يعنِي أنَّها ميِّتة

11:06 صباحًا السبت 3 يناير 2015
احمد الشهاوي

احمد الشهاوي

شاعر من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

لأسبابٍ كثيرةٍ لا أحبُّ حرفَ الخاء ، ليس لأنهُ حرْفٌ ثقيلٌ على الرُّوح ، ويأتي نُطقًا من سقفِ الحلْقِ ، وليس أيضًا لأنهُ يشكِّلُ مع زميله حرف الغين حيِّزًا واحدًا في مدارجِ حرُوفِ العربية ومراتبها ، لكن لأنهُ يُحيلُ عندي إلى مفرداتٍ تُقوِّضُ النفسَ ، وتُسْقمُها ، بل وتُميتُها ، وتُسْقطُ أممًا وحضاراتٍ ، كالخرابِ ، والخيبةِ ، والخذلانِ ، والخُمول ، والخَبَل ، والخطأ ، والخطيئة ، والخيانة ، والخُسران ، والخطْف ، والخطَر ، والخُبث ، والخِتان ، والخجل ، والخدْش ، والخِزي ، والخرَس ، والخبْص ، والخزُوق ، والخِصام ، والخطْب ، والخفاء ،والخَراء ، والخُلع ، والخِلاف ، والخِداع ، والتخلُّف ، والخُسُوف ، و….. كلماتٍ أخرى كثيرةٍ هي ظواهرُ تكرهُها الرُّوحُ الحُرَّةُ السويَّةُ ، ولا يستسيغُها قلبٌ يعرفُ.

 

لكن يظلُّ لحرفِ الخاء مزايا وفضائلُ أنه حمل على كتفيه مُفرداتٍ هي عندي أكوانٌ وحدها ، ك : الخيالِ ، والخَلْق ، والخُلُق ، والخير ، والخُلوة ، والخُبز ، والخيل ، والإخلاص ، والمخطُوط ، ويمكنُ للمرءِ أن يُعدِّدَ ما لفضل حرفِ الخاء في حقُولٍ كثيرةٍ متنوعةِ الدلالات .

وما يهمُني من فضلِه الآن ، هو الخيالُ ، إذْ إن أمَّةً بلاخيالٍ ، يعني أنَّها ميتةٌ ، ولا سبيل أمام أبنائها للارتقاءِ والسمو والخلْقِ والابتكار والكشْف إلا بركُوب بُرَاق الخيالِ والعُثورِ عليه أولا ، لنعيشَ في معارجَ وإسراءاتٍ ، لأنَّ كلَّ حقيقةٍ نراها هي في الأصلِ محضُ خيالٍ شاطحٍ ، يذهبُ نحو البعيد والأقصى ، وكم من أصحابِ خيالٍ مُبتكرٍ وجامحٍ اتهموا بالجنون ، وأُودعوا السُّجون والمصحات النفسية ،لأنَّهم فكَّروا في أشياء صارت الآنَ عاديةً من فرطِ انتشارها وتداولها والوصول إليها ، بعدما كانت من أضغاثِ الأحلام .

وصاحimageب الخيال نشطُ الذهنِ ، وليس من أصحاب الجهلِ النشيط الذين يراهم المرءُ منتشرينَ أينما ولَّى وجهه شطْرَ أيِّ مكانٍ .

فمن التجاربِ ، ومن تكرارِ الخطأ ، يصلُ الإنسانُ إلى النقطةِ التي يحلمُ أن يراها رؤيةَ العينِ ظاهرةً في قلبِ الدائرةِ التي يحلمُ بتشكُّلها أمامه .

والخيالُ مُلازمٌ للإبداعِ ، وكالحقيقةِ غير متناهٍ ، والمُبدعُ الذي بلا خيالٍ دومًا لا مكانَ له في تاريخِ الشُّعوبِ ، وهو عندي ليس صاحب القلم فقط ، ولكن كل من يستطيعُ أن يضعَ يميني على طريقٍ ثالثٍ لم أرهُ ، أو أسمعْ به من قبل ، ولم تحلمْ به رُوحي .

والخيالُ لا يتكوَّنُ دُونَ معرفةٍ ، ودأبٍ ، وذكاءٍ مُتوقدٍ ، ودقةٍ ، وصرامةٍ ، وممارسةٍ ، وتجريبٍ ، ومناخٍ ، وبيئةٍ تحضِنُ أصحابَ الجمُوحِ والشَّطْحِ ، دُونَ أن نتهمَهُم بالفشلِ ومُعاداةِ الدِّين ، إذ كل جديدٍ غريبٌ ، وخارجٌ على العادةِ والعُرفِ ، ومن الصعبِ بل أحيانا من المستحيلِ تقبلُهُ .

فمن يفتح أفقًا ، هو إنسانٌ شغُوفٌ بالبحثِ والاستقصاءِ والتحرِّي والمعاودةِ ، وخدمةِ البشريةِ ، ولا يستحقُ أن نصمَه بالخرَفِ ، ونعيقُ طريقهُ ، حتى لو لم يأت إلينا بالبرهانِ ، إذْ يكفيه أنه يحاولُ .

فكما أن المُصادفةَ تقودُ دومًا نحو الكشْفِ والخَلْقِ ، فالبحث – حتمًا – يُؤدِّي في النهاية إلى نتيجةٍ ما ، يمكنُ للآتي أن يعملَ بعدها ، ويُكملَ السيرةَ والمسيرةَ ، وأنا أومنُ أنَّ المصادفةَ لها أهلُها ، ولا تذهبُ أبدًا للخاملين والكسالى .

وصاحبُ الخيال ملتزمٌ بأن يعرفَ ، أي يعود دومًا إلى قراءةِ التاريخِ ومساءلتِه ، والبناء على ما أنجزهُ الأسلافُ ، وليس هدم أو حذف أو شطب أو محو أو إقصاء ما خطَّتهُ الأيدي ، مثلما كان يفعلُ آلهةُ المصريين القدامى ، وصار ذلك ” التقليد المنكر” أنموذجًا يحتذيه المصريون المحدثون ، كأنَّهُ أتى نصًّا في الكتبِ المقدَّسةِ ، ولا يجُوزُ المساسُ به ، أو الانحرافُ عنه .

الخيالُ الذي أطمحُ إليه ، والذي يتربَّى في أرضِ الحريةِ الواسعةِ ، هو أن أسعى ، وأحاولَ ، وأفسحَ لحيِّزِي المجال ، وأن أمنحَ وقتًا للتأملِ إذ لا مستقبلَ ولا حاضرَ بلا خيالٍ ، وأن أكونَ بلاسقفٍ ، ولا حدٍّ ، وأن يكونَ بحري بلا ساحلٍ ، وأن أتعبَّدَ في محرابِ القراءةِ بلاتوقفٍ ولا قيدٍ .

ففي الخيال أنت رئيسُ نفسك ، لأنَّ روحَكَ وعقلكَ هُما من يبنيان ، ويسألان ويرصُدان .

الخيال يُولدُ من الرؤيا والرؤيةِ ، وما منْ كتابٍ مقدَّسٍ أو دينٍ سماويٍّ أو أرضيٍّ إلا ودعا إلى الخيال ، لأنَّ عقلَ الإنسان مُنتجٌ دائمٌ للخيال ، وقد فُطِرَ على ذلك ، والعقل الذي تصيبهُ بلادةٌ هو من تأثيراتِ المُحيطِ والبيئةِ والخيباتِ المتراكمةِ .

وابن الشدائد دائمًا ما يبتكرُ الحلَّ والحِيَلَ ، ويخرجُ على المألوف ، أو على الأقل يخرجُ على حاله التي لا يرتضيها ، لأنَّها تُرْدِيه في وحلِ الكسلِ والاتكالِ والشحاذةِ والاستجداءِ من الآخر ، الذي يعايرُ طوال الوقت بأنه الأذكى ، والأقدر على المنحِ والخلق والكشف .

الخياليون حالمون ، وعارفون ، يُحولون الوجدَ إلى وُجودٍ ، وإن كان أينشتين قد قال يومًا كلمةً لا أوافقُهُ عليها ، وهي أنَّ ” الخيال أهم من المعرفة ” ، إذ لا خيالَ دونَ معرفةٍ ، ولكنه قد أكدَّ أهميةَ الخيال في صناعة الإنسان ، واستمرار الأمم ، وما سُقوط الحضاراتِ في التاريخِ الإنساني إلا نتاجٌ لضيقِ أفق أصحابها ، وانسدادِ أوعية وشرايين المُخيلة في قلوب رؤوسهم .

خُلق الإنسانُ ليسعى ، ويتأملَ ، ويسألَ ، ويصفَ ، ويُأوِّلَ ، ويستلهمَ ، ويذهبَ نحو الجوهرِ والمتنِ لا المحيط والهامش ، يخطُو نحو المسكوتِ عنه والمنسي ، والمُهْمل ، ليؤسِّسَ ويبني ويُعمِّق .

الشَّاطحُ أو ابنُ الخيال مُخلصٌ للحقِّ والحقيقة ، ليس واهمًا ، هو ابن الفعلِ المُضارِعِ المُستمرِ ، وليس ابنًا لأفعالِ الماضي ، هو ابنٌ للحَدْسِ والعرفانِ والحس والعقل والتاريخ ، وابنٌ لوجْدِهِ .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات