعتني:
(ما هذه الألغاز التي تقولها هذه المرأة؟ هل أفقدها هندي بما يملك عقلها؟) خرج صوتي متحشرجًا راجيًا:
عادت إلى طبيعتها المتوحشة:
ألقت في وجهي بكل الذي أمامها في هياج، وانحنيت ألملمه، وأعيده إلى المنضدة (ما هذه المصيبة؟ جئت من أجل هندي المزارع ابن المزارع الذي نَحَلَ وبَرَه العملُ في الوسية هو وأباه وأجدادنا، من أجل هندي الهارب من الجوع والحسرة إلى بلد تزرع وتحصد ونجد فيها ما يكفينا) كنت لا أفهم شيئًا مما تقول ولا أريد – وما زلت – لذلك قلت في صوت واهن:
رفعت في وجهي الكتب والأوراق والصحف مرة أخرى:
مضت تتحدث بجمل لم أفهم منها شيئًا، فقط شعرت أنني في قفص الاتهام، وأن الحكم لن يقل عن الإعدام، بكل ما أملك من وهن وقلة حيلة:
(هندي يا نهار أسود، لقد كان جده يُضرَبُ من الباشا بالحذاء فيصرخ: احذر يا باشا، الحذاء سيتسخ يا باشا ويُقبل الحذاء، ويمسحه بخده)
ابتسمتْ (كأنها غيرها):
قامت لتصعد السلم الداخلي:
استدارت قبل نهاية السلم وأشارت بسبابة يسراها:
صفقت فانفتح بابٌ وفتحت ذراعيها، بعد أن أسقطت روبها بحركة لم أرها لأدرك أنها لم تكن ترتدي سواه وأن هناك بياضًا يفوق الشمس ساعة الضحى حين كنت أستند إلى جذع شجرة أتأمله، وكان هندي يأخذها في حضنه – وهو يرتدي أفخر الثياب – يحمل ذات النظرة التي يحملها الآن، تمامًا كهذه العربة التي لا تتحرك.
نظر جندي من الكوة:
أثارت البعض لهجة الاستعطاف والكلمات التي لم نسمعها من قبل، فَرُفِعَ صوتٌ أو أكثر:
قال الجندي:
أشار لنا أحدنا بالصمت (كنت صامتًا بالطبيعة) وألصقوا آذانهم بأركان العربة هُمِسَ:
نام أحدنا على بطنه تحت الكراسي الحديدة التي يجلسون عليها (كنت أجلس دائمًا على أرضية العربة بين الكرسيين الكبيرين المتقابلين الممتدين من أول العربة حتى آخرها؛ لأركن ظهري إلى ظهر مقدمة العربة) وبدأ ينظر بعينيه من فتحات صغيرة جدًّا، وقد بدا على الجميع الترقب، وعندما رفع وجهه وجلس وهو يمسح جبهته المغطاة بالتراب، ويسعل بشدة وقال هامسًا من خلال كل ذلك:
اقتربوا منه وهم يتكلمون في الوقت نفسه:
تحركت العربة فجأة كما توقفت فجأة (الغريب أن المحرك يعمل سواء توقفت العربة أم لم تتوقف، كما كان يحدث في بلاد الرافد تمامًا) وعاد كلٌّ إلى موقعه، صوت باب ضخم يفتح على مصراعيه، همس صوت:
عمت الفرحة الهادئة من حولي، وتدافعوا للنزول، إلا أن نظرة معتادة ممن يملأون الأرض جعلتهم يصطفون مرة ثانية.
لماذا التفتُّ خلفي؟ ها هو يستند إلى عصا، يمد رأسه للأمام باحثًا عني، بنفس هيئته القديمة التي ودعني بها منذ اثنين وعشربن عامًا، نعم كدت أصرخ:
لكن رائحة جلبابي المتسخ، ونظرات من حولنا، وتلك الهراوات الثقيلة منعتني من الصراخ والعدو نحوه لأقبل يده صارخًا:
لكن شيئًا لم يمنع عينينا من الالتقاء؛ لأزدادَ تماسكًا بما يكفي لأراه يتماسك في صعوبة، ثم يغلبه الترنح لولا مسارعة مَنْ حَولَه بإسناده بينما علا صوت الجميع:
وجدتني أترنح لأقف في الصف، وباب المركز يغلق بيننا بصريره المزعج، ليزيد العين دمعًا، والقلب شيئًا لست أعرف كيف أسميه، سوى أن كل شيء بلا طعم، إلا المرارة.
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.