بوشايةٍ من كاتبٍ ، ربَّما قد يكُونُ ” صديقًا ” لكَ ، يُمكنُ أن تُصبحَ ضحيةً للرقابةِ .
وبرسالةٍ قصيرةٍ من آخر ، يُمكنُ أن تصيرَ رقبتُكَ تحتَ حبلِ مشنقةِ المُصادَرةِ ، والمُطاردةِ ، وربَّما الجزّ ، والقطع ، والقصّ ، والذبَح .
فالرقابة لا أخلاقَ لها في أيِّ زمانٍ ومكانٍ ، إذْ هُناك من هُو على استعدادٍ ليشهدَ على أنَّكَ ضالٌّ ومُهرْطِقٌ وزنديقٌ ومُلحدٌ وعلمانيٌّ وشيوعيٌّ ولا دينَ لكَ ، وخارجٌ على النواميسِ والدينِ والأعرافِ ، وضد التقاليدِ .
وكم من أسماء كانت قرابينَ مُقدَّسةً لأجلِ أن تترسَّخَ حُريةُ التعبيرِ والكلامِ في العالمِ ، والقائمة طويلة في تاريخِ الشُّعوبِ ، وفي المقدمة منه التاريخ الإسلامي عبر عُصورِه المُختلفةِ ، حيثُ صفحاته ملأى بآلافِ القَصصِ المُفجعةِ التي تشيرُ إلى قمع الكِتَاب والكاتِبِ ، إذْ تفنَّنَ العربُ في التخلُّصِ من الكُتبِ التي لا يريدُها السلاطينُ وفُقهاءُ الحُكامِ ، بدفنِها في الأرضِ ، أو غسلِها بالماءِ ، أو حرقِها ، أو تركِها لتكونَ وقُودًا للطهي في البوادي والحَضَر على السَّواء .
إنَّ ما يحدثُ في مصرَ من قِبَل جهازِ الرَّقَابةِ على الكُتبِ والمطبُوعاتِ الأجنبيةِ ، كان يماثلهُ في فرنسا ، ولكن كان ذلك في عام 1610 ميلادية ، أي أننا نتقهقرُ أربعةَ قرُونٍ كاملة غير منقُوصةٍ من التخلُّفِ ، ومُحاربةِ الحُريَّةِ ، من خلالِ ترسانةٍ من القوانينِ والأنظمةِ التي تملكُها الرقابةُ ، وكلها تُؤدِّي إلى الفحصِ والحجْزِ و الرفضِ ، والمُصادرةِ ، ، والإدانةِ ، والخنقِ ، والقهرِ ، والقتلِ والوأدِ ، والحرْقِ ، والإبادَةِ ، والدَّفنِ .
لأنَّهُ عندما يعُمُّ الفسادُ ، تزدهر الرقابةُ .
وعندما تغيبُ المبادىءُ والمُثلُ ، ينشط المُراقبون ويتبجَّحونَ ، إذ المُراقبُ عبدٌ مأمُورٌ ، قاسٍ ، مُتبلدٌ ، ناقصُ ثقافةٍ ، ويشعرُ طوال الوقتِ أنه دُون الكاتبِ المُبدع الذي يبني عملا شعريًّا أو روائيًّا ، أو يُهندسُ كتابًا نظريًّا في الفكرِ أو الفلسفةِ أو الدين .
المُراقبُ يقمعُ ويردعُ ويُعوقُ ويُعرقلُ ، ويُعطِّلُ ، ويُمثِّلُ عقلَ سيِّدِهِ الفارغ .
لأنَّ الرقابةَ سلاحُ الحكومات المُتذبذبة ، غير الواثقةِ ، ذوات الأيدي المُرتعشة ، غير العارفةِ ، المُدَّعيةِ للمعرفةِ والحُريةِ ، المُستعبطة ، المُضْطَّهِدة ، التي لا تملكُ قرارَها ، والتي أيضا تخشى الفضْحَ والهتْكَ .
فالرقيب يُعاملُ الكتابَ على أنه مُنتَجٌ مُهرَّبٌ ، أو مُخدِّرٌ مَحظُورٌ ، أو سلعةٌ ممنوعةٌ من التداولِ لسُوءِ سُمعتِها ، فلم أسمع عن كاتبٍ أو شَاعرٍ أو أكاديميٍّ أو واحدٍ من أهلِ الكتابةِ والفكرِ والأدبِ قد عمل مُوظفًا في جهازِ الرقابةِ على الكُتُبِ والمطبُوعاتِ الأجنبيةِ ، وإن كانت هُناك استثناءاتٌ محدُودةٌ ، وكان ذلك في زمنٍ مضى ، حيث تولَّى نجيب محفوظ ” 1911 – 2006 ” هيئةَ الرقابةِ على المُصنفات الفنية عام 1959 ، حيث كان مُديرًا لها ، بحكم كونِهِ مُوظفًا كبيرًا في وزارة الثقافةِ ، وهي غير جهاز الرقابة على الكتبِ والمطبوعاتِ الأجنبيةِ .
والثابت عندي أنَّ أيَّ مُثقفٍ لا ينبغي لهُ أن يتولَّى مسؤوليةَ الرَّقابةِ سواء أكانت فنيةً أم على الكُتبِ والمطبُوعاتِ العربيةِ أو الأجنبية ، لأنَّ الكاتبَ أو الشَّاعرَ أو المُبدعَ بشكلٍ عام خُلِقَ ليعترضَ على الرَّقابةِ لا أن يتولاها أو يُؤيدها ، ورُبَّما لا يعرفُ كثيرُون أنَّ عباس محمود العقاد ” 1889 – 1964 ” تولَّى هو الآخر أمرَ الرقابة على المطبُوعات خلال الحربِ العالميةِ الثانيةِ ” 1939 – 1945 ” ، ومهما يكُن من مكانةٍ لمحفوظ أو العقَّاد ، فأمر توليهما منصب الرقيب ، هُو من المآخذِ ، ولا أريدُ أن أقول ” السقطات ” التي لا تُغتفر ولا يُمكنُ للتاريخ الأدبيِّ لهما أن ينسى لهُما هذا العمل ، مهما تكُن الحِججُ والدفُوع ، لأنَّهما قارئانِ وكاتبانِ في المقام الأول ، قبل أن يكُونا مُوظفيْن في وزارةٍ ما ، ويُدركان كيف تعاملتِ السلطاتُ عبر التاريخِ مع الكاتبِ والكِتَاب من تمزيقٍ وإحراقٍ ، أو على الأقل تخريب النُصوص بالحذْفِ والشَّطبِ والمحوِ والطَّمْسِ والفسْخِ ” وليس الفَسْح ” ، في مُحاولةٍ لإظهارِ قوة سُلطة الرقابةِ التي عادةً ما تُمثِّلُ الحكومةُ أو البرلمانَ أو الهيئةَ الدينيةَ أو البوليسيةَ أو وزارةَ الإرشاد سابقًا أو الإعلام تاليا ، لأنَّ وزارة الإرشاد ” من اسمها ” كانت منُوطةً بإرشادِ الشَّعبِ على طريقتها ، تُقرِّرُ له ماذا يقرأ ، وماذا يترُكُ ، كيْ لا يفسدَ عقلُهُ ، وتتلف رُوحُهُ .
إنَّ جهازًا للرقابةِ في مصرَ ، أو في أيِّ بلدٍ آخر ، هُو عندي ليس له سوى تسميةٍ واحدةٍ : شُرطة الكِتَاب ، أو شُرطة الكُتٌّاب ، التي لن تغلبَ في أن تدبِّجَ إطارًا حقوقيًّا لقمعِ الكِتَاب وكاتبِه ، مثلما كان مُتبعًا في القرنِ الثامنِ عشر الميلادي في فرنسا ، حيث كان مصِيرُ الكاتبِ النفيَ ، أو الأشغالَ الشَّاقةَ ، أو الإعدامَ لمن كتبَ ، ومن طبَعَ ومن رَوَّجَ من أصحابِ المكتبات .
ففي عام 1761 ، رأينا في فرنسا أنَّ الطابعَ الذي كتب كتابًا عنوانه ” الرُّوح ” أقِيلَ وبِيعتْ مطبعتُه ، وآخر الذي طبعَ كتابًا عنوانه ” الرسائل الفلسفية لفولتير” 21 من نوفمبر 1694- 30 من مايو 1778 ، أقيل وفقدَ أملاكَهُ .
هذان الكتابان وغيرهما ، يتم تداولُهُما الآنَ في فرنسا والعالم ، حيثُ تُرجما إلى لغاتٍ كثيرةٍ ، وعندما يتذكَّرُ القارىء أنَّ كتبًا كهذه أدينَ طابعوها ، وفقدوا مُمتلكاتهم ، وأقيلوا من أعمالهم ، يسْخرُون من أنظمةِ بلدانهم ، ولا يُمكنُ لأحدٍ أن يكتبَ عن تاريخِ
الرقابةِ على المطبُوعاتِ ، دُونما أن يذكرَ ، ويتذكَّرَ قرُونًا وحقبًا من المَهازلِ والمساويء ، التي مُورستْ ضد الكاتبِ وكتابه ، ومنها مصر ، التي فاقت فيها نسبةُ المُصادرة والرقابةِ على الكُتبِ خلال العشرين عامًا الأخيرة ، ورُّبَّما عادَلتْ كُلَّ ما تعرَّضتْ لهُ الكتبُ المطبُوعةُ في مصر ، منذ عرف المصريون الطباعةَ الحكومية الرسمية سنة 1815في عهد محمد علي .
ورُّبما لا يعرِفُ الرَّقيبُ – لفرطِ جَهلِه – أنَّ الكِتابَ الممنُوعَ يجْتازُ الحُدودَ ، ويُسافرُ ، ويحيا ، ويتنفَّسُ ، وإنْ توقفَ قليلا ، فإنهُ لا يمُوتُ أبدًا مادام يحملُ أفكارًا ورُؤى .
ولا أحبُّ أن يقُولَ عنَّا التاريخُ – وهو يرصدُ ويُغربلُ وينخُل ويُسجِّلُ – إنَّنا شُعُوبٌ كان أداؤها سلبيًّا إزاء قضايا ومشكلاتِ الرقابةِ على الكُتُبِ والمطبُوعات ، ولم ينتصروا للحريةِ العامةِ .
ولا أريدُ لناشرٍ أو كاتبٍ أن يقفَ في ميدانٍ عام مُقيد القدميْن واليديْن ، وفي عنقه طوقٌ حديديٌّ ، حاملا لافتةً مكتُوبًا عليها ” ناشرٌ أو شاعرٌ أو روائيٌّ مُعَادٍ للدِّينِ والأخلاقِ وربما الوطن والشَّعْب “.
أحمد الشَّهاوي
ahmad_shahawy@hotmail.com
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.