الرَّقَابةُ لا أخلاقَ لها

11:13 صباحًا الأحد 11 يناير 2015
احمد الشهاوي

احمد الشهاوي

شاعر من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بوشايةٍ من كاتبٍ ، ربَّما قد يكُونُ ” صديقًا  ” لكَ ، يُمكنُ أن تُصبحَ ضحيةً للرقابةِ .

وبرسالةٍ قصيرةٍ من آخر ، يُمكنُ أن تصيرَ رقبتُكَ تحتَ حبلِ مشنقةِ المُصادَرةِ ، والمُطاردةِ ، وربَّما الجزّ ، والقطع ، والقصّ ، والذبَح .

فالرقابة لا أخلاقَ لها في أيِّ زمانٍ ومكانٍ ، إذْ  هُناك من هُو على استعدادٍ ليشهدَ على أنَّكَ ضالٌّ ومُهرْطِقٌ وزنديقٌ ومُلحدٌ وعلمانيٌّ وشيوعيٌّ ولا دينَ لكَ ، وخارجٌ على النواميسِ والدينِ والأعرافِ ، وضد التقاليدِ .

وكم من أسماء كانت قرابينَ مُقدَّسةً لأجلِ أن تترسَّخَ حُريةُ التعبيرِ والكلامِ في العالمِ ، والقائمة طويلة في تاريخِ الشُّعوبِ ، وفي المقدمة منه التاريخ الإسلامي عبر عُصورِه المُختلفةِ ، حيثُ صفحاته ملأى بآلافِ القَصصِ المُفجعةِ  التي تشيرُ إلى قمع الكِتَاب والكاتِبِ ، إذْ تفنَّنَ العربُ في التخلُّصِ من الكُتبِ التي لا يريدُها السلاطينُ وفُقهاءُ الحُكامِ ، بدفنِها في الأرضِ ، أو غسلِها بالماءِ ، أو حرقِها ، أو تركِها لتكونَ وقُودًا للطهي في البوادي والحَضَر على السَّواء .

إنَّ ما يحدثُ في مصرَ من قِبَل جهازِ الرَّقَابةِ على الكُتبِ والمطبُوعاتِ الأجنبيةِ ، كان يماثلهُ في فرنسا ، ولكن كان ذلك في عام 1610 ميلادية ، أي أننا نتقهقرُ أربعةَ قرُونٍ كاملة غير منقُوصةٍ من التخلُّفِ ، ومُحاربةِ الحُريَّةِ ، من خلالِ ترسانةٍ من القوانينِ والأنظمةِ التي تملكُها الرقابةُ ، وكلها تُؤدِّي إلى الفحصِ والحجْزِ  و الرفضِ ، والمُصادرةِ ، ، والإدانةِ ، والخنقِ ، والقهرِ ، والقتلِ والوأدِ ، والحرْقِ ، والإبادَةِ ، والدَّفنِ .

لأنَّهُ عندما يعُمُّ الفسادُ ، تزدهر الرقابةُ .

وعندما تغيبُ المبادىءُ والمُثلُ ، ينشط المُراقبون ويتبجَّحونَ ، إذ المُراقبُ عبدٌ مأمُورٌ ، قاسٍ ، مُتبلدٌ ، ناقصُ ثقافةٍ ، ويشعرُ طوال الوقتِ أنه دُون الكاتبِ المُبدع الذي يبني عملا شعريًّا أو روائيًّا ، أو يُهندسُ كتابًا نظريًّا في الفكرِ أو الفلسفةِ أو الدين .

المُراقبُ يقمعُ ويردعُ ويُعوقُ ويُعرقلُ ، ويُعطِّلُ ، ويُمثِّلُ عقلَ سيِّدِهِ الفارغ .

لأنَّ الرقابةَ سلاحُ الحكومات المُتذبذبة ، غير الواثقةِ ، ذوات الأيدي المُرتعشة ، غير العارفةِ ، المُدَّعيةِ للمعرفةِ والحُريةِ ، المُستعبطة ، المُضْطَّهِدة ، التي لا تملكُ قرارَها ، والتي أيضا  تخشى الفضْحَ والهتْكَ .

فالرقيب يُعاملُ الكتابَ على أنه مُنتَجٌ مُهرَّبٌ ، أو مُخدِّرٌ مَحظُورٌ ، أو سلعةٌ ممنوعةٌ من التداولِ لسُوءِ سُمعتِها ، فلم أسمع عن  كاتبٍ أو شَاعرٍ أو أكاديميٍّ أو واحدٍ من أهلِ الكتابةِ والفكرِ والأدبِ قد عمل مُوظفًا في جهازِ الرقابةِ على الكُتُبِ والمطبُوعاتِ الأجنبيةِ ، وإن كانت  هُناك استثناءاتٌ محدُودةٌ ، وكان ذلك في زمنٍ مضى ، حيث تولَّى نجيب محفوظ ” 1911 – 2006 ”  هيئةَ الرقابةِ على المُصنفات الفنية عام 1959 ، حيث كان مُديرًا لها ، بحكم كونِهِ مُوظفًا كبيرًا في وزارة الثقافةِ  ، وهي غير جهاز الرقابة على الكتبِ والمطبوعاتِ الأجنبيةِ .

مهما يكُن من مكانةٍ لمحفوظ أو العقَّاد ، فأمر توليهما منصب الرقيب ، هُو من المآخذِ ، ولا أريدُ أن أقول " السقطات " التي لا تُغتفر

مهما يكُن من مكانةٍ لمحفوظ أو العقَّاد ، فأمر توليهما منصب الرقيب ، هُو من المآخذِ ، ولا أريدُ أن أقول ” السقطات ” التي لا تُغتفر

والثابت عندي أنَّ أيَّ مُثقفٍ لا ينبغي لهُ أن يتولَّى مسؤوليةَ الرَّقابةِ سواء أكانت فنيةً أم على الكُتبِ والمطبُوعاتِ العربيةِ أو الأجنبية ، لأنَّ الكاتبَ أو الشَّاعرَ أو المُبدعَ بشكلٍ عام خُلِقَ ليعترضَ على الرَّقابةِ لا أن يتولاها أو يُؤيدها ، ورُبَّما لا يعرفُ كثيرُون أنَّ عباس محمود العقاد ” 1889 – 1964 ”  تولَّى هو الآخر أمرَ الرقابة على المطبُوعات خلال الحربِ العالميةِ الثانيةِ ” 1939 – 1945 ” ، ومهما يكُن من مكانةٍ لمحفوظ أو العقَّاد ، فأمر توليهما منصب الرقيب ، هُو من المآخذِ ، ولا أريدُ أن أقول ” السقطات ” التي لا تُغتفر ولا يُمكنُ للتاريخ الأدبيِّ لهما أن ينسى لهُما هذا العمل ، مهما تكُن الحِججُ والدفُوع ، لأنَّهما قارئانِ وكاتبانِ في المقام الأول ، قبل أن يكُونا مُوظفيْن في وزارةٍ ما ، ويُدركان كيف تعاملتِ السلطاتُ عبر التاريخِ مع الكاتبِ والكِتَاب من تمزيقٍ وإحراقٍ ، أو على الأقل تخريب النُصوص بالحذْفِ والشَّطبِ والمحوِ والطَّمْسِ والفسْخِ ” وليس الفَسْح ” ، في مُحاولةٍ لإظهارِ قوة سُلطة الرقابةِ التي عادةً ما تُمثِّلُ الحكومةُ أو البرلمانَ أو الهيئةَ الدينيةَ أو البوليسيةَ أو وزارةَ الإرشاد سابقًا أو الإعلام تاليا ، لأنَّ وزارة الإرشاد ” من اسمها ” كانت منُوطةً بإرشادِ الشَّعبِ على طريقتها ، تُقرِّرُ له ماذا يقرأ ، وماذا يترُكُ ، كيْ لا يفسدَ عقلُهُ ، وتتلف رُوحُهُ .

إنَّ جهازًا للرقابةِ في مصرَ ، أو في أيِّ بلدٍ آخر ، هُو عندي ليس له سوى تسميةٍ واحدةٍ : شُرطة الكِتَاب ، أو شُرطة الكُتٌّاب ، التي لن تغلبَ في أن تدبِّجَ إطارًا حقوقيًّا لقمعِ الكِتَاب وكاتبِه ، مثلما كان مُتبعًا في القرنِ الثامنِ عشر الميلادي في فرنسا  ، حيث كان مصِيرُ الكاتبِ النفيَ ، أو الأشغالَ الشَّاقةَ ، أو الإعدامَ لمن كتبَ ، ومن طبَعَ ومن رَوَّجَ من أصحابِ المكتبات .

ففي عام  1761 ، رأينا في فرنسا  أنَّ الطابعَ الذي كتب كتابًا عنوانه ” الرُّوح ” أقِيلَ وبِيعتْ مطبعتُه ، وآخر  الذي طبعَ كتابًا عنوانه ” الرسائل الفلسفية  لفولتير” 21 من نوفمبر 1694- 30 من مايو 1778 ، أقيل وفقدَ أملاكَهُ .

هذان الكتابان وغيرهما ، يتم تداولُهُما الآنَ في فرنسا والعالم ، حيثُ تُرجما إلى لغاتٍ كثيرةٍ ، وعندما يتذكَّرُ القارىء أنَّ كتبًا كهذه أدينَ طابعوها ، وفقدوا مُمتلكاتهم ، وأقيلوا  من أعمالهم ،  يسْخرُون من أنظمةِ بلدانهم ، ولا يُمكنُ لأحدٍ أن يكتبَ عن تاريخِ

الرقابةِ على المطبُوعاتِ ، دُونما أن يذكرَ ، ويتذكَّرَ قرُونًا وحقبًا من المَهازلِ والمساويء ، التي مُورستْ ضد الكاتبِ وكتابه ، ومنها مصر ، التي فاقت فيها نسبةُ المُصادرة والرقابةِ على الكُتبِ خلال العشرين عامًا  الأخيرة ، ورُّبَّما عادَلتْ كُلَّ ما تعرَّضتْ لهُ الكتبُ المطبُوعةُ في مصر ، منذ عرف المصريون الطباعةَ الحكومية الرسمية سنة 1815في عهد محمد علي .

ورُّبما لا يعرِفُ الرَّقيبُ – لفرطِ جَهلِه  –  أنَّ الكِتابَ الممنُوعَ يجْتازُ الحُدودَ ، ويُسافرُ ، ويحيا ، ويتنفَّسُ ، وإنْ توقفَ قليلا ، فإنهُ لا يمُوتُ أبدًا  مادام  يحملُ  أفكارًا ورُؤى .

ولا  أحبُّ أن يقُولَ عنَّا التاريخُ – وهو يرصدُ ويُغربلُ وينخُل ويُسجِّلُ – إنَّنا شُعُوبٌ كان أداؤها سلبيًّا إزاء قضايا ومشكلاتِ الرقابةِ على الكُتُبِ والمطبُوعات ، ولم ينتصروا للحريةِ العامةِ .

ولا  أريدُ لناشرٍ أو كاتبٍ أن يقفَ في ميدانٍ عام مُقيد القدميْن واليديْن ، وفي عنقه طوقٌ حديديٌّ ، حاملا لافتةً مكتُوبًا عليها ” ناشرٌ أو شاعرٌ أو روائيٌّ مُعَادٍ للدِّينِ والأخلاقِ وربما الوطن والشَّعْب “.

أحمد الشَّهاوي

ahmad_shahawy@hotmail.com

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات