مدن الحرير ودروبه: قره قورم «سمراء الحرير».. ومدينة البلاط المتعددة الثقافات

02:39 مساءً السبت 13 مارس 2021
سوزان عابد

سوزان عابد

باحثة من مصر، مهتمة بمدن طريق الحرير

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مدينة اليوم تقع في القلب من منغوليا في آسيا الوسطى؛ على بعد ما يقرب من 250 ميل من مدينة أولان باتور عاصمة منغوليا الحالية.. وتبدو قره قورم لأول وهلة أنها مدينة بسيطة ولا مظاهر للترف فيها ولا دلائل لعمق جذورها التاريخية، وكأنها كانت اسطورة خيالية؛ شاخصة في كتابات المؤرخين والرحالة فقط، ولا أثر اليوم لكل هذا البهاء والتألق القديم على أرض الواقع. حيث تعد مدينة قره قورم/ قراقورم؛ واحدة من المدن التي ظهرت وتألقت بشكل مُلفت وخاطف للأنظار في بدايات القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي.

تعكس هذه المدينة جانب آخر من تاريخ المغول الدموي في مجمله؛ فبعد موجات العنف والتشريد التي لحقت بأغلب كبريات مدن آسيا الوسط؛ هدأت وطأة الأحداث قليلاً وأدرك قادة المغول أن لا تاريخ لهم ولا استقرار إلا في بناء أُسس لحضارة تكون لهم مُنجزًا ماديًا وسياسيًّا، وإرثًا تاريخيًا وفنيًا ومعماريًا، ولكن.. هناك بُعد آخر لا يجب إغفاله، وهو البُعد الاقتصادي. فقد كانت حركة التجارة ودروبها شغلٌ شاغل لعقول المسيطرين الجدد – المغول- فتفتق ذهنهم وفكرهم عن تأسيس مدينة للاستقرار فيها وجعلها ملكية الطراز؛ تليق بقادة العالم الجدد في ظنهم واعتقادهم في أنفسهم، وتكون بديل جديد للمدن التجارية المنكوبة كبخارى وسمرقند وأُترار والري وغيرهم من المدن التي طالها المصير نفسه؛ فوُضع حجر أساس هذه المدينة بأمر من الحاكم المغولي أوقطاي خان بن جنكيز خان في ثلاثينيات القرن الثالث عشر الميلادي.

جاء موقع المدينة الجديدة مراعيًا لاعتبارات شتى، ففي أول الأمر كان هذا الموقع مُختار من قبل الأب جنكيز خان ليكون معسكرًا له ولجيشه وربما هو أول من فكر في اتخاذ هذا الموقع ليكون بمثابة عاصمة جديدة مستقبلية له في عشرينيات القرن الثالث عشر الميلادي، وشغله عن تنفيذ هذا الأمر الحروب التي شنها في بقاع شتى لتوسيع مُلكه وتدعيم إمبراطوريته التي يسعى جاهدًا لتكوينها.. ولكن هذا الموقع المختار لم يكن حديث عهدًا في سجلات التاريخ وصفحاته، فلهذا الموقع تاريخ قديم يضرب بجذوره عميقًا ليصل للقرون الميلادية الأولى وذلك ما كشفت عنه بعثات التنقيب مؤخرًا لتؤكد على قدم الموقع وأصالته التي ترجع إلى قرون قبل وصول المغول إليها وتأسيس عاصمتهم واستقرارهم فيها. ففي هذا الموقع المميز؛ توفرت مصادر المياة المتمثلة في نهر أورخون، وطيب الهواء وتجدده، ومراعي شتى تصلح للخيول والأغنام، وموقع سهلي لتسهيل حركة الحياة في المدينة بشكل عام.

وقد جاءت هذه المدينة بهية وزاهرة نتيجة لجهود مضنية، وتضافر عناصر شتى من خيرة المهندسيين الصينيين ومهرة الأيادي المسلمة والصناع والحرفيين من سمرقند وبخارى، وميزانية كبيرة خُصصت للمدينة. فكانت المدينة الجديدة «أوردو باليغ» أي «مدينة البلاط». ولكن، تمردت المدينة الجديدة «أوردو باليغ» على هذا الاسم، وسرعان ما عرفها العامة والتجار وقاطنيها باسم «قره قورم» نسبة إلى الجبال الشاهقة المحيطة بها ألا وهي «جبال قره قورم» أي جبال الحجارة السوداء.. وقد تشكلت نواة المجتمع القره قورمي من الناحية الدينية من عناصر متباينة من المسلمين والمسيحيين والبوذيين وغيرهم، عاشوا جميعًا جنبًا إلى جنب وبنوا دور عبادتهم ومارسوا شعائرهم.

اهتم أوقطاي خان بمدينته الجديدة وساهم في نجاحها السريع عن طريق جلب المؤؤن الغذائية المتنوعة إليها، وبإنشاء محطات البريد وأبيته المتنوعة، وباتساع حركة التجارة؛ أصبحت قره قورم مركزًا تجاريًّا بامتياز. تستقطب التجار والصناع والحرفيين، وبالنسبة لأوقطاي لم تكن قره قورم هي مقره الدائم والرئيسي، بل كان يتنقل بينها وبين معسكراته المنتشرة في منغوليا والصين، وإن كانت قره قورم أثيرته المفضلة لبهاء قصرها وحدائقها فكانت له بمثابة مقر ترفيهي توفرت فيه كل سُبل الراحة والتسلية. فسرعان ما ازدهرت المدينة وتألقت وأصبحت قبلة للزوار ولمن يرغب في حياة مترفة.

وقد احتلت قره قورم فقرات وصفحات من كتابات مؤرخي هذه الفترة وعلى رأسهم الجويني ومن بعده رشيد الدين الهمداني. إلا أن أقدم الروايات الحية التي وصلتنا من قره قورم جاءت على لسان الفرنسيسكان ويليام روبروك في 1253-1255 وهو أول أوروبي يقدم وصفًا للمدينة: «تتكون قره قورم من ربعين/ جزأين: واحد للعرب، حيث توجد الأسواق وحيث يتجمع العديد من التجار بسبب القرب الدائم من المخيم والعدد الكبير من المبعوثين؛ والجزء الآخر هو ربع سكان  الكاتا (الصينيين)، وجميعهم حرفيون. وبصرف النظر عن هذه الأحياء توجد قصور كبيرة تخص رجال البلاط وحاشيته. ويوجد بقره قوره اثنا عشر معبدًا ينتمون إلى شعوب مختلفة، ومسجدان للمسلمين، وكنيسة مسيحية واحدة في أقصى المدينة. ولمدينة محاطة بسور من الطين ولها أربع بوابات».

وقد كشفت التنقيبات والحفائر الحديثة عن جوانب مهمة في تاريخ هذه المدينة الملكية القصيرة الأمد، فقد أحاطها المغول بسور طيني يبلغ ارتفاع بين 1.5 و2.5 متر، من مادة الطين اللبن. وفي ظني أن هذا السور يعكس بشكل أساسي جانب من سيكولوجية المغول آنذاك. فسور كهذا بسيط في مظهره وفي متانته وقوته لم يكن الغرض منه دفاعي بأي شكل من الأشكال، هو فقط سور مدني يحيط بأحياء المدينة المختلفة وينظم حركة الدخول والخروج منها وإليها، ولم يكن سور دفاعي أو بغرض تحصين المدينة وتأمينها. جاء في وقت قوة المغول وعنفوانهم الحربي أو بمعنى أدق شراستهم القتالية والحربية وثقتهم في أنفسهم بعدم وجود قوة أخرى تستطيع مواجهتهم ولا تجرأ على التفكير بمباغتتهم والعدوان عليهم ومهاجمتهم، فلما التفكير في بناء سور منيع لحمايتهم وهم يمكلون القوة والقدرة على ردع من يفكر في اختبارهم. وإن كانت الروايات التاريخية تروي لنا أن أوقطاي خان بنى لنفسه قصرًا فخمًا ومحصن بأسوار دفاعية منيعة!!

ومن نتائج هذه التنقيبات وصلتنا أدلة كثيرة تعكس صور من الحياة اليومية بداخل هذه المدينة، حيث كشفت الحفائر عن عدد كبير جدًا من العملات الصينية المتداولة لا سيما في تنقيبات الجزء التجاري من المدينة، وهو ما يعكس استخدام العملة الصينية كعملة رئيسية في التبادل التجاري بين أهل المدينة نفسها وبين أهل المدينة والتجار الوافدون إليها. يفصلنا اليوم عن «قره قورم» الزاهية ثمانمائة عام.. ثمانية قرون تبدل فيهم وجه المدينة وعناصرها السكانية ودورها السياسي والتجاري كمحطة مهمة من محطات طريق الحرير.. فبنفس الدهشة والسرعة التي تألقت بها ولفتت إليها الأنظار؛ جاء أفولها سريعًا؛ فالعوامل ذاتها التي تضافرت لإنجاحها هي نفسها التي تجمعت معًا وساهمت في أفولها.. فاتخذ قوبيلاي خان خليفة أوقطاي خان عاصمة جديدة لدولة المغول السياسية فتحول الاهتمام من قره قورم إلى العاصمة الجديدة. وبالتالي كانت أغلب محطات التجارة والبريد تتمركز حول مقر إقامة القآان المغولي. وفي الوقت نفسه تعافت المدن المنكوبة شيئًا بسيطًا مما سحب البساط التجاري من تحت قره قورم التي تظل بعيدة نسبيًّا عن مجتمع التجار؛ فأفل نجمها يومًا بعد يوم. لتصبح مدينة بسطية طالها الإهمال وتعديات الزمان وانتهى بها الحال كقرية صغيرة تطوي تاريخًا وميراثًا متنوع.. وإلى اليوم ما زال الاحتفال بالثقافة المنغولية بشكل عام تمثل حدثًا مهمًا في تاريخ قره قورم حيث يقام احتفال سنوي يُعرف بـ «نادام» في يومي 11 و12 يوليو من كل عام، أصبح حدثًا مهمًا للجذب السياحي لمنغوليا بشكل عام للتعرف على عادات الشعب وتقاليدهم والتعمق في تفاصيل

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات