الشّاعر والباحث والمترجم الفلسطينيّ محمّد حلمي الرّيشة: الشِّعرُ أَصلُ الفنونِ جميعِها

08:31 مساءً الأربعاء 9 يونيو 2021
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

حاورته: وفاء عيّاشي- بقاعي

* “الشعب، والأرض، والإنسان”. فلسطين الآن شعب من دون وطن، والإنسان الفلسطيني في المهجر وتحت المجهر، وبين الحواجز من غزة إلى حيفا، أين كل هذا في قصيدتك؟

– كلُّ هذَا كانَ فِي قصائِدي، وحتَّى منذُ مجموعتِي الشِّعريَّةِ الأُولى الَّتي صدرتْ وأَنا كنتُ طالبًا جامعيًّا. إِنَّ صوتَ الشَّاعرِ نادرًا جدًّا مَا تسمعهُ أُذنَا السِّياسيِّ، وهُمَا أُذنانِ موجَّهتانِ؛ واحدةٌ لسماعِ “الآخرِ المريضِ”، والأُخرى لسماعِ “الآخرِ النَّقيضِ”، وكلاهُما يفعلُ بِنا فعلَ أَهوائهِ، وأَمراضهِ، ومصالحهِ. مصيبةٌ كُبرى، ونكبةُ النَّكباتِ، أَنَّ مَا يَبدو، وعلَى المَدى القصيرِ، أَنْ يبقَى منَ فلسطينَ اسمُها فقط، كمَا بقيَ مفتاحُ العودةِ فِي صدرِ امرأَةٍ طاعنةٍ فِي العمرِ، معَ أَنَّ بيتَها لمْ يعدْ علَى وجهِ هذهِ الـفِلسطين، والَّتي فقَدْناها بالخياناتِ، والمؤامراتِ، والمؤتمراتِ؛ فلسطينيًّا وعربيًّا. إِنَّني أَراها، الآنَ، وقدْ حوَّلَها الإِحلالُ الاستيطانيُّ/ الاحتلالُ الصُّهيونيُّ إِلى مَا آلَ إِليهِ الجزءُ الفلسطينيُّ المحتلُّ فِي العامِ (1948)؛ أَي إِنَّ نابلسَ، مثلًا، تُمسِي مثلَ النَّاصرةِ، وهكَذا تصيرُ كلُّ المدنِ فِي الجزءِ الفلسطينيِّ المحتلِّ فِي العامِ (1967)، أَيْ لنْ تكونَ عليهِ دولةٌ فلسطينيَّةٌ مطلقًا. لستُ أَقولُ هذَا منْ يأسٍ أَو تشاؤمٍ، بلْ هيَ الحقيقةُ فِي الآتي القريبِ، والَّتي أَراها الآنَ؛ ليسَ بنبوءَةِ الشَّاعرِ، بلِ الوقائعُ هيَ الَّتي تقولُ، وتُملي علَيْنَا وقائعَها.

ذاتَ يومٍ، وبعدَ اتِّفاقِ “أُوسلو” [اتِّفاقُ الطَّرفِ الواحدِ معَ طرفهِ فقطْ، كمَا اتَّضحَ، تنفيذًا، للطَّرفِ الآخرِ المُملَى عليهِ الاتِّفاقُ]، قالَ الرَّاحلُ محمود درويش: “لقدْ خرجَ الاحتلالُ منْ غرفةِ النَّومِ، وبقيَ فِي صالةِ البيتِ”. قلتُ: ليتهُ لمْ يَخرجْ منْ غرفةِ النَّومِ [الاتِّفاقُ يسمحُ لهُ باقتحامِها كلَّ حينٍ، وهذَا مَا يحدثُ دائمًا]، لأَنَّهُ كلَّما أَردْنا أَنْ نذهبَ إِلى المطبخِ، اعترضَتْنا حواجزهُ الدَّائمةُ والطَّيَّارةُ، فلَا نستطيعُ الوصولَ إِليهِ، فننامُ، وقدْ لَا ننامُ، علَى لحمِ معدتِنا. وأَيضًا، حينَ تشدُّنا الحاجةُ للذَّهابِ إِلى الحمَّامِ، تعترضُنا تلكَ الحواجزُ، لذَا كثيرًا ما نفعلُها بملابسِ النَّومِ! لِي قصيدةٌ عنْ هذَا بعنوان: “كنومٍ جافٍّ بملابسَ رطبةٍ.”

* زرت حيفا مؤخراً، رافقتم أصدقاء، وتجولتم في فلسطين المحتلة. هل تحدثنا عن تجربتك في هذه الزّيارة، وعن شعورك وأنت تعبر الحواجز بين أرجاء الوطن؟

– جاءتْ زِيارتي الأُولى لحيفا، فِي هذهِ الفترةِ، بعدَ أَكثرَ منْ عشرينَ سنةً! كمْ كنتُ مشتاقًا إِليها كلِّها، بكلِّ تكويناتِها، علَى الرَّغمِ منْ عبثِ الاحتلالِ الصُّهيونيِّ فِيها لتهويدِها، إِلَّا أَنَّ الشَّواهدَ الفلسطينيَّةَ العربيَّةَ لَا تزالُ تشهدُ علَى عروبتِها، وفلسطينيَّتِها، وأَصالتِها، وحضورِها البهيِّ الدَّائمِ علَى السَّاحلِ الفلسطينيِّ الممتدِّ منْ رأسِ النَّاقورةِ إِلى رَفح، ولَا يزالُ موجُ بحرِها يدغدغُ ذرَّات الرَّملِ علَى شاطئِها. إِنَّ فِيها عبقٌ لَا يمكنُهم إِزالتَهُ، وبريقٌ لَا يمكنُهم إِطفاءَهُ، وعناقٌ لَا يمكنُهم دخولَهُ.

كمْ كنتُ أَسحبُ أَنفاسًا عميقةً منْ هوائِها الشَّهيِّ أَكادُ لَا أُخرجهُ، وكمْ كنتُ أَتحسَّسُ بعينيَّ كلِّ مَا أَراهُ فِيها، وكمْ كنتُ أَنظرُ فِي عيونِ الأَصدقاءِ لأُصدِّقَني أَنَّني أَخيرًا دخلتُها، . كنتُ أُردِّدُ، منذَ أَنْ دخلتُ بابَها المشرعَ علَى الحنينِ، عنوانًا/ عبارةً لكلامٍ أَنوي كتابتَهُ: “أَنْ تكونَ فِي حَيفا وأَنْ…”. ولمْ ترفقْ بِي الكتابةُ، لأَنَّ حَيفا، كمَا يَبدو، أَرقى منَ الكتابةِ، وأَسقى منَ السَّحابةِ، وأَنقى منَ الغرابةِ!

* القصيدة، والتّرجمة، والكتابات الأخرى، هذا الإبداع المتجلي في قلمك، أين يجد قلم حبرك نفسه ويفيض شعوراً وإحساساً بين هذه الإبداعات؟

– فِي القصيدةِ مؤَكَّدًا. الشِّعرُ أَصلُ الفنونِ جميعِها، منذُ عصرِ الكهوفِ البشريِّ، وربَّما قبلَهُ. لَا أَستطيعُ أَنْ أَتخيَّلَ الحياةَ منْ دونِ شعرٍ، وحيَاتي كذلكَ، علَى الرَّغمِ منْ عديدِ التَّوقُّفاتِ الإِجباريَّةِ، ليسَ لأَنَّ الشِّعرَ خذلَني، لَا، الشِّعرُ لَا يخذلُ، بلْ أَحيانًا كنتُ أَشعرُ، هُنا، كأَنِّي أُنقشُ فِي الماءِ! وكذلكَ علَى الرَّغمِ منَ العداوةِ والحسدِ والحقدِ، وليسَ الغِبطةُ الَّتي يجبُ أَنْ تتولَّدَ عنِ الإِبداعِ لدَى الآخرينَ، والمبدعينَ مِنهم بخاصَّةٍ.

أَصدرتُ، إِلى الآنَ، خمسَ عشرةَ مجموعةٍ شعريَّةٍ، معظمُها علَى نفقتِي الخاصَّةِ، وهذَا منْ أَنَّ الشِّعرَ تملَّكني عميقًا جدًّا. لقدْ كتبَ الشَّاعرُ اليابانيُّ “ماتسو باشُّو”، الَّذي ولدَ فِي منتصفِ القرنِ السَّابعِ عشرَ، وتوفِّيَ فِي نهايتهِ، واشتُهرَ بقصائدِ الـ”هايكو”: “فِي هذَا الجسدِ البائسِ ذِي العظامِ المائةِ، والفتحاتِ التِّسع، ثَمَّ شيءٌ اسمهُ الرُّوحُ، ستارٌ شفيفٌ يتقاذفهُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمالِ أَرقُ النَّسيمِ، هيَ الرُّوح بحالِها هذَا، هيَ الَّتي ساقَتْني إِلى الشِّعرِ، فمَا كانَ فِي أَوَّلِ الأَمرِ تسليةً أُزجي بِها الوقتَ، صارَ، منْ بعدهِ، شغلَ حيَاتي الشَّاغلَ. عشتُ لحظاتٍ أَوشكتْ فِيها رُوحي، وقدْ نالَ مِنها الوهنُ، أَن تيأَسَ منَ السَّعيِ، ولحظاتٍ ازدهتْ فِيها رُوحي بالانتصارِ. منذُ أَوَّل الأَمرِ، وهيَ لَا تعرفُ للسَّلامِ طعمًا، ولَا للدِّعةِ مذاقًا. طوالَ الوقتِ فِي حالةِ شكٍّ دائمٍ فِي قيمةِ مَا تفعلهُ!”.

أَمَّا التَّرجمةُ، والَّتي في معظمِها ترجماتٌ شعريَّةٌ لأَصدقاءَ منَ العالمِ، فكانتْ لكيْ أَقدِّمَهم للقرَّاءِ العربِ، وقدْ أَصدرتُ خمسةَ كتبٍ، مِنها كتابٌ خاصٌّ بشاعراتٍ منَ العالمِ، وسمتهُ بـ”مرآةٌ تمضغُ أَزرارَ ثوبي”، عنيتُ أَنْ أَقدَّمَهُ، أَوَّلًا، للشَّاعراتِ العربيَّاتِ لكيْ يقرأْنَ ماذَا تكتبُ شاعراتٌ منْ مختلفِ الدُّولِ.

أَشعرُ، وأَنا أُترجمُ قصيدةً مَا، أَنِّي أَنا أَكتبُها، حيثُ تصيرُ العلاقةُ بينَنا علاقةَ تماهٍ وحُلولٍ فإبِداعٍ.

* قال: “لدي كما لدى أيّ إنسان رغبة في التّحرر من عبء الوطن، إذ أصبح الوطن حراً”. هل أنت كشاعر وناقد عاصر الشّاعر محمود درويش تؤكد على تحوّل الذّات الشّعرية لدية حينما قرّر أن يعيش ليومه لا لحلمه كما يعتقد البعض؟

– هلْ أَصبحَ الوطنُ حرًّا، أَم باتَ أَكثرَ عبوديَّةً بجغرافيَّتهِ، وأُناسهِ، وكلِّ شيءٍ فيهِ؟! وهلْ صحَا الشَّاعرُ محمود درويش فِي سنواتهِ الأخيرةِ منتبهًا إِلى ذاتهِ الشِّعريَّةِ، بعدَ أَن كانَ النَّاطقَ باسمِ القبيلة؟! أَتمنَّى أَنْ لَا يُفهَمَ منْ هذَا شيءٌ غيرُ حُسنِ النَّوايا.

إِنَّ منْ حقِّ الشَّاعرِ، والمبدعينَ عمومًا، أَن يَخلُصَ إِلى ذاتهِ بكلِّ مَا تشتهيهِ وتعملهُ، فيكتبُ حتَّى عنْ شُربهِ فنجانَ قهوةٍ، أَو استحمامهِ.

مَا يشيرُ جليًّا أَكثرَ إِلى الردِّ علَى سؤالكِ، هوَ مَا قالهُ الشَّاعرُ درويش، ذاتَ يومٍ، للشَّاعرةِ فدوى طوقان، حينَ سأَلْتهُ عنْ أَدبِ المقاومةِ، بعدَ أَن صارَ يكتبُ شعرًا شخصيًّا، قالَ لهَا: لَا بدَّ أَنَّ يعودَ الشَّاعرُ إِلى كتابةِ ذاتهِ، فهذَا هوَ الشِّعرُ الَّذي يبقَى.

* هل حسب رأيك المرحلة الزّمنية التي ظهر بها الشّاعر محمود درويش كشاعر مقاومة ساهمت في تخليد اسمه؟

– كمَا أَقولُ دائمًا، وسأَردِّدُ قولَتي: الشِّعرٌ لا يتوقَّفُ، أَو يتعطَّلُ، أَو يخلدُ إِلى السُّباتِ، حينَ يفقدُ شاعرًا مهمًّا، بلْ يظلُّ يتجدَّدُ، وحينَ كلِّ قصيدةٍ يتوالدُ ويسطعُ كمَا النُّورِ. الشِّعرُ حالةٌ روحيَّةٌ وجسديَّةٌ يقظةٌ (لَا أُعرِّفهُ) لهَا مَا يدلُّ علَيْها وقعًا حينَ تصيرُ في حيازةِ القارئِ الحقِّ، وبِذا تصيرُ سرمديَّةَ الإِبداع.

الشَّاعرُ محمود درويش، بِلا شكٍّ، تجربةٌ شعريَّةٌ ليستْ فلسطينيَّةً فقطْ، بلْ عربيَّةٌ وعالميَّةٌ أَيضًا، ساهمَ بمَا أُوتي لأَنْ ينطلقَ نحوَ ٱفاقٍ لإِيصالِ صوتهِ الشِّعريِّ. وسواءٌ قبلَ درويش أَو بعدهُ، فنحنُ لَا نزالُ نقاومُ بالرُّوحِ والدَّمِ، بشهدائِنا وبأَقلامِنا، وبكلِّ مَا نملكهُ منْ قوَّةٍ إِنسانيَّةٍ وإِبداعيَّةٍ فِي سبيلِ تحريرِ فلسطينَ التَّاريخيَّةِ، فالتَّاريخُ يشهدُ- وإِنْ كمَّموا فمَهُ- بهذهِ الجريمةِ الَّتي طالتْ فلسطينَ علَى أَيادِ النَّقيضِ الغاشمِ، وعليهِ فالمقاومةُ كانتْ وستظلُّ إِلى حينِ التَّحرُّرِ، لذَا نحنُ دائمًا نحتاجُ الشِّعرَ مَا دامتِ الحياةُ بكلِّ حلوِها ومرِّها.

أُريدُ أَنْ أَشيرَ إِلى أَنَّهُ كانَ فِي زمنِ أَبي الطَّيِّبِ المتنبيِّ- كمَا قرأْتُ- أَكثرُ منْ أَلفٍ شاعرٍ، إِلَّا أَنَّ هناكَ عواملَ، إِضافةٍ إِلى الإِبداعِ، ساهمتْ فِي تخليدِ اسمهِ. وكذلكَ درويش بحثَ عنْ خلودِ اسمهِ مثلَ شعراءَ عربٍ وعالميِّينَ، ومثلَ مبدعينَ فِي فنِّ الغناءِ وغيرهِ مثلًا، كمَا قلتُ لهُ هذَا ذاتَ يومٍ، وربَّتَ علَى كتفِي بطريقةٍ فِيها تناقضٌ منْ حيثُ الاعترافِ أَو الإِنكارِ. لكنْ يجبُ أَنْ لَا نغفلَ عنْ شعراءَ فلسطينيِّينَ آخرينَ، فمَا فعلتْهُ الآلتانِ الرَّسميَّةُ وغيرُ الرَّسميَّةِ فِي العملِ علَى تخليدِ اسمهِ، لمْ تفعلْهُ تجاهَ شعراءَ وأُدباءَ مبدعينَ آخرينَ، حتَّى فِي حالاتِ مرضِهم الشَّديدِ (الشَّواهدُ لَا تزالُ قائمةً)، علَى اختلافِ مستوياتِهم الإِبداعيَّةِ!

* الحداثة كمصطلح استطاع أن ينبذ القديم ويتركه وراءه، هل باعتقادك استطاعت الحداثة أن تغير ملامح النص، وتمكن القارئ من الإبحار في مضمون النّص المبهم والغامض للوصول إلى جمالية النص؟

– إِنَّ الحديثَ عنِ العمليَّةِ الإِبداعيَّةِ بشكلِها الحداثويِّ لَا يمكنُ أَنْ أَختزلَهُ فِي ردٍّ واحدٍ ووحيدٍ أَعزلَ عنِ الواقعِ والمشهدِ الثقافيَّينِ، إِنَّما يمكنُ القولُ إِنَّهُ لَا حداثةَ بدونِ أُسسٍ ثقافيَّةٍ ماضويَّةٍ، شرطَ عدمِ التَّعصُّبِ لهَا، بمعنَى أَوضحَ لَا يمكنُكَ الاطِّلاعُ والانكبابُ على الإِبداعِ بمعزلٍ عنِ اللُّغةِ العربيَّةِ، هذهِ اللُّغةِ الَّتي لهَا ثوابتُها، ولهَا تحوُّلاتُها الَّتي فرضتْها السَّيرورةُ الفكريَّةُ، والعقلانيَّةُ، والجماليَّةُ أَيضًا، مِن دونِ إِغفالِ التَّثقيفِ الذَّاتيِّ والشَّخصيِّ لمجرياتِ الإِبداعِ العالَمي، غيرَ أَنَّهُ لَا يمكنُ إِنكارُ أَنَّ الحداثةَ دفعتِ القارئَ والمبدعَ إِلى السِّباحةِ فِي يَمِّ التَّغييرِ الحاصلِ علَى مستوَى الأَخيلةِ، والصُّور،ِ والتَّركيبِ اللُّغويِّ بدونِ غرابةِ لفٍّ، ولَا دلالةٍ، وإِنْ جنحَ البعضُ إِلى الغموضِ المصطَنعِ (الإِبهامِ)، والمتكلَّفِ الَّذي أَغرقَ الكثيرَ منَ النُّصوصِ فِي العبثيَّةِ الدَّلاليَّةِ، بينَما برزَ آخرونُ تمكَّنوا جيِّدًا منْ فرضِ ذواتِهم الإِبداعيَّةِ بشكلٍ ملحوظٍ منْ خلالِ تمرُّسِهم اللُّغويِّ والثَّقافيِّ.

أَقتبسُ مقولةً للشَّاعرِ المكسيكيِّ أُوكتافيو باث: “كنتُ أَكتبُ، فِي شبابِي، بدونِ أَنْ أَتساءَلَ لِماذا. كنتُ أَبحثُ عنْ بابِ الدُّخول إِلى الحاضرِ: أَردتُ أَن أَكونَ ابنَ زَمني وعَصري، حتَّى لقدْ أَصبحَ هاجِسي فِيما بعدُ: أَنْ أَكونَ شاعرًا محدثًا. وهكذَا بدأَ بَحثي عنِ الحداثةِ. ولكنْ، مَا هيَ الحداثةُ؟ اكتشفتُ أَنَّها سرابٌ، …، ليستِ الحداثةُ خارجَ أَنفسِنا، بلْ هيَ فِي دواخلِنا.”

* كثُر الشّعراء وقلَّ الشّعر في الزّمن الحالي، لماذا برأيك، وهل مواقع التّواصل الاجتماعي لها الأثر في ذلك؟

– لَا أَحدَ ينكرُ السُّرعةَ الَّتي شهدَتْها وسائلُ النَّشرِ والإِعلامِ بالانتشارِ والمواقعَ الإِلكترونيَّةِ، ودورَها فِي نشرِ الكتاباتِ باختلافِ أَشكالِها، وصياغاتِها، ومسوِّغاتِها، غيرَ أَنَّهُ اختلطَ الحابلُ بالنَّابل، فتعدَّدتْ أَوجهُ الخطابِ الثَّقافيِّ، فبرزتْ مشاهدُ ثقافيَّةٌ أَبلتْ بلاءً حسنًا، بينَما أُخرى قدَّمتْ لنَا كتاباتٍ أَقلَّ مَا يمكنُ القولُ عنْها إِنَّها هلوسةٌ، ففاقتِ النُّصوصُ عددَ الشُّعراءِ، وظُنَّ أَنَّ الحديثَ عنْ مشاعرَ باهتةِ اللُّغةِ، ضعيفةِ المخيَّلةِ، تفتقدُ إِلى التَّجدُّدِ، ويكفِي أَنَّ مُحتواها ومقاصدَها مشاعرُ، قدْ باتتْ قصائدَ. وأَكادُ أَقولُ، بلْ إِنِّي أُفصحُ أَنَّ الكثيرَ مَا هوَ بشعرٍ بقدرِ مَا هوَ تَصابي الشُّعراءِ ومراهقةُ بعضِ الأَقلامِ. لكنْ، فِي نهايةِ الأَمرِ، لَا يظلُّ بذاكرةِ الشِّعرِ حاضرًا إِلَّا مَنِ اجتهدَ وأَبدعَ، فغربالُ الشِّعرِ غربالٌ عادلٌ.

وأُضيفُ: إنَّ العديدَ منَ القرَّاءِ لمْ يبلُغوا بَعد درجةَ الحصانةِ الفكريَّةِ والنَّقديَّةِ للتَّمييزِ بينَ الغثِّ والجيِّدِ، فالشَّبكةُ العالميَّةُ، والَّتي أَحدثتْ ثورةً فِي مجالِ الاتِّصالِ والتَّواصلِ الجمعيِّ منْ خلالِ نوافذِها المشرعةِ علَى العالمِ بدونِ عناءِ سفرٍ يُذكَرُ، لهَا إِيجابيَّاتُها ولهَا نقيضُها فِي آنٍ، ومعَ الأَسفِ صارتِ الغلبةُ للصُّورةِ بدونِ الكلمةِ، وللموقعِ الإِلكترونيِّ أَكثرَ منَ الورقيِّ.

* نظرية الاستقبال تضع الجمهور في قلب التّجربة الجمالية والتّواصل مع الأدب والفن. كيف تفسر هذه النّظرية بتلقي القارئ النّص الأدبي، وهل هنالك علاقة بمدى ثقافته؟

– إِنَّ كلَّ كتابةٍ إِبداعيَّةٍ هيَ تجربةٌ شعريَّةٌ ذاتيَّةٌ، تنطلقُ نحوَ ذاتِ الآخرِ، وفكرهِ، وروحهِ، وكينونتهِ، لِذا يتوجَّبُ أَنْ يكونَ القارئُ علَى قدْرٍ عالٍ منْ إِدراكِ هذهِ الجماليَّةِ، وأَنْ يتذوَّقَها ويَنتشي بهَا. واستقبالُ النَّصِّ الَّذي أَراهُ هوَ حمولاتُ الشَّاعرِ المبدعِ الرُّوحيَّةِ، والجسديَّةِ، والكينونيَّةِ، الَّتي يضعُها بكلِّ أَمانةٍ أَمامَ عينيِّ القارئِ الَّذي يجبُ عليهِ أَنْ يكونَ علَى قدْرٍ منْ تحمُّلِ مسؤوليَّةِ القراءةِ. والمسأَلةُ، هُنا، تصيرُ استمتاعًا فانتشاءً بالنِّسبةِ للقارئِ كلَّما كانَ النَّصُّ بعيدًا عنِ السَّطحيَّةِ والخطابيَّةِ والمباشرةِ، وغيرَ غارقٍ فِي غموضهِ ملتبِسًا، لكنَّهُ الغموضُ الجميلُ المحبَّبُ الَّذي يدفعُ العقلَ للتَّقصِّي، والبحثِ، والتَّماهي معَ النَّصِ، ودلالاتهِ الجماليَّةِ بالمخيَّلةِ الذَّكيَّةِ.

* كيف باعتقادك تحقيق المعنى الشّامل لمضمون القصيدة التي يكتنفها الغموض والرمزية؟

– “الشِّعرُ رسمٌ ناطقٌ، والرَّسمُ شعرٌ صامتٌ” كمَا يقولُ (سيمونيدس)، لكنَّ “الشِّعرَ يفوقُ الرَّسمَ؛ فالرَّسمُ ينحصرُ فِي مكانٍ محدَّدٍ، ويلتزمُ ملمحًا معيَّنًا لوضعٍ أَو حدثٍ، بينَما يقوَى الشِّعرُ علَى عرضِ موضوعٍ مَا فِي عمقِه، وعلَى مدَى تناميهِ الآنيِّ” كمَا يقولُ (هيجل).

فالشِّعرُ لغةٌ أَوَّلًا، وحينَ يمتطِي الشَّاعرُ صهوةَ الكتابةِ فهوَ فارسٌ يركبُ الصَّعبَ نحوَ المجاهيلِ المتكاثرةِ، ولَا بدَّ فِي رحلتهِ منْ زادٍ هوَ اللُّغةُ، وزوَّادٍ هوَ المخيَّلةُ. وهناكَ مَن يتقنُ ويبدعُ حينَ رسمهِ للكلماتِ، وهناكَ مَن يكتفِي بخربشاتٍ ظنًّا منهُ أَنَّهُ إِنجازٌ بديعٌ، فاقترافُ القصيدةِ يتطلَّبُ حنكةً، وممارسةً طويلةً، وصبرًا، وقبلَها تشبُّعٌ ثقافيٌّ، ولغويٌّ، ومثابرةٌ علَى القراءَةِ، ممَّا يغذِّي خيالَهُ، ويمنحهُ قدرةً لغويَّةٌ يبذخُها حينَ الكتابةِ، بدونِ غلوٍّ، معَ التَّعاملِ معَ صدَى اللَّونِ، وأَصباغِ الإِيقاعِ، وقوَّةِ التَّخيُّلِ، إِضافةً إِلى يقظةِ الذَّاكرةِ، كيْ لَا يسقطَ فِي متاهةِ الإِبهامِ، فيعزفُ عنهُ القارئُ.

* عبد الله أبو راشد قال: “إنّ قصائدك ترجمان ذاتك المولودة ملتحمة في حالة تعبيرية ورصف بنائي في جسد واحدٍ في روح كل قصيدة من قصائدك”. كيف تفسر هذا القول، وأين الشاعر محمد حلمي الريشة من ذاته الإنسانية؟

– أَصابَ قلبَ الحقيقةِ بسهمهِ الرُّؤيويِّ؛ فقصائِدي ترجمانُ ذاتِي فعلًا، وكلُّ قصيدةٍ منْ قصائِدي كتبَتْني عنْ تجربةٍ ذاتيَّةٍ خضتُها أَو خاضَتْني، ثمَّ أَملتْ عليَّ كتابتَها، فقَلمي لَا يمكِّنُني منهُ لمجرَّدِ شيءٍ، أَو حدثٍ، أَو أَمرٍ، مهمَا بلغتْ قداستهُ، وطهارتهُ، وإِنسانيَّتهُ. وأَيضًا لَا يُمكِنني كتابتهُ وهوَ لَا يزالُ قائمًا، أَو فاعلًا، أَو حارًّا؛ إِذ لَا بدَّ أَن أَصلَ إِلى أَعلى درجاتِ التَّأَمُّلِ، لأَنَّ القصيدةَ لَا تمنحُني ذاتَها إِلَّا بعدَ تأَمُّلٍ عميقٍ، وكثيفٍ، وبعيدٍ.

أَمَّا بالنِّسبةِ للشِّقِّ الثَّاني منَ السُّؤَالِ، فإِنَّ ذاتِي الإِنسانيَّةَ تكمنُ، وتنبعُ، وتحلِّقُ منْ ذاتِي نفسِها، لأَنَّ الشَّاعرَ فيَّ هوَ الَّذي يعملُ لأَجلِ إِنسانيَّتِي، وإِنسانيَّةِ الآخرينَ، والإِنسانيَّةِ عمومًا بأَبهَى وضْعِها؛ فأَنْ نعملَ علَى بلوغِها، فهذَا يَعني أَنَّنا نَرتقي دائمًا إِلى الحياةِ الَّتي كُتِبتْ علَيْنا استحقاقًا، لَا الَّتي نسحقُها كلَّ يومٍ، لِذا يجبُ علَى كلِّ وسائلِ الإِبداعِ أَنْ تشتغلَ علَى تحقيقهِما؛ الإِنسانيَّةِ والحياةِ.

* أخيراً على المستوى الشّخصي، هل يعتبر محمد حلمي الرّيشة متصالحاً مع ذاته، وهل باعتقادك المصالحة مع الذات لها علاقة بالتواصل مع الآخرين؟

– أَعتبرُني متصالحًا ومختلفًا عنْ ذاتِي فِي آنٍ. المبدعُ يجبُ أَنْ يكونَ هذَا جزءًا منْ تكوينهِ، لأَنَّ التَّصالحَ يَعني الرِّضا والقبولَ، والأَشياءُ القابلةُ للرِّضا والقبولِ قليلةٌ جدًّا، وحالُنا العربيُّ بعربهِ يفصِحُ بصراحةٍ ووقاحةٍ عنْ هذَا؛ أَنَّهما يسكنانِ فِي دواخلِنا بدِعَةٍ، وخضوعٍ، واستسلامٍ.

بالنِّسبةِ للشقِّ الثَّاني منَ السُّؤَالِ، ليسَ بالضَّرورةِ أَو الحتميَّةِ؛ علَى الأَقل علَى مستوَى المبدعِ، فالمبدعُ الحقيقيُّ يمدُّ جسورَ إِبداعهِ للتَّواصلِ معَ الآخرينَ منْ رُكنهِ القصيِّ- القريبِ، أَوْ يهبطُ منهُ قليلًا ليرتقيَ الآخرونَ إِلى مُستوى إِبداعهِ، لكنْ يجب أَنْ لَا ينزلَ إِلى الحدِّ الأَدنى، لغةً مثلًا، بحجَّةِ التَّواصلِ علَى حسابِ الإِبداعِ، فالإِبداعُ هوَ لرفعةِ الإِنسانِ، برفعِ مُستوَى ذائقتهِ، وقراءَاتهِ، وثقافتهِ، بلوغًا لحرِّيَّتهِ الإِنسانيَّةِ الملتزَمةِ، إِلى غايةِ التَّماهي معَ الجمالِ.

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات