طبيبُ الكوابيسِ الماكرَةِ (قصة قصيرة)

02:07 مساءً الأحد 12 ديسمبر 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مذ قررَ أن يُخضِعَ الحكومةَ التي ما فتئت ترجو مواطنيها- وهي لا تفعل هذا عادة- إلى شروطِه هو في اختيار نوع الطُّعم وزمانه ومكانه وتوقيته، صباحًا أو بعد القيلولة أو في السّهرة، وهو يتلقى عرضًا إثرَ عرضٍ، فيرفع كتفيه بدلالٍ، ويقرر أن ينتظرَ بعدُ، خاصة وأن موسم كورونا الذي تطاولَ فسرقَ من النّاس صحتَهم وأوراحهم لم يجرؤ أن يقترب منه، فما زال- رغم تجاوزه الثّمانين- يتمتع بصحة جيدة، ويجالسُ أصدقاءه في حديقةِ بيتِه المشرَّعةِ البوّابةِ ليلَ نهار، فيلعب معهم الورقَ أو طاولة الزّهر، ويضحك ضحكةً شرّيرة من تحت كَمامته إن خسر اللّعبةَ أحدُهم وحرد مغادِرًا، تاركًا له منصبَ الفائزِ الأول الذي مازال يكرّسه منصبُه كـ “مدير أكبر مدرسةٍ في القرية”، كما يحبُّ أن يعرّفَ بنفسِه، متعمِّدًا الإطاحة  بصفتِيها الرّئيستين: أنها  مدرسة ابتدائية- إعدادية، ووحيدة في القرية. 

لكنه، وبعد أن تلقى كل أصدقائه طعومَهم، وأزالوا كِماماتهِم، وتفاخروا بما فعلوا أمام الجموع، طلب من حفيدِه- ممتعِضًا- أن يسجل له اسمه على المنصّة.

وبعد أسبوعين اثنين من إرسال “الحكومة” رسالة “شخصية” له ترجوه فيها أن يختار وقتًا يناسبه، اختارَه عند التَّاسعة صباحًا؛ إذ لا داعي أن يزعجَ نفسه بالذَّهاب إلى المستشفى منذ الثَّامنة، خاصة وأنه يتوقع أن طوابيرَ انتظار تلقّي الطُّعمِ قد تقلَّصَتْ في كل المستشفياتِ بعد أن نال معظم أفراد الشّعب العظيم شرفَ تلقّيه، على عكسِ طوابيرِ التّنقيبِ عن البنزينِ وزيتِ القليِ والسّلة المدعومةِ والبُنِّ والخبزِ. 

ورغم أن حفيدَهُ وباقي أفراد العائلة صفقوا له كما يُصفَّقُ لتلميذ مجتهد، لم يستطع أن يبتسم، ولم تلمع عيناه الخبيثتان؛ بل لزم الصَّمت، وغرق في نوم طويل طوال بعض الظّهر.

وتقلصت بطةُ ساقِه اليمنى، فكزَّ أسنانَهُ، وتأوَّه إلى أن فُكَّ التّقلّصُ. ولكن، وما إن مضت دقائقُ، حتى تقلَّصت بطة ساقِهِ اليُسرى، فكزَّ أسنانَه من جديد، وتأوَّه إلى أن فُكَّ التّقلّصُ الثّاني.

ورغم الوجع الشّديدِ، لم يستيقظ؛ بل تابع نومه الذي تخللَتْهُ كوابيسُ تدورُ كلُّها حول تشخيصِ طبيبِ الكوابيسِ- بشعرِهِ الأزرقِ المنكوشِ وعينيه المتناهيتين في الصّغَرِ وكتفيه العريضتينِ- حالةَ تقلُّصِ بطَّتي ساقيْهِ بأنها بسببِ تلقّيهِ الطُّعْم من دونِ أن يأخذ “ثلاثينَ” حبة أسبرين يوميًّا قبل النّومِ دَرْءًا لهجومِ التَّجلّط.

 ولكن، ما حدثَ قد حدثَ، كما قال له الطّبيبُ، “أكانَ سببه الأسبرين، أو مخططاتٍ تُطبَخُ في مطابخَ سرّيَّةٍ يشيطُ بعضُها فتنبئُ رائحة شِياطِهِ عن شيءٍ مُريبٍ ما”.

-المهم…

أردفَ طبيبُ الكوابيسِ مُقْنِعًا إياهُ بأن عليه أن يتعايشَ والتّنقلَ على كرسيِّ الإعاقةِ الجسديَّةِ.

ثم تنهد رابتًا كتفَه، قائلًا بصوتٍ ممعِنٍ في الحنانِ:

-وضعُكَ أفضلُ من وضعِ غيرِكَ على كل حال؛ على الأقل، يمكنك التَّحركُ، بينما كل الأشجار في حديقتكَ واقفةٌ ببلاهة مكانها منذ عشراتِ السّنينِ رغم اعتراضِها المتواصلِ سواء من خلال التّعري أو محاولة البحث من خلال مدّ جذورها تحت الأرض بحثًا عن منفَذٍ.

والتفتَ إليه وقد ترافقَ صوتُهُ بإيقاعٍ موسيقيٍّ أخّاذٍ:

-هذا إذا لم نُشِر إلى الشَّبابيكِ والأبوابِ والجدرانِ؛ فكلُّها واقفة، لا تستطيع حتى أخذ قيلولة على أسرّتها اللّينةِ النّاعمةِ المهجورة. كما أنها لا تستطيع إلقاء رؤوسِها على وسائدِها المحشوة بالرّيشِ الوثير.

ثم همسَ:

-على كل حال، لقد ألغَتِ المحكمة العليا في الولايات المتحدة الصهيو- أمريكية التّطعيم الشّاملَ  معلنةً عن فضيحةٍ شنيعةٍ مفادها أن الطُّعمَ يعيد برمجةَ حمض المُتَلَقّي النّووي الطّبيعي.

فدهش:

-يعني؟

-يعني، لا علاقةَ لهذا الطّعم باللَّقاحات التّقليدية.

-يعني؟

-يعني أن اللَّقاح سلاحٌ جينيٌّ خُطِّطَ من خلاله لقتل أبناء الأرض، ومَنْ ينجُ يصبحْ كائنًا معدَّلًا وراثيًّا!

-يعني؟

-عليكَ أن تتصالحَ وعواقبَ تلقّي اللَّقاحِ، إذ لا يمكنني أنا أو أي معالِجٍ آخَر أن يساعدَكَ؛ لأن الضّررَ النّاجمَ عن هذا الطُّعم لا رجعةَ فيه وراثيًّا.

-وماذا عن طبيبِ الكوابيسِ الأخضرِ الشّعر ذي العينينِ الجرئيتينِ الواقفِ هناكَ خلفَ المستنقعِ؟ ألا يستطيعُ إلغاءَ تعديلي وراثيًّا؟

وغضبَ طبيبُ الكوابيسِ الأزرقِ لمجردِ أن قورِنَتْ مهارتُهُ بمهارةِ زميلٍ له، فعَلَتْ نبرةُ صوتِهِ، وانسحبَ منها كل أثرٍ من موسيقا، بل مالَتْ إلى لهجةٍ أستاذيَّةٍ فوقيَّةٍ لم تخلُ من تهديدٍ مبطَّنٍ:

-يا حبيبي، يا حبيبي، الأمرُ أكبرُ بكثير من قدرةِ أطباءِ الكوابيسِ الملونين. ولن أخفي عليكَ أن تسريبًا خطيرًا وصلَني شخصيًّا من أحد أهمِّ أعضاء الدّول المؤثرة في المحور الاقتصادي العالمي أن اتّفاقًا بالتّخلص من أكثر من نصف البشرية قد تم من خلال التّطعيمِ، خاصة وأن فايروس كورونا قد فشلَ من بلوغِ هذا الهدفِ.

-وما علاقتي أنا بالمحور الاقتصادي العالمي؟

-علاقتُكَ به توثقت مذ أخذتَ الطُّعْمَ.

-ولكنني لم أُردْ أن آخذَهُ.

-مَن أرادَ إذن؟

-هُم.

-مَن؟

-كلُّهُم. 

-لا تُعَمِّمْ!

-أهل الضّيعة.

-هؤلاء خِرافٌ.

-وأنا؟

-أنتَ خروفٌ أيضًا، ولو لم تكن، ما أخذتَ اللَّقاحَ ثم تهرّبْتَ من مسؤولية فعلِكَ.

-أنا لم أسجل شخصيًّا اسمي على المنصة.

-مَن فعلَ؟

-هو.

-مَن؟

-حفيدي.

-يا سلام! أنتَ خروفُ حفيدِكَ إذن!

-لا!

-بلى!

وفتحَ عينيه لاهثًا، ثم قفز فجأةً من سريره مذعورًا والعرق يتصببُ من جبينِهِ، فتلمَّسَ بطّتي ساقيهِ، ثم حركَ برشاقةٍ ساقيْهِ: “فوقْ، تحتْ، فوقْ، تحتْ”، عشرات المرات، غير مهتمٍّ بما قد يصدرُ عن جارتِهِ التي يدعوها بـ”دجاجة الأرض” من صراخٍ ولو شقَّ عنانَ السّماءِ طالبًا منه الكفَّ عن القفز كالقرودِ فوق سطحِ غرفتِها، لاعنةً للمرةِ المليون اختيارَه اللّعين الذي ثبَّتَ منذ خمسينَ سنةً غرفته فوق غرفتِها.

وللتَّأكد من حصول ما حصَلَ أو عدمِ حصولِهِ، فتحَ أبوابَ خزانته المغلقَةِ باحثًا عن كرسيِّ المُقْعَدينَ، فلم يجده، ولم يجد طبيبَ الكوابيسِ الأزرق في كل أدراجِ الخزانةِ وبينَ الثّيابِ المعلّقةِ. ولما لم يجدهما، نادى حفيدَه بأعلى صوتِه:

– ألغِ لي موعدَ الطّعمِ!

انتهت

21\6\2021  الدامور-لبنان .

 الدامور-لبنان

One Response to طبيبُ الكوابيسِ الماكرَةِ (قصة قصيرة)

  1. بسام حاج حسن رد

    29 ديسمبر, 2021 at 1:48 م

    أحببت القصة وتفاصيلها الصغيرة التي استطاعت ان تحول الكلمات والسطور، إلى مشاهد من حلقات مسلسل تلفزيوني في دولة مشرقية.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات