لأسبابٍ كثيرةٍ لا أحبُّ حرفَ الخاء ، ليس لأنهُ حرْفٌ ثقيلٌ على الرُّوح ، ويأتي نُطقًا من سقفِ الحلْقِ ، وليس أيضًا لأنهُ يشكِّلُ مع زميله حرف الغين حيِّزًا واحدًا في مدارجِ حرُوفِ العربية ومراتبها ، لكن لأنهُ يُحيلُ عندي إلى مفرداتٍ تُقوِّضُ النفسَ ، وتُسْقمُها ، بل وتُميتُها ، وتُسْقطُ أممًا وحضاراتٍ ، كالخرابِ ، والخيبةِ ، والخذلانِ ، والخُمول ، والخَبَل ، والخطأ ، والخطيئة ، والخيانة ، والخُسران ، والخطْف ، والخطَر ، والخُبث ، والخِتان ، والخجل ، والخدْش ، والخِزي ، والخرَس ، والخبْص ، والخزُوق ، والخِصام ، والخطْب ، والخفاء ،والخَراء ، والخُلع ، والخِلاف ، والخِداع ، والتخلُّف ، والخُسُوف ، و….. كلماتٍ أخرى كثيرةٍ هي ظواهرُ تكرهُها الرُّوحُ الحُرَّةُ السويَّةُ ، ولا يستسيغُها قلبٌ يعرفُ.
لكن يظلُّ لحرفِ الخاء مزايا وفضائلُ أنه حمل على كتفيه مُفرداتٍ هي عندي أكوانٌ وحدها ، ك : الخيالِ ، والخَلْق ، والخُلُق ، والخير ، والخُلوة ، والخُبز ، والخيل ، والإخلاص ، والمخطُوط ، ويمكنُ للمرءِ أن يُعدِّدَ ما لفضل حرفِ الخاء في حقُولٍ كثيرةٍ متنوعةِ الدلالات .
وما يهمُني من فضلِه الآن ، هو الخيالُ ، إذْ إن أمَّةً بلاخيالٍ ، يعني أنَّها ميتةٌ ، ولا سبيل أمام أبنائها للارتقاءِ والسمو والخلْقِ والابتكار والكشْف إلا بركُوب بُرَاق الخيالِ والعُثورِ عليه أولا ، لنعيشَ في معارجَ وإسراءاتٍ ، لأنَّ كلَّ حقيقةٍ نراها هي في الأصلِ محضُ خيالٍ شاطحٍ ، يذهبُ نحو البعيد والأقصى ، وكم من أصحابِ خيالٍ مُبتكرٍ وجامحٍ اتهموا بالجنون ، وأُودعوا السُّجون والمصحات النفسية ،لأنَّهم فكَّروا في أشياء صارت الآنَ عاديةً من فرطِ انتشارها وتداولها والوصول إليها ، بعدما كانت من أضغاثِ الأحلام .
وصاحب الخيال نشطُ الذهنِ ، وليس من أصحاب الجهلِ النشيط الذين يراهم المرءُ منتشرينَ أينما ولَّى وجهه شطْرَ أيِّ مكانٍ .
فمن التجاربِ ، ومن تكرارِ الخطأ ، يصلُ الإنسانُ إلى النقطةِ التي يحلمُ أن يراها رؤيةَ العينِ ظاهرةً في قلبِ الدائرةِ التي يحلمُ بتشكُّلها أمامه .
والخيالُ مُلازمٌ للإبداعِ ، وكالحقيقةِ غير متناهٍ ، والمُبدعُ الذي بلا خيالٍ دومًا لا مكانَ له في تاريخِ الشُّعوبِ ، وهو عندي ليس صاحب القلم فقط ، ولكن كل من يستطيعُ أن يضعَ يميني على طريقٍ ثالثٍ لم أرهُ ، أو أسمعْ به من قبل ، ولم تحلمْ به رُوحي .
والخيالُ لا يتكوَّنُ دُونَ معرفةٍ ، ودأبٍ ، وذكاءٍ مُتوقدٍ ، ودقةٍ ، وصرامةٍ ، وممارسةٍ ، وتجريبٍ ، ومناخٍ ، وبيئةٍ تحضِنُ أصحابَ الجمُوحِ والشَّطْحِ ، دُونَ أن نتهمَهُم بالفشلِ ومُعاداةِ الدِّين ، إذ كل جديدٍ غريبٌ ، وخارجٌ على العادةِ والعُرفِ ، ومن الصعبِ بل أحيانا من المستحيلِ تقبلُهُ .
فمن يفتح أفقًا ، هو إنسانٌ شغُوفٌ بالبحثِ والاستقصاءِ والتحرِّي والمعاودةِ ، وخدمةِ البشريةِ ، ولا يستحقُ أن نصمَه بالخرَفِ ، ونعيقُ طريقهُ ، حتى لو لم يأت إلينا بالبرهانِ ، إذْ يكفيه أنه يحاولُ .
فكما أن المُصادفةَ تقودُ دومًا نحو الكشْفِ والخَلْقِ ، فالبحث – حتمًا – يُؤدِّي في النهاية إلى نتيجةٍ ما ، يمكنُ للآتي أن يعملَ بعدها ، ويُكملَ السيرةَ والمسيرةَ ، وأنا أومنُ أنَّ المصادفةَ لها أهلُها ، ولا تذهبُ أبدًا للخاملين والكسالى .
وصاحبُ الخيال ملتزمٌ بأن يعرفَ ، أي يعود دومًا إلى قراءةِ التاريخِ ومساءلتِه ، والبناء على ما أنجزهُ الأسلافُ ، وليس هدم أو حذف أو شطب أو محو أو إقصاء ما خطَّتهُ الأيدي ، مثلما كان يفعلُ آلهةُ المصريين القدامى ، وصار ذلك ” التقليد المنكر” أنموذجًا يحتذيه المصريون المحدثون ، كأنَّهُ أتى نصًّا في الكتبِ المقدَّسةِ ، ولا يجُوزُ المساسُ به ، أو الانحرافُ عنه .
الخيالُ الذي أطمحُ إليه ، والذي يتربَّى في أرضِ الحريةِ الواسعةِ ، هو أن أسعى ، وأحاولَ ، وأفسحَ لحيِّزِي المجال ، وأن أمنحَ وقتًا للتأملِ إذ لا مستقبلَ ولا حاضرَ بلا خيالٍ ، وأن أكونَ بلاسقفٍ ، ولا حدٍّ ، وأن يكونَ بحري بلا ساحلٍ ، وأن أتعبَّدَ في محرابِ القراءةِ بلاتوقفٍ ولا قيدٍ .
ففي الخيال أنت رئيسُ نفسك ، لأنَّ روحَكَ وعقلكَ هُما من يبنيان ، ويسألان ويرصُدان .
الخيال يُولدُ من الرؤيا والرؤيةِ ، وما منْ كتابٍ مقدَّسٍ أو دينٍ سماويٍّ أو أرضيٍّ إلا ودعا إلى الخيال ، لأنَّ عقلَ الإنسان مُنتجٌ دائمٌ للخيال ، وقد فُطِرَ على ذلك ، والعقل الذي تصيبهُ بلادةٌ هو من تأثيراتِ المُحيطِ والبيئةِ والخيباتِ المتراكمةِ .
وابن الشدائد دائمًا ما يبتكرُ الحلَّ والحِيَلَ ، ويخرجُ على المألوف ، أو على الأقل يخرجُ على حاله التي لا يرتضيها ، لأنَّها تُرْدِيه في وحلِ الكسلِ والاتكالِ والشحاذةِ والاستجداءِ من الآخر ، الذي يعايرُ طوال الوقت بأنه الأذكى ، والأقدر على المنحِ والخلق والكشف .
الخياليون حالمون ، وعارفون ، يُحولون الوجدَ إلى وُجودٍ ، وإن كان أينشتين قد قال يومًا كلمةً لا أوافقُهُ عليها ، وهي أنَّ ” الخيال أهم من المعرفة ” ، إذ لا خيالَ دونَ معرفةٍ ، ولكنه قد أكدَّ أهميةَ الخيال في صناعة الإنسان ، واستمرار الأمم ، وما سُقوط الحضاراتِ في التاريخِ الإنساني إلا نتاجٌ لضيقِ أفق أصحابها ، وانسدادِ أوعية وشرايين المُخيلة في قلوب رؤوسهم .
خُلق الإنسانُ ليسعى ، ويتأملَ ، ويسألَ ، ويصفَ ، ويُأوِّلَ ، ويستلهمَ ، ويذهبَ نحو الجوهرِ والمتنِ لا المحيط والهامش ، يخطُو نحو المسكوتِ عنه والمنسي ، والمُهْمل ، ليؤسِّسَ ويبني ويُعمِّق .
الشَّاطحُ أو ابنُ الخيال مُخلصٌ للحقِّ والحقيقة ، ليس واهمًا ، هو ابن الفعلِ المُضارِعِ المُستمرِ ، وليس ابنًا لأفعالِ الماضي ، هو ابنٌ للحَدْسِ والعرفانِ والحس والعقل والتاريخ ، وابنٌ لوجْدِهِ .
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.