الحوار الأخير مع الفنان النوراني وجيه نحلة

08:40 مساءً الأربعاء 24 فبراير 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في 21 شباط2017رحل الفنان النوراني التشكيلي وجيه نحله. أذكره وأتذكره اليوم :
كنتُ التقيته في مساء هاديء في قصر الأونيسكو في بيروت،في مناسبة ثقافية فنية حاشدة، وبعد انتهاء تلك المناسبة،انفردت بالراحل في مكتب داخل القصر، وباشرنا،فوراً،بهذا الحوار.


ـــ اللون المفتوح ـــ

رسالة بيروت – إسماعيل فقيه


اللون ، أو النور الذي يرسم به لوحته ، كما يقول الراحل الفنان الرسام وجيه نحلة ، هو لون الحياة وما في داخلها وخارجها. اللوحة التي يرسمها الفنان التشكيلي النوراني اللبناني وجيه نحلة هي لوحة تسعى الى بناء هرم الحياة تحت أنوار شاسعة. كما لو انها درج يمكن الصعود إاليه ومن خلاله الى أعلى مسافة في الضوء و الزمن.ففي أغلب أعماله ولوحاته، رسم الفنان صورة النور المفتوح على الدهشة وأرفقها بنغمات لونية متتالية،وكانت هذه الألوان بمثابة الإيقاع الذي يدوزن لون المعنى ويحوله الى طرب منغم يمكن سماعه بالعين أكثر من الأذن.


معارض كثيرة وأعمال متنوعة قدمها الفنان خلال مسيرته الفنية الحافلة منذ أكثر من نصف قرن. وحضرت لوحته وتربعت في القصور والمطارات والأماكن المحلية والعربية والعالمية، وكان لها النصيب الكبير من الجوائز الهامة . نحج بحشد الطاقة الإبداعية في داخله ، ورفعها الى عنان التجربة الفريدة . واصل بناء المشهد اللوني النوراني الكاشف، الذي استطاع من خلاله ترسيم حدود جميلة للحياة.


ـــ وقائع الحوار ـــ


تحدث الفنان الغائب عن لوحته التي تمثل ذروة الجمال الذي يسعى إليه، وتناول مشهد حركته اليومية والدائمة الهادفة الى إقامة مساحة الإتصال مع كل مبررات هذا الجمال. وتحدث عن تفاصيل اللون الذي استطاع من خلاله بناء الحالة الإبداعية التي خولته وحرضته أكثر على الإجتراح والفن.


ـــ سألته عن لوحته التي حافظت على نشاطها اللوني ــ النوراني الذي لا تغيب عنه حيوية النغمة المرئية، وعن هذا اللون الذي بدأه ، وكيف بقي فيه كمن يمكث في النور لتجرع صيحات البهجة؟


ــــــــــــ فسارع الى الجواب ، تحدث بهدوء، وقال الكلام بنبرة اللون ذاته : اللون الذي بدأت به أعمالي ولوحاتي أو مسيرتي الفنية هو لون يتحرك في الخط التصاعدي المنتمي الى المسافة المفتوحة التي لا تتوقف عند حدود ثابتة ، ولا تتحرك الا ضمن شروط النور وامتدادته في المكان والزمان. اللون الذي بدأته ليس هو نفسه الذي أستعمله اليوم حتى لو بدا كأنه هو، فمن يدخل جلياً الى تفاصيل هذا اللون وما يحتوي من تناغم داخلي وأنوار مبتهجة سيكتشف سر الحضور اللوني الذي تعتمد عليه لوحتي. لوحتي هي المشهد المتنوع والذي يحوي مشاهد الحياة كلها،بنبرة نور، و أغلبها نور على نور، فكيف لا يتناسل اللون مع النور ويفتح أفق المسافة الكبرى. الحياة كلها ألوان ومهما غرفنا من هذه الألوان تبقى الحاجة إليها أكبر مما نظن ونعتقد ، ومبدئي في الرسم واللون هو هذا التشابك اللوني الذي يؤسس لنور ثاقب تحتاجه الروح قبل العين والبصر.


ــ هل وصل الفنان نحلة بلوحته الى مسافة لا يمكن تخطيها أو القفز عنها ،الى أين وصلت به اللوحة وألوانها وأنوارها، أو الى أين أوصلته هذه اللوحة في سلوك درب البحث عن جمال أو معنى أو حياة يمكن أن يتجسد في حركية منضبطة داخل الإطار؟


ـــــــــــــ كان جواب الفنان على السؤال يأخذ شكل اللولب النوراني اللوني الذي اختاره في لوحته ، وقال : لا شك أنني أبحث من خلال لوحتي عن تفاصيل الجمال وما يحوي هذا الجمال من قدرات خلاقة باهرة تساعد الروح على الأمل الدائم . لكنه بحث شاق ــ ممتع . البحث الذي أسير في مرتكزاته هو بحث عميق ويستدعي كل لحظات الزمن وتالياً، لا بد من تحقيق ما هو قائم داخل تلك الرغبة التي تدفعني دائماً الى الإبتكار.

ــــ الى أين أوصلتك هذه اللوحة؟

ــــــــــــــ هل من الضرورة أن أصل ؟ لقد أوصلتني اللوحة الى اللاوصول،الى حيث تكمن اللحظة المليئة بالحياة ومتطلبات هذه الحياة .وصلت الى الذروة، ذروة الحاجة ، فالمتطلبات كثيرة ولا يمكن التوقف عند بعضها فقط ، لذلك أجدني في دوامة الأمل الذي يقودني الى بناء اللون على أسس متعددة ، وهذا أمر ضروري لامتلاك النغمة المتحركة داخل الحياة . ولوحتي تتكفل بهذه القدرة على العمل والتواصل مع كل مبررات الأمل والجمال ، لبلوغ الذروة الجمالية والتي لا يمكنني إلا الدخول الى مباهجها عن سابق إصرار وتصور. الوصول لا يكتمل، واذا اكتمل فهو خروج الى أقرب، أو عودة الى أبعد.

ــ وفي السؤال عن الثوب الذي يحاول نسجه لهيكل لوحته، ومن أي نسيج خاص يأتي به،لابتكار ما ينوي ابتكاره ؟

ـــــــــــ أجاب قائلاً :عليّ أن اختار بين البهجة والبهجة، بين النور والأنوار، فأسير وفق شروط الدهشة ، وأترك مفاعيل النور تحركني وتتبعني في نفس اللولب المتحرك على مساحة اقامتي وخيالي.وما عليّ الا الابتكار الخاص لتقديم الطبيعة وأنوارها على هيئة جديدة قد تكون بمثابة تغيير أو قلب لمفاهيم اللون والجمال داخل العمل الفني وخصوصاً داخل اللوحة وألوانها؟

ــــ لماذا دخلت في هذا اللون ، وكيف؟

ـــــــــــــ الدخول أو الخروج ، انها مسالة غاية في الجمال والأمل . حين دخلت الى عالمي اللوني، لم أكن أخطط لقلب المفاهيم وتحويلها الى مناخات أخرى . ولم أسع الى تركيب خطوات جديدة للحياة التي ولدت فيها. كل ما في الأمر ، كل مافعلته هو انني استطعت تدارك اللحظة والدخول الى أعماقها من خلال هذه الألوان ، هذه اللحظة التي تحوي مشهد الحضور والغياب في حياتنا وأيامنا وأحوالنا. وحين تعمقت كثيراً وتداخلت أكثر في مباهج هذه الألوان وجدت نفسي في مساحة لونية ربما هي مساحة خاصة وجديدة ولم تتعود العين بعد على حركتها اللولبية. والأهم هو أنني رسمت خط الأفق الذي هو بمثابة الولادة المتجددة لكل فكرة تنتجها لحظة الحياة المعيوشة.


ــ أنوار وألوان وأفكار ومواضيع ومشاهد كثيرة رسمتها، وكان للمرأة أيضاً هذا الحضور الخاص في لوحتك ، ما هذا الحشد الجمالي الذي تقصده في أعمالك؟


ــــــــــــــ المرأة في لوحتي هي المرأة التي تعكس جمال الإنسان والحياة. وهج المرأة أو طيفها هو الحضر أو الزائر لموضوع المعنى الذي أتحرك من خلاله. فالحياة جميلة جداً بناسها، وأجمل ما في حياة الإنسان ، هو جمال المرأة وقدسية هذا الجمال.


تحضر المرأة في لوحتي حضور الوردة التي تحتاجها العين والروح، لذلك أجدني على تماس مباشر ودائم لبناء هذا التماسك والإتصال بين ما تبثه المرأة من جمال في الحياة وبين العين التواقة لقطف مشهد الوردة التي تصنعها المرأة بحضورها والتي تصنعها أيضاً بغيابها. أما هذا الحشد الذي يتحرك داخل اللون واللوحة والفكرة والموضوع ، فهو مشهد حضور خافت أردته ، بنبرة نور، بنبرة لون،ليرى معي من أراد أن يرى،صورة ذاته،صورة الحياة بمباهجها السرية.

ــ هل رسمت ولوّنت مشاهد الحياة المفصلية والأساسية او أنك ما زلت في المسافة المفتوحة؟ الولادة المتجددة؟

ــــــــــــــ من الصعب جدا ختم اللون بنقطة لون نهائية. يستحيل على الفنان الوصول الى أهدافه الفنية الكاملة ، لا يمكن امتلاك الحالة الجمالية كلها ، مهما كان العمر طويلاً، ذلك أن جمال الحياة مفتوح الى ما لا نهاية، وكلما تقدم الفنان في مشاهد البحث والوصول، سيجد نفسه أمام مساحة مفتوحة على مسافات لا تنتهي . وهذه المسافة المفتوحة هي الأمل الذي يتسلى به الفنان طيلة حياته ، ولن يجد نفسه خارج هذا السياق أبداً .

ــ ترسم بشكل دائم؟


ـــــــــــــــ أكيد . ريشتي لا تتوقف، اذا توقفت تصدأ يدي.


ـــ الرسم نشاط يومي في حياتك؟


ـــــــــــــ لا يمكنني مباشرة نهاري أو ليلي من دون أن أمتشق ريشتي ولو للحظات. الرسم هو حالة يومية معيوشة في حياتي، ولا يمكنني الخروج من هذه الحالة حتى لو قررت ذلك. من الصعب علي الخروج الى مساحة أخرى لا يكون للون والصورة والحركة فيها دور فاعل ومؤثر. العمل في اللوحة هو حاجة ماسة للعين والقلب والروح، فاذا توقفت احدى هذه العناصر ، تتوقف الحياة، بالنسبة لي ، على الأقل.


ـــ تعيش تحت تاثير اللون؟


ــــــــــــ أعيش بهجة الأنوار والألوان ، حتى لو لم أدخل الى لحظة الرسم المباشرة عبر الريشة. أتأثر باللون طبعاً. أليست الحياة هي تلاوين نراقبها ونتزود بحركة جمالها؟


ــــ كيف تفسر خيالك الذي يجترح ويبتكر عبر اللون واللوحة؟


ـــــــــــــ ربما يصعب التفسير هنا ، ذلك أن تفسير النور لا يمكن تفسيره الا بالنور والأنوار، يعني باللون والألوان . إلا أنني سأحمل في خيالي كل المشاهد وأسرع لاحقاً لتدوينها في الإطار.


ــــ كيف تعثر على المشهد لترسمه؟


ـــــــــــــ أراه ويراني . يلاحقني المشهد وتلاحقني الحالة التي تشدني بجمالها، تلاحقني حتى في نومي، وكم أجد نفسي في أوقات كثيرة على موعد معها، كأننا تواعدنا مسبقاً.


ــ كفنان يرى ويتحسس أكثر من سواه ، كيف ترى الجمال، كيف تعرفه؟


ـــــــــــــــ لولا الجمال لما عرفنا الفن. الجمال هوجوهر الحياة، من عرفه ، عرف مباهج جمة. ومن لا يعرفه ، فقد غابت عنه حاجة تشبه الحياة نفسها.

One Response to الحوار الأخير مع الفنان النوراني وجيه نحلة

  1. محمد درويش رد

    25 فبراير, 2021 at 11:37 ص

    حوار تاريخي مع فنان كبير هو وجيه نحلة أجراه الشاعر الكبير والمثقف الطليعي اسماعيل فقيه ليكتب حياة في الذاكرة لفنان رحل

اترك رداً على محمد درويش إلغاء الرد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات