إيليا أبو شديد شاعر راحل: “وقِّف يا زمان”

08:57 صباحًا الأحد 25 أبريل 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الشاعر اللبناني الراحل ايليا ابو شديد يجسِّد شخصية شعرية فائقة الخصوصية والعذوبة، ذلك أنه أبدع جلياً في جوهرة المعنى وأخذ اللغة المحكية اللبنانية الى أبعد حضور خلّاق ، رفعها عالياً في فضاء الرهافة والأناقة الباذخة.
صرخ وهمس في شعره “وقّف يا زمان” لكن الزمن لم يمتثل له وغاب الشاعر سنة 1998.
مغامرة الشاعر أبو شديد، بلغت توجهاً مختلفاً في الشعر العامي اللبناني،لها بعدها الممتد بالزمن والمكان ولها مرايا تعكس المخفي في حنايا الوجود والانسان.

رسالة بيروت – إسماعيل فقيه


 كتب إيليا أبو شديد الشعر العامي اللبناني بقلبه وعقله. أراد اللغة قلقاً، حمّلها رسالة مستقبلية تتحسسها الأجيال الطالعة، وجعلها هماً ومسؤولية ناضجة. لذلك أتمت المغامرة اللغة في شعره، مع نمو الثقافة والحياة، كي تصل هذه اللغة الى الأجيال المقبلة وهي أكثر نضجاً وأوفر نصيباً من الجمال والغنى.
اختار الشعر العامي الذي إن أُنصف، فهو لون من ألوان الأدب لا أبهى ولا أبدع. إنه في هذا العصر، أقرب أنواع الأدب الى الحياة، لأنه أشد التصاقاً بأعماقها، وألطف تعبيراً عن مشاعرها. إنه يتفجر من صميم الحياة تفجّر الينبوع الصافي من قلب الجبل. والشعر في مغامرة أبو شديد، إستعمال خاص للغة، “إذ اختارت هذه المغامرة أن تطل على العالم من خلال لغة منبسطة لا تعتمد قواعد جاهزة، إنما يهمها أن تحافظ على الجو المنطقي الداخلي الذي يبني القصيدة، وشكلها الحيوي، فتأتي واقعاً جمالياً ينبض بدم وحضور جديدين”. ويحدد علاقته باللغة على قاعدة أن كل التعابير المتداولة مثل “الحداثة” واختراق جدار اللغة لا أهمية لها عنده، إذ أنه يؤمن بأن الشعر، لا يقدر أحد على تحديده بزمان أو مكان. فالمتنبي عمّر شعره أكثر من ألف سنة وهو حديث اليوم أكثر من كل الشعر الحديث. الشعر الأصيل بنظره لا يخضع الى مقاييس زمنية، ولا يتقوقع ضمن البيئة التي عاش فيها. أما بالنسبة الى اللغة، فكل لغة هي لغة شعرية، إذا عرف الشاعر أين يحدد موقع اللفظة. فالشوكة عندما يكون موقعها في العين تؤلم وتجرح، إنما الشوكة في خصر الورد تكمل لعبة الجمال، لذلك كل كلمة في اللغة شعرية.

اللغة وفق رأي أبو شديد تخلع على اللفظة روعة وإيقاعاً، وتتجلّى العلاقة الجمالية في الشعر، لأنه يتعامل مع اللفظة المتميزة في لغة إبداعية. وشعره يؤكد على أن ألفاظاً كثيرة وكلمات كثيرة تحيا وتموت، والتعابير تجاري تطوّر العصور. ويشير الى أن ولاء الشاعر الأول يجب أن يكون للغة التي يرثها من الماضي والتي يجب أن يحافظ عليها وينميها. فمهما أطلعنا من روائع في اللغة نكتبها ولا نحكيها، نكون قد تركنا لأجيالنا الآتية انفصاماً في عقولهم يرضعونه مع حليب الأيام الأولى ويرافقهم حتى الموت. إنهم يخافون من العامية على الفصحى، والعامية بنت الفصحى، فمتى كان يخشى على الأم من إبنتها؟
حمّل أبو شديد اللغة العامية ما لم تحمله لدى غيره من الشعراء من قضايا ما ورائية ووجودية. فكيف تأتّى ذلك له؟ تأتّى له من أن مشكلة الشعر اللبناني تتمثل في تمحوره حول وصف “العرزال” و”جرن الكبة” أي حول الأشياء التقليدية ­ الفولكلورية، وقد صمم على أن يجعل هذا الشعر يتناول الحياة كلها، الوجود وما وراء الوجود. بمعنى آخر، أن يتناول كل القضايا العميقة إسوة بغيره من الشعر. ولذلك خاض شاعرنا هذا المعترك وكله إيمان بأن الشاعر إذا لم يؤد دوراً مثل هذا الدور فلن يكون شاعراً يتوافق مع الحياة.
 أعطى أبو شديد التراب بعداً فلسفياً ­ وجودياً. وانطلاقاً من أن التراب هو كل شيء، ولأنه إبن التراب، أحب اللعب في التراب كما لو كان صغيراً. لقد كان يشعر أن بينه وبين التراب وحدة حنين، لا يقوى على تفسير هذه الحالة لأن إحساسه بها أقوى من فكره، يرتاح الى الأرض والى التراب.
“ياما مَرَق عالم قبل منّا
بهالأرض كانوا ونحنا ما كنّا
ومنغيب بكرا متل ما غابوا
وناس بيجوا وبيسألوا.. عنّا
ويلّي بيجي بيقول للّي غاب
هالدني ورشة وترابها كمشة
في تراب باقي.. تراب
وتراب.. عميمشي”
والتراب عند أبو شديد، لا ينفصل، من الناحية الرمزية عن الذاكرة الإجتماعية والتراثية للشعب اللبناني.
 التراب موضوع هام في الشعر العامي، خلق منه الشاعر صوراً مختلفة في المسيرة الشعرية اللبنانية .
علاقة قصيدته بالمرأة تمثل تجربة فريدة في الشعر. 


  ففي غمـرة الأسرار الكونية، لجأ شاعرنا الى المرأة يتأمل فيها، باحـثاً عن المعنى الشامل والعميق للحياة والكـون، ومتسائلاً عن سر العـواطف المتـضاربة في داخـل الإنسان والتي تؤثر على دوره وعلاقته مع الآخر. فأقـبل عليها، في “ثورة حب” كأنـها البديل عن الأم الضائعة.
 “جوعان وحدك عارفي جوعي
 وعطشان، ودموعك على دموعي
 لَسبِد ما نوقع بليلة عمر
 وما عود أوعى، ولا توعي”
ومن الطبيعي أن يمر الشاعر في تجارب عاطفية كثيرة، واحدة تهزّه، وواحدة تجرحه، وأخرى توقظه، لذلك في حياته نساء عديدات. والحب بالنسبة إليه بمثابة البحر والنساء موجات، موجة تأتي وراء أخرى، فتتراكم الأمواج الى أن تصل الى الشاطئ بأمان.
العمر لا قيمة له عند أبو شديد. فلما كتب قصائد لبنات العشرين، كتب قصائد لنساء في الأربعين، تلك النساء فيهن النار والوهج والإحتراق أكثر من بنات العشرين. المرأة تعني له امرأة في أي عمر، فهذا البركان الذي سينفجر معه لا يسأل عن عمره، بل يسأل عن ناره كم هي محرقة.
 “وحدي تركيني، يا سمر
 إتعذّب.. وموجوع
 مصلوب ع سيف القدر!
معَنزَق بحلم إنكسر
 ضايع.. بصحرا
 من العطش والجوع
 فتّش ع كلمة، ع خبر
 ع متل دعسات.. البشر
ايليا ابو شديد شاعر لا يعبر الى الغياب بقدر ما هو حاضر في واقع مستمر .

One Response to إيليا أبو شديد شاعر راحل: “وقِّف يا زمان”

  1. محمد درويش الاعلامي الشاعر رد

    27 أبريل, 2021 at 1:18 م

    لا شك ان ما كتبه الناقد الكبير والشاعر الجميل اسماعيل فقيه عن الشاعر اللبناني الراحل ايليا ابو شديد يدل دلالة واضحة على فهم عميق لمسيرة هذاالشاعر المختلف الغني عن التعريف انه هامة بل طاقة فنية لا تعوض تركت اثرها الطيب والجميل في مسيرة الشعر اللبناني بكل اعماقه الجميلة لقد نجح فقيه الى حد كبير في رسم صورة جميلة لشاعر جميل من زمن جميل ..

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات