أمُّ ياسر … أوّل دليلة بدويّة في صحراء مصر

07:06 مساءً السبت 21 ديسمبر 2019
د. منى برنس

د. منى برنس

أكاديمية وناقدة وروائية ومترجمة من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

كان لرجال قبيلة الحماضة شرطين: الأول، أن تكون رحلة المشي في الوديان و الجبال خاصة بالنساء فقط. و الثاني، ألا تبيت النساء جميعهن، الدليلات البدويات و النساء المشاركات، في الصحراء، و أن يعدن قبل مغيب الشمس إلى القرية في وادي صهو.

مدينة أبو زنيمة الساحلية

مدينة أبو زنيمة الساحلية

و تقع منطقة قبيلة الحماضة في الغرب من شبه جزيرة سيناء، على بعد حوالي ساعة و نصف من مدينة أبو زنيمة الساحلية. و حسب رواية شيخ القبيلة، الشيخ عيد الروبيقي، فإن قبيلة الحماضة تعد من أقدم القبائل التي استوطنت سيناء. و في لقائه الترحيبي بنا في ساحة بيت ابراهيم أبو عبيد سعيد زوج دليلتنا الصحراوية “ أم ياسر” في وادي صهو، أعلن الشيخ عن تأييده لتلك المبادرة و عمل سيدات البدو كدليلات للصحراء، و رغبته في أن تصبح منطقة الحماضة على خريطة السياحة البيئية. كما روى الشيخ الروبيقي بفخر و اعتزاز أن الرئيس الراحل أنور السادات قال لمناحم بيجن رئيس وزراء اسرائيل وقت توقيع معاهدة كامب ديفيد، أن وجود الحماضة أقدم بكثير من وجود اليهود، و العهدة على الرواي.

بالنسبة لنا، المشاركات في الرحلة، لم يكن لدينا أي توقع أو صورة ذهنية عن القرية التي تقع في قلب الصحراء. كما لم تكن لدينا أية معرفة مسبقة بكيفية الحياة هناك. و ربما يكون السبب الأساسي للمشاركة في هذه الرحلة هو الرغبة في التعرف على السيدات البدويات و نمط حياتهن. و هو أمر لم يحدث سابقا لي و للمشاركات. فكل رحلات المشي في الصحراء يقودها أدلاء من رجال البدو مهما اختلفت المنطقة أو القبيلة. كنا نتعامل فقط مع الرجال. هم يقومون بكل شيء، تنظيم الرحلة، المسار، الطعام و المبيت في الصحراء.

بعد مناقشات متعددة بين مؤسسي درب سيناء الذي امتد ليشمل ثمانية قبائل و بين رجال قبيلة حماضة، اتفق الطرفان على الشرطين الأساسين، لتصبح بذلك قبيلة الحماضة الأولى في التاريخ التي تسمح لنسائها بالعمل كدليلات لرحلات المشي في الصحراء، و هي السياحة البيئية التي بدأت تزدهر مؤخرا في سيناء.

هيكل سيارة ربع نقل قديمة و صدئة و مفرغة من كل محتوياتها. شكّلا معا، الشجرة الضخمة العارية و الهيكل المعدني، ما بدا لي عملا فنيا مركبا

هيكل سيارة ربع نقل قديمة و صدئة و مفرغة من كل محتوياتها. شكّلا معا، الشجرة الضخمة العارية و الهيكل المعدني، ما بدا لي عملا فنيا مركبا

دفعتني الأسئلة الكثيرة التي كانت تدور برأسي حول حياة نساء البدو إلى اللحاق بمنظمة الرحلة و بعض الصديقات في سانت كاترين و الذهاب معهن إلى منطقة قبيلة الحماضة، عبر الصحراء، قبل بضعة أيام من بدء الرحلة. أحمل معي خيمتي و كيس النوم و بضعة كراسات تلوين و حكايات مبسطة لأطفال لا أعرف شيئا عن مستوى تعليمهم الرسمي. تتوقف السيارة الجيب التي حملتنا أمام أحد بيوت القرية التي تناثرت على مساحة كبيرة. أرى شجرة “سيالة” قديمة منتصبة في فراغ صحراوي بجانبها هيكل سيارة ربع نقل قديمة و صدئة و مفرغة من كل محتوياتها. شكّلا معا، الشجرة الضخمة العارية و الهيكل المعدني، ما بدا لي عملا فنيا مركبا. اندفع الأطفال الذين كانوا يلعبون حول هذا “ العمل الفني المركب” نحونا مهللين، و خرجت أم ياسر و زوجها و بعض قريباتها من البيت ليرحبن بنا.

وضعت وشاحا على فمي و أنا أسلم على السيدات و أعانقهن، فقد أصبت بالبرد و الكحة من جراء انخفاض درجة الحرارة الشديد في مدينة سانت كاترين، و خشيت أن أنقل لهن العدوى. على الفور أدخلتنا أم ياسر إلى الدار و أجلستنا على بسط مفروشة على الأرض وسطها منقد به فحم مشتعل. أسرعت بإحضار بعض الأعشاب الطبية من الصحراء القريبة، و غلتها مع الماء في ابريق معدني على الفحم.

الكاتبة الرحّالة، ودليلتها أم ياسر

الكاتبة الرحّالة، ودليلتها أم ياسر

اشربي هذا. قسوم. للبرد و الكحة.” قالت. شربت دون مناقشة فهي أدرى مني بالأعشاب و فوائدها. هكذا يداوين معظم الأمراض. فلا توجد مستشفى أو مستوصف أو صيدلية في هذا المكان و حتى مدينة أبو زنيمة.

تأتي الكهرباء ساعتين في الصباح و نحو ثلاث ساعات بالمساء. تسللت من جلستي بهدوء و أخذت خيمتي لأنصبها بعيدا عن الضوء، الذي و ان كان شاحبا، يزعجني. كما انني أردت أن أرى النجوم التي لا نراها في مدننا. و عندما عدت إلى مكاني، قالت لي أم ياسر بحزم، “ ستنامين هنا.” ضحكت و شرحت لها أسبابي. لكن عندما تمنيت لهم ليلة سعيدة و ذهبت إلى خيمتي، لم تمر دقائق إلا و قد رأيت خيال أم ياسر و هي تحمل في يدها كشافا صغيرا تبحث عني.

لقد جئت لأرجعك للدار. لست مطمئنة لنومك بعيدا هكذا في الخلاء.”

“ اطمئني. أنا لست بعيدة، أنا تقريبا خلف بيتك بمسافة صغيرة جدا. و أنا معتادة على النوم هكذا.”

“ أخشى أن يهاجمك كلب أو ذئب أو تقرصك حشرة.”

“لا تخشي شيئا. أنا لا أخاف. لي جسارة مائتي رجل و ليس مائة.”

أنتِ مشكلة يا منى.” و ضحكت و هي تلف حول الخيمة تتفحصها بكشافها و تتأكد أن ليس بها أية ثقوب قد تدخل منها الحشرات.

قبلّت رأسها شاكرة و مقدرة لها اهتمامها. عادت إلي دارها. تطلّعت أنا إلى السماء أتأمل نجومها و تشكيلاتها إلى أن غالبني النعاس فدخلت خيمتي و أحكمتُ غلقها.

SAM_2723

في الأيام السابقة على وصولنا، كان ابراهيم زوج أم ياسر قد شيّد حمامين بيئيين خارج البيت لتستخدمهما النساء المشاركات في الرحلة. فبيوت القرية نفسها لا يوجد بها حمامات. و قبل أن تصل المشاركات كان قد وضع لوحا كبيرا من الصاج أمام أحد الحمامين ليقوم مقام الباب، و أسدل بطانية كبيرة أمام الحمام الآخر و ثبتها بمسامير من الأعلى و بحجارة كبيرة من أسفل. كانت مشاهدة ما يفعله أهل القرية بإمكاناتهم المحدودة جدا و كيفية استخدامهم للقليل المتاح تبعث على الدهشة و التقدير في ذات الوقت.

SAM_2690 ثم قام ابراهيم، بعد ذلك، بمساعدة رجال القرية و نساء البيت، بنصب بيتي شعر تقليديين، أي خيام مغزولة من شعر الماعز و الإبل، كي تكون مكان مبيت اختياري للنساء و مجلسا في النهار. كانت خيارات المبيت تتنوع ما بين النوم داخل الدار أو في بيت الشعر. و في حالة اشتداد الرياح و هطول المطر فتحت نساء القرية البدويات بيوتهن للنساء المشاركات كي ينمن بأمان، و هو ما حدث بالفعل في الليلة الأخيرة لوجودنا في القرية. كان الفضول يقتلني لمعرفة سبب موافقة رجال القبيلة على السماح لنسائهم بالعمل كدليلات، فسألت ابراهيم في لحظة استراحة، فأجابني،

“ نحن مختلفون عن باقي القبائل، أكثر انفتاحا. و نساؤنا في كل الأحوال يقمن بالمشي مسافات طويلة لرعي الماعز، فالخروج إلى الوديان أمر طبيعي بالنسبة لنا. كما أن المنطقة تتمتع بالأمان التام، و كلنا يعرف بعضنا البعض، و بالتالي لا يوجد مشكلة في أن تصطحب نساؤنا سيدات أخريات داخل نطاق منطقتنا. كما أن ذلك سيأتي بدخل إضافي للبيت. كما ترين، حياتنا فقيرة و صعبة.”

تركت ابراهيم يستكمل عمله و أنا سعيدة بهذا القدر من الانفتاح غير المعتاد بالنسبة لقبائل البدو، و الذي آمل أن يستثير غيرة باقي القبائل فيشجعن نساءهم على العمل أيضا كدليلات للنساء المشاركات في رحلات من هذا النوع. ثم ذهبت إلى خيمتي و أخرجت كراسات التلوين وافترشت الأرض أنا و مجموعة من الأطفال نلون و نقرأ مع بعض الحكايات البسيطة الملونة. كانت فرحة الأطفال كبيرة جدا بتلك الهدايا الصغيرة ورغبتهم في التعلم أكبر. إذ رغم وجود مدرسة ابتدائية ذات فصل واحد لكل المستويات في قرية أخري، على مبعدة نحو عشر دقائق مشي، إلا أنها غير كافية، خاصة مع نقص عدد المدرسين. و كان لافتا جدا أن البنات أشطر من الأولاد و أكثر حرصا على الذهاب إلى المدرسة.

0

كان كل شيء قد أصبح جاهزا عندما غادرت مجموعتنا الصغيرة إلي مخيم بركات في منطقة سرابيط الخادم لاستقبال المشاركات في الرحلة اللائي قدمن من القاهرة. بعد إفطار شهي في المخيم، رحّب يوسف بركات من قبيلة العليقات بالمشاركات و أوضح أن هناك تعاون بين القبائل و بعضها من أجل تسهيل هذه النوعية من رحلات المشي. ثم قامت المنظِمة بشرح الأهداف المختلفة من الرحلة و هو التعرف على حياة و ثقافة السيدات البدويات و توفير فرص عمل لهن من خلال قيادة رحلات خاصة بالنساء. ثم انتقلنا جميعا في سيارات ربع نقل وفّرها يوسف بركات لتقلنا إلى منطقة الحماضة التي تبعد نحو خمسين دقيقة في الصحراء من منطقة سرابيط الخادم. رغم تعب السفر من القاهرة إلى تلك النقطة، إلا أن الحماس والفرحة كانت بادية تماما على السيدات المشاركات خاصة و هن يركبن تلك السيارات التي لم يسبق للكثيرات منهن ركوبها.

SAM_2705 SAM_2737

استقبلتنا أم ياسر و قريباتها و جيرانها أمام بيتها البسيط. البيت المكون من غرفتين و صالة كبيرة داخلية من الطوب الاسمنتي، و الباحة الخارجية حيث مجلس الرجال. و رغم عددنا الكبير، حوالي ٢٥ سيدة، إلا أن سعادة أم ياسر و كل النساء اللائي التقينا بهن كانت لا توصف. كان الأمر أشبه بأن العالم قد زارهن في تلك البقعة النائية في الصحراء. إذ كانت مجموعتنا متنوعة تشمل نساء من مصر و من هولندا، نيوزيلاندا، البرتغال، ألبانيا، كوريا، و لبنان.

SAM_2765

و على مدار ثلاثة أيام، قادتنا أم ياسر مع أربعة نساء بدويات أخريات في رحلات للمشي في وديان و جبال المنطقة. و على العكس من الأدلاء الرجال الذين عادة ما يحكون عن تاريخ قبائلهم، كانت أم ياسر و الدليلات الأخريات يحكين عن تاريخهن الشخصي. ففي اليوم الأول مثلا، و بينما نسير في وادي “بعلة”، الاسم الرسمي للوادي، أشارت لنا إحدى الدليلات إلي صخرة ملساء كبيرة جدا و مائلة بحدة، كن يتزحلقن عليها و هن صغيرات برفقة أمهاتهن و هن يسرحن بالماعز. و بسبب وجود تلك الصخرة، الزحليقة، أطلقت النساء على ذلك الوادي اسم، “وادي الزحليقة”، و عند نقطة معينة في الوادي، أشارت أم ياسر إلى كهف في الجبل و قالت،

“ هنا عشت سنوات كثيرة من طفولتي. و كان الوضع صعبا.”

نظرنا حيث أشارت. كهف صغير له فتحة باب، كانوا يغطونها ببطانية من وبر الماعز. و لتدخل إلي الكهف عليك أن تنحني كثيرا كي تمر من الفتحة.

“ هناك حجرة والديّ، و بجانبها حجرتنا، نحن الأطفال. و الفتحة الأخيرة كانت غرفة الماعز.”

كانت الدموع تترقرق في عينيها و هي تحكي. كانت و الدليلات الأخريات يخلقن بذلك تاريخا شفويا آخر مغايرا للتاريخ الرسمي الخاص بالقبيلة كما يحكيه الرجال. عدنا من وادي “حجيج” قبل المغرب حسب الإتفاق، حيث كان العشاء الذي أعدته نسوة أخريات جاهزا.

كانت رحلة المشي التالية في وادي “العديدية” على درب قديم هيأته شركة بريطانية للمنجنيز في النصف الأول من القرن العشرين و هو خاص بمناجم المنجنيز في منطقة أم بجمة (تقع على بعد عشرة كيلومترات من وادي صهو)، الآن يطلق عليها الآن بلدة الأشباح، بعد أن غادر الموظفون الانجليز و العاملون منها في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي. و أعلى واحدة من الهضاب، توقفت واحدة من دليلاتنا البدويات و أخرجت نايا مصنوعا بشكل بدائي من ماسورة معدنية.

56242499_852291028443552_1781272067505651712_n و عزفت. كانت المفاجأة كبيرة. ليس فقط لشكل الناي، و لكن لأننا لم نكن نعرف أن نساء البدو يعزفن الموسيقى. فشرحت لنا أم ياسر، “ عندما نسرح بالماعز، نسلك هذه الوديان و الدروب كل يوم من الصباح و حتى العصر، و لأننا نقضي وقتا طويلا إلى أن تشبع الماعز من الكلأ و الأعشاب، فإننا نشعر بالملل أحيانا. عندها تعزف إحدانا على الناي و نغني كي نتسلى.”

كان المشي مع النساء متعة أخرى، إذ لا يوجد ذلك الحس التنافسي بيننا كما هو الحال وسط الرجال. نحن لا نتنافس على من سيصل أولا أو من سيحطم رقما قياسيا في المشي لمسافة معينة. نحن نستمتع بالمشي، و بصحبتنا لبعضنا البعض، و سماع حكايات دليلاتنا البدويات. و قد كانت تلك أحد الأسباب التي دفعت الكثيرات من النساء للمشاركة في هذه الرحلة. التعرف على حياة النساء البدويات و ثقافتهن الخاصة عن قرب، كما أن بعض المشاركات يعملن في مجال التنمية المستدامة للمجتمعات المعزولة و المهمشة و مجال التعليم غير الرسمي. و الكل كان يرغب في تقديم كافة أشكال الدعم لهؤلاء النسوة و أطفالهن و هو ما كنا نتباحث فيه في المساء، خاصة بعد أن طلبت نسوة بدويات أخريات المشاركة في هذه الرحلات و أن يعملن كدليلات.

كان الوداع دامعا. لم ترغب رفيقاتنا البدويات في أن نغادر بيوتهن و قريتهن. كذلك نحن في واقع الأمر. لكننا كلنا كنا فخورات بأننا صنعن معا تاريخا جديدا لقبيلة الحماضة، تاريخا نسائيا. و هكذا أصبحت أم ياسر أول دليلة تقود رحلات في الصحراء.

“ سنعود مرة أخرى.”

“ ننتظركن.”

SAM_2731

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات