الحياة الثانية للحَكَواتي طارق إمام

11:13 صباحًا الأحد 30 سبتمبر 2018
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

نص الحوار الكامل من تقديم وحوار: رشيد وحتي (الأخبار اللبنانية، السبت 29 سبتمبر 2018)

97E758FE-F227-4E92-BD61-5F3FF9509134

 

يبدأ الحب لأننا نبحث عن قصيدة.. وينتهي لأننا نعثر على قصة». في جملة مركزة (ككل الكتابات الحديثة)، يعتريها تَقَطُّعٌ مقصود (ككل الكتابات الحديثة، مرة أخرى)، يجعل طارق إمام من الحياة والنص مساراً واحداً، يخلط الأنواع الأدبية، حدَّ تشويشِ معاييرها. فإنْ كان لكل أديب عبارة تلخص كتاباته، لربما كانت هذه بالذاتِ موجزَ الحياة الثانية لطارق إمام، موجز حياة قصاص وروائي يقرأ الشعر، يجعل من الشعر والشعراء مادة روائية له، كما في «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» التي تُعْتَبَرُ من صميم تقليد الحيوات المُتَخَيَّلَة، باشتغالها على الشاعر الإسكندري الذائع الصيت؛ بل يحدث أيضاً أن تجد لديه مقاطع ونصوصاً تتخذ شكلاً سردياً يتوسل القص الشعري ويربط الصلة بالحكاية، كنوع تراثي كاد ينقرض أو ينحسر بتوجيهه للأطفال (توجبت الإشارة هنا إلى أن طارق إمام يكتب أيضاً ضمن أدب الطفل). وطارق إمام يضع هنا الإصبع على أزمة اعْتَرَتْ أدب القرن العشرين، أشار لها الفيلسوف الألماني ڤالتر بنيامين في نصه التأسيسي: «الحكواتي» الذي ركز في مجمله على عَطَبَيْنِ أصابا الحياة اليومية والسرد الأوربيين غداة الحرب العالمية الأولى: الأول، انغلاق الفرد على ذاته تواصلياً، وسط الخراب، بحيث لم يعد يحكي عن حياته اليومية حتى في الوسط الأُسَرْي. أما الثاني، فهو موت الحكواتي لصالح الروائي كنتيجة أدبية لذلك. (للتدقيق، الحكواتي ــ لدى بنيامين ــــ ليس فقط بمعناه المشرقي كراوٍ شفوي يتحلق حوله الجمهور، ولكن أيضاً كمؤلِّف حكايات مكتوبة يمتزج فيها الخيال بالحياة اليومية). تَصَادِياً مع هذه الإشكاليات الكبرى، التي ما زال يَجْتَرُّهَا عالمنا العربي الممزق بالحروب الأهلية والكولونيالية، كان لنا هذا الحوار مع طارق إمام انطلاقاً من قصّته «عين» التي ننشرها اليوم للمرة الأولى.
خلال موجات الثورة المصرية، كثيراً ما تم استهداف عيون النشطاء مباشرة من طرف حَمَلَة السلاح. ألا يشكل هذا «الحدث» لا وعي النص أو سياقه الواعي؟

– بالتأكيد، أقصوصة «عين» ملتقطة من شوارع ثورة يناير، انتُزِعت بدورها من وجه الثورة مفقوء العين، من أداة الرؤية التي جرت تصفيتها نيابة عن الجسد كأنه عقاب الجلاد الأكثر رمزية لجسد اللحظة. كتبتُ هذه الأقصوصة تحت هاجس قدرة الإيديولوجيا على تطويع «الشعري» نفسه لتصفية مقولةٍ ما عبر أكثر الآليات رمزية. وفكرت طويلاً: هل تطمح السلطة، أيضاً، في العثور على قصيدتها؟ وهل، أحياناً، تنجح في أن تسبقنا، نحن الذين ندعو أنفسنا حراس الخيال، بخطوة؟

عين حورس، «خَمْشَة» السافارديمية، عين يد فاطمة، عين جورج باتاي، عين شمس، عين سيكلوﭖ هوميروس وكڤافي الإسكندري… ثيمة مصرية ومتوسطية عريقة، ألم تستحضر أياً من أوجهها في وعيك وأنت تكتب نصك؟

– أنت تكتب مؤتنساً بشفراتك، سواء طفا بعضها على سطح نصك أو بقي بعضها الآخر محتجباً في القاع. الكتابة أيضاً استعادة لا واعية لثيمات الثقافة بغية مساءلتها، لا البحث عن إجابة جاهزةٍ فيها.. ليس بالضرورة توظيفها بالطريقة المدرسية للتناص، التي تستعير مقتبساً أو عبارة أو تورد اسماً أو عنواناً، التناص في جوهره تلويحة للنسيان، تجعلنا قادرين على الإمساك بخيط الثقافة عبر أكثر أطرافه هشاشة.

عين، نكرة، وليس: العين، معرَّفة. لماذا لا تكون هذه العينُ كلَّ عين؟ عينَ، بل جسدَ، مصرَ، الذي نكَّلَتْ به السلطة؟ رمزياً: عينَ البصيرةِ الشاهدةَ..

– التعميم كان مقصوداً، نعم هي كل عين يمكن أن نعثر عليها مثلما نعثر على قطعة عملة تحت أقدامنا. النص الأدبي، في تصوري، كالفعل، إما «لازم» أو «متعدٍّ». ثمة نصوص لازمة وأخرى متعدية. وفقاً لتصوري، يجب أن يكون النص متجاوزاً لبعده التداولي الأوّلي إن أراد ألا يكون خبراً في صحيفة، أقصد: يجب أن يكون استعارة، بمعنى أنه ليس محاكاة أولية للواقع، أو تلويحة كنائية، طامح لأن «يدل» لا أن «يحاكي». الاستعارة هي طريق الفن، كما أحبه وأتصوره، لكي ينشط مباشرةً داخل الدلالة، الدلالة المنزاحة عن الأفق الاتفاقي، أفق الإخبار التداولي الاستهلاكي في شكله غير الفني.

نصك هذا حكاية أم أقصوصة؟ بشكل أعم، هل تفكر في النوع الأدبي لنصوصك قبل/ خلال/ بعدَ كتابتها؟

– أؤمن أن النوع الأدبي ليس ملصقاً سابقاً أو قالباً نعبئ فيه ما نكتب. ومن بداياتي تعرضت لهذا الارتباك بشكلٍ عملي. ثمة مقتضيات للنوع، بالتأكيد، لكن الاختلاف يكمن في مدى مرونة التعامل مع هذه المقتضيات ومجادلتها ومنحها القدرة على إعادة تعريف نفسها، إن كان الفن حقاً تفكيكاً لا نهائياً لكل سلطة سالفة. مجموعتي القصصية الأولى «طيور جديدة لم يفسدها الهواء» (1995)، رفض ناشرها أن يصنفها كـ«قصص»، بل رفض نشرها في القطع المخصص للسرد، لتصدر في قطع خاص كان مخصصاً للشعر. وبالتالي تم تلقفها لدى البعض كمجموعة شعرية، قراءةً ونقداً. الحيرة نفسها واجهتُها في روايتي الأولى «شريعة القطة» (2003) الكولاجية بالكامل والكارتونية في بنيتها السردية المفتقرة فوق ذلك لحكاية حدثية لصالح عشرات المحكيات الصغيرة غير المضطردة زمنياً. حتى مجموعتي الصادرة أخيراً «مدينة الحوائط اللانهائية» واجهت هذه الحيرة، صنفتها كـ «حكايات»، غير أن الناشر فضل تصنيفها كـ«قصص» لأسباب تسويقية. مع ذلك، تعامل معها بعض النقاد والقراء كنص روائي مبني على غرار «ألف ليلة وليلة» وعاتبوني لأني لم أطرحها كرواية، وصولاً إلى تجربتي الأحدث «أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها» التي أعمل عليها حالياً (نشر ملحق «كلمات» عدداً من نصوصها). تأتي أغلب التعليقات عليها بأنها تنتمي لقصيدة النثر بأكثر مما تنتمي لجنس السرد. أنا كاتب مراوح نوعياً، ليس عن عمد أو وعي، فقد لعب تكويني الشعري دوراً مبكراً في هذا الانزياح عن السرد التقليدي، الكنائي والتداولي، لصالح الظلال الشعرية للحكاية، حيث أرى أننا نفتش في كل فن عن جوهر شعري ما، لو عدنا دونه فإننا في الحقيقة نكون قد فقدنا عصب الفن نفسه.

في أميركا اللاتينية، وبشكل ينسحب على العالم الناطق بالإسبانية، خصوصاً مع موجة الواقعية السحرية، ابنة «الليالي العربية»، انتفى التفريق الأنواعي بين الحكاية والقصة/ الأقصوصة. ألا ترى في الأمر سبباً لتثمين نصك بـ «جائزة متحف الكلمة الإسبانية الدولية».. الإسبان، الشعب الشرقي، رغم كل شيء؟

– ملحوظتك ذكية، واسمح لي أن أعتبرها التفاتة نقدية أكثر منها تساؤلاً. أوافقك، نحن كعرب نقف مطولاً أمام اللافتات حتى ننسى النصوص، تأمل الوقت الذي استغرقته مصطلحات مثل «الشعر الحر» و«قصيدة النثر» فقط لكي تستقر في ثقافة لا ترحب بالانزياح عن «ثوابتها»، بينما تحركت النصوص نفسها غير ملتفتة لذلك اللغط النظري. للسرد مأزق مختلف، لأنه سليل نص منبوذ هو «ألف ليلة وليلة»، ولأنه نقيض بلاغة اللغة المقدسة، من النص المقدس للقصيدة العمودية، لكن في الثقافة الغربية، الأمر مختلف، وحيرة النوع نفسها قد تكون في صالح جدة نص ما، بل سبباً إضافياً لتثمينه.

يبدو أن نصك «عين» بالذات اختمر ليكون لَبِنَةَ ومنطلَقَ «مدينة الحوائط اللانهائية»، مجازاً ناظماً للعلاقة بين النصين من خلال الحكاية الاستهلالية للكتاب: «حكاية المرأة ذات العين الواحدة» (اقرأ القصة في مكان آخر من الصفحة). ألا تكون هذه العينُ ما يسميه مُقَارِبُو النص الأدبي نفسياً بالاستعارات الهَوَسِيَّة؟ ألا يكون طارق إمام مهووساً باستعارة العين؟

– أنا من الكُتَّاب الذين يعيدون النظر لـ«نُطَفهم»، إن جاز التعبير، لتكثيرها في نصوص أخرى. بالتأكيد يحضر نص «عين» في لا وعي «مدينة الحوائط اللانهائية»، واستعارة «العين» حاضرة في أكثر من نص داخل الكتاب، لأني مشغول بها وبأفقها: «النظرة». ولا تنسَ أن «مدينة الحوائط» ترحب أيضاً باستضافة عدد من شخصياتي الروائية التي حضرت في رواية «ضريح أبي» وتعيد توظيفها في حكايات جديدة.

في هذا الكتاب، أيضاً، لديك تضارب في التجنيس الأدبي بين القصة والحكاية: بين« قصص» الغلاف و«حكايات» المتن الداخلي.. الكتابةُ إسمنتاً للحم الواقع والفنتازيا، على طريقة كتاب الواقعية السحرية؟

– كما أسلفت، المقابلة جاءت لأسباب تسويقية بحت، لكني لم أعترض لأني لا أرى في أحد التصنيفين نفياً للآخر، وبالفعل أنتمي للتصور الوجودي الذي تطرحه الواقعية السحرية كنظرة للعالم، وهي كما قلت أنت، نصنا العربي الأكبر وليس سلعة مستوردة من أميركا اللاتينية أو غيرها، وأندهش من «الجهلة» الذين يعتبرون «الواقعية السحرية» تياراً يطير فيه الناس فقط من دون سبب، لأن الكثير من الكتاب العرب لا يزالون أسرى الأدب الواقعي التقليدي ونظرية المحاكاة التي عفا عليها الزمن، والثنائية التافهة بين واقع/ خيال ويتحسسون مسدساتهم لدى تلمُّس أي اقتراب مختلف مما نسميه الواقع، لأنهم عبيد للإيديولوجيات، حيث تأتي أي نظرة مختلفة للعالم عبر الفن لتُسقط ورقة التوت التي يدارون بها عورات نصوصهم الكنائية الفوتوغرافية.

وضع صلاح المرّ للكتاب رسومات. هل كنت تفكر في التقليد الطِّباعي العربي العريق الذي يضع رسومات ومنمنمات بإزاء المتن الحكائي؟ (طبعات «ألف ليلة وليلة» البولاقية والشعبية، «كليلة ودمنة»، «مقامات الحريري»/ الواسطي)

– لم يكن ذلك بعيداً عن تصوري للشكل النهائي للكتاب، اقترحتُ صلاح المر لأني، كمتابع لتجربته، رأيت في أعماله إمكانية ترجمة الجانب الرؤيوي المتخلق لغوياً لتكوين تشكيلي بصري. مرت تجربتنا معاً بنقاشات عديدة لتصبح الرسوم في النهاية جزءاً من النص نفسه، ووجهاً بصرياً له وليس مجرد حليات مضافة أو مقحمة. هناك أيضاً الشكل الفني النهائي للكتاب، بما في ذلك الغلاف الذي صممه الفنان عمرو الكفراوي مستعيناً بحكاياتي وموتيفات المر معاً، ليخلق نصاً ثالثاً هو الغلاف الذي جاء مزجاً بين الإحالة التراثية والتصميم الفني الحديث.

سؤال يرى فيه البعض خدشاً للشعور الوطني المصري: هل تبقى شيء من الأطروحة الواقعية لنجيب محفوظ بإزاء الأطروحة «الشعرية» لإدوار الخراط؟

– ليس في الفن ما يجرح الشعور الوطني، والخراط مصري كمحفوظ فهو لا ينتمي لوطن آخر. في الحقيقة أرى أن محفوظ نفسه تجاوز أطروحته الواقعية للأبد بكتابة الثلاثية، وأرى أن أطروحاته الفنية اللاحقة، جميعها، ذهبت للشاعرية في اختباراتها المتعددة، سواء في سياق أليغوري رمزي كـ «أولاد حارتنا»، أو وجودي كروايات «الطريق» و«الشحاذ» و«اللص والكلاب»، أو في استنطاقه الميتافيزيقي عبر الكنائي، أو تحويل الكنائي لاستعاري كما في «الحرافيش» و«ليالي ألف ليلة»، وصولاً إلى إصابة الشعري التجريدي مباشرة في نصوصه الأخيرة مثل «أحلام فترة النقاهة» و«أصداء السيرة الذاتية». محفوظ البلزاكي انتهى للأبد بعد عام 1955، وحارة محفوظ القاهرية الكنائية في «زقاق المدق» صارت شارع العالم في جميع أعماله اللاحقة.
………………………………………………………………..

عيْن: حِكاية

ذات مرّة، وجدتُ عيْناً ملْقاة في أحد الشّوارع، حقيقيّة.. حتّى أنّني عندما انْحنيْت والْتقطْتها برفْق تلمّسْت دموعها. كانتْ ما زالت قادرة على النّظر.. عين تختلف بالتّأكيد عن تلك العيون الْمصفّاة المتناثرة على أرصفة القاهرة. ظللْت أحملها بحرص كي لا أفقأها، باحثاً عن شخص أهديها له. كنت أسترق النّظر إليها، فأراها تتأمّل الْمدينة مهزومة، دون وجه يرى بها، دون جارة تشاركها النّظر. في النّهاية — وكانت كفّي الحريصة المثقلة بها أتعبتني — اعتصرتها بعنف، حتّى شعرت بالدّنيا تظلم أمامها. في ذلك اليوم بالذّات، قابلت أشْخاصاً كثيرين فقدوا كلّ شيء، إلّا عيونهم، وفقط في البيت، تذكّرت أنّني ذات يوم، فقدت عيناً.

……………………………………………………………….

حكاية المرأة ذات العين الواحدة *

من أي مكان في مدينة الحوائط، كان يمكنك قديماً أن تشاهد جبل الكحل الضخم داكن الزرقة، منتصباً بشموخ عند تخومها. في سفح الجبل كانت تجلس، ذات يوم بعيد، تلك المرأة الحكيمة، التي لا تملك سوى عين واحدة في منتصف وجهها: عين واسعة جداً ومكحولة على الدوام، تتحرك فيها ثلاث حدقات وليس اثنتين مثل بقية البشر. كان البعض يسمونها المرأة ذات العين الواحدة، ويسميها آخرون المرأة ذات الحدقات الثلاث، وكان كل فريق محقاً في وصفه.
في محيط ذلك الجبل، يعيش الآن جيلٌ من أحفاد الأحفاد على ذكرى لعنة لم يروها. يكادون يتحولون إلى أشباح فاقدين، يوماً بعد آخر، القدرة على التجسّد، وكأنهم ولدوا من لعنة تلك المرأة.
إنها امرأة غريبة، كانت تسلي وقت فراغها بوضع حفنات قليلة كل صباح من المسحوق الناعم حول عينها، لتكحلها، فيزيد اتساعها. كل من رأوها قالوا إن عينها كانت جميلة بالفعل، تتحرك فيها الحدقات الثلاث بثلاثة ألوان مختلفة: واحدة سوداء، وواحدة زرقاء، وواحدة خضراء. تبدو كأنها ثلاث سمكات زينة تسبح في بئر واسعة بيضاء متلاطمة الماء. رغم ذلك، لم ينكر من رأوها وجهاً لوجه أن عينها مخيفة أيضاً بقدر جمالها، وهكذا عرفنا أن الجمال لا يكتمل دون قدرٍ من الرعب.
بالتحديق في عينها، كان النسل الأول لسلالتنا، والذي جاء للحياة في محيط الجبل العجيب، يكتشف أن ماءها الأبيض يتجعد كموجات البحر الهادرة، تتدافع في مد وجزر لتصطدم بسور الكحل الصلب المحيط بها. ينجح بعض الماء في القفز من فوقه مغادراً عينها، فتكون الدموع، التي تسيل داكنةً في خيوط طويلة بامتداد ثوبها الفضفاض.

كانت عينها تلك سراً كبيراً غامضاً، كوجودها ذاته. رغم أنها لم تكن جميلة، فضلاً عن أن جسدها كان ضئيلاً متيبساً مثل فرع شجرة عتيقة منكفئ على نفسه، إلا أن جميع نساء المدينة الآخذة في التكوُّن كنّ يحسدنها في سرهن، لجمال الكحل الذي يتوّج عينها الكبيرة. لم يكن الكحل قد عُرِف بعد في العالم، وكان المكان الوحيد الذي يتوفر فيه ذلك المسحوق السحري هو جبل المرأة ذات العين الوحيدة، والتي كانت تبدو امتداداً له وكأنها ولدت من ترابه.
لم تبخل على شخص في المدينة بنصحها أو عطاياها الكثيرة من أدوية ووصفات وأطعمة سحرية وسوائل غريبة اللون والطعم، غير أنها رفضت بحسم كل الرجاءات بأن تعير أي امرأة ولو قدراً ضئيلاً من الكحل الذي تضعه في عينها، وهو ما دفع النساء إلى التخمين أن قدراتها السحرية وحكمتها العميقة مصدرها جبل الكحل الذي لا ينفد أبداً على مر السنين، رغم أنها لم تكن تضيف إليه.
لم يكن الناس يعرفون أن دموعها التي تسقط منها على الدوام تكون ممزوجة بالكحل، وحين تجف تتحول إلى قطع صلبة ما تلبث أن تصير كحلاً من جديد تعيد المرأة استخدامه، وهكذا صارت كل ذرة كحل في الجبل تحمل رائحة الدمع.
من جهتها، لم ترُدّ المرأة على أسئلة أحد في ما يخص ذلك الشأن، لأنها، كأي امرأة حكيمة، كانت مقتنعة بأن عذاب الإنسان يبدأ حين يسأل عما لا يجب أن يعرفه.
إنها امرأة معمرة، رأت هذه المدينة منذ كانت مساحة من الخلاء، وكبرت المدينة أمام عينها كما لو كانت طفلها اليتيم، حتى صارت متاهة من الحوائط التي لا أبواب لها.
لا يعرف الأهالي عن تاريخها شيئاً، ولا يعلمون السبب في شكلها الغريب، لكن الجميع ممتنّون لها على الدوام، ليس فقط لأنها كانت تعيد السكينة للمعذبين، لكن لأن هذا الجبل حمى المدينة من الرياح القوية التي كانت تصطدم به لتعود أدراجها، والتي كان بوسعها أن تدمر حوائط المدينة وتحوِّلها في لحظة إلى عدم، كذلك استخدمته المرأة في الغزوات التي تعرضت لها المدينة، حيث كانت تملأ كفيها بحفنات من الكحل وتقذف بها في عيون الأعداء فتصيبهم بالعمى. تمر السنوات، لا المرأة تشيخ ولا جبل الكحل يتناقص.
رغم إعجاب النساء بها، إلا أن غيرتهنّ كانت تتضاعف يوماً بعد يوم، إلى أن جاء يوم قررن فيه أن يذهبن جميعاً إلى جبل الكحل ويغترفن منه. لأنها حكيمة، عرفت المرأة ما إن شاهدتهن ما جئن من أجله. قالت لهن قبل أن تنطق إحداهن بكلمة: «أنتن تردن هذا الكحل لعيونكن، تعتقدن أن فيه سراً خلودياً وحكمتياً، وتتناسين أنني لا أملك سواه. ليس لي زوج مثلكن ولا بيت ولا أبناء… فضلاً عن شكلي الغريب وجسدي الضئيل.. أتستكثرن عليَّ الشيء الوحيد الذي أملكه؟».
أطرقت النساء لثوانٍ، لكنهن أفقن سريعاً، مقرراتٍ ألا يستمعن للمرأة وألا يفكرن في كلامها. أخذن يقتربن من جبل الكحل وتدافعت الأيادي لتنهب كل امرأة ما تقوى عليه. هنا أكملت المرأة بابتسامة: «أستطيع أن أمنعكن، وأن أوقف أياديكن بنظرة، لكنني لن أفعل… لأن الخسارة لن تكون من نصيبي».
عندما أكملت عبارتها، كانت النساء قد أنهين تقسيم جبل الكحل، وتفرّقن بأجولتهنّ التي عبأن فيها غنيمة المسحوق الداكن، وكانت تلك هي المرة الأولى منذ عرفن جبل الكحل، التي تعود فيها كل امرأة من طريق. اختفت من بعدها المرأة إلى الأبد، وصار وجودها منذ ذلك الحين ذكرى.
في اليوم التالي، استيقظت كل امرأة وضعت الكحل في عينيها بعين واحدة بيضاء في منتصف وجهها، بلا حدقات، تسيل منها دموع حارقة على الدوام، بينما تحوَّل موضع جبل الكحل إلى عين ماء واسعة، تسبح فيها ثلاث سمكات كبيرة. ولأن البحيرة كانت بلا سور يحتجز مياهها المندفعة، فقد بدأ الماء يسيل في لطمات متلاحقة مجنونة، متجهاً نحو بيوت المدينة التي بلا أبواب، ليُغرقها. كان الماء يسير في كل الطرق الرفيعة التي تجعل من المدينة متاهة، والتي يكفي الواحد منها شخصاً واحداً بالكاد.
فشلت كل المحاولات في بناء أسوار حول عين الماء الهادرة، فقد كان اندفاع الماء دائماً أقوى من كل الحواجز، قادراً على إذابة الطوب والحجارة والفولاذ وجميع المواد الأخرى التي جربها الأهالي ليتفادوا الغرق. مع شروق كل شمس جديدة، كانت المدينة تفقد بيتاً أو أكثر، حتى جاء يوم قرر فيه الرجال أن يستخدموا ما تبقى من كحل في بيوتهم لإحاطة الماء به. توجه الرجال بأجولة الكحل، أفرغوها حول عين الماء، وكانت المفاجأة أن الماء هدأ مستسلماً كأنه دم نازف انبجس فجأة. هكذا صارت المدينة تطل على بحر من الدمع، سيصير في ما بعد ميناءً تتوقف فيه السفن ليهبط منها كل أنواع الغرباء الذين لم يخرج أحدهم من المدينة إلّا وزرع فيها سبباً جديداً للدموع.
كف الماء من يومها عن مهاجمة المدينة، وصار يصطدم بالسور الجديد المتين من دون أن يقوى على تفتيته أو إذابته، عدا موجات قليلة بين الحين والآخر، كانت تتمكن من القفز فوقه، تتجول في شوارع المدينة برفق، لتُذكّر الناس بدموع امرأة قديمة، وبجبلٍ داكن الزرقة تحوَّل مكانه إلى ذكرى بعيدة.

* من مجموعة «مدينة الحوائط اللانهائية»
……..……………………………………………………………

صورة عن الحوار في /الأخبار/ اللبنانية

صورة عن الحوار في /الأخبار/ اللبنانية

*سيرة في سطور

طارق إمام من مواليد 1977. صحافي، وقصاص، وروائي، وناقد وكاتب أطفال مصري. من أعماله: «طيور جديدة لم يفسدها الهواء» (قصص، 1995)، «شارع آخر لكائن» (قصص، 1997)، «ملك البحار الخمسة» (قصص للأطفال، 2000)، «شريعة القطة» (رواية، 2003)، «هدوء القتلة» (رواية، 2015)، «الأرملة تكتب الخطابات سراً» (رواية، 2009)، «حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها» (قصص، 2010)، «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» (رواية، 2012)، «ضريح أبي» (رواية، 2013)، «مدينة الحوائط اللانهائية» (قصص، 2017). يجري تحويل روايته «هدوء القتلة» لفيلم طويل من إخراج أحمد حسونة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات