كوريا .. رحلة في الذّات

08:16 مساءً الأربعاء 7 نوفمبر 2012
سعيدة الزغبي خالد

سعيدة الزغبي خالد

إعلامية من تونس

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

منذ كنت طفلة و أنا أتصيّد أخبار السندباد البحري من كل كتاب أو مجلّة تقع تحت يدي , شاركته المخاوف و الأحلام و تفاصيل أخبار العمالقة و الأقزام والمسوخ و الأشرار و الملوك و الجميلات و العواصف و المؤامرات .. والسّندباد جعل عشق السّفر و الإستكشاف يلازمني حتّى اليوم وسيظلّ .

حين وصلتني دعوة الرّحلة إلى كوريا الجنوبيّة أصابني الذهول .. هل حقّا سأرى النّصف الآخر من الكرة الأرضيّة و أتأكّد من أنّها فعلا تدور بالتّجربة , كيف أفعل وهي المرّة الأولى التّي أسافر فيها دون زوجي , بل ستكون المرّة الأولى التّي أذهب فيها إلى مكان بدونه .. بدا لي الأمر مخيفا , لكنّه أصرّ على أن أخوض التّجربة فقد هضمت حقوقي كثيرا في عملي و سرقت منّي فرص كثيرة .

بدأت الرّحلة صعبة قبل أن تبدأ بالتعقيدات الإداريّة وبالسؤال الغبي و الغريب لماذا كوريا , و لماذا أنت ؟؟!! هل يستحقّ السّؤال الإجابة ؟ قطعا لا .

في مطار تونس قرطاج كادت تضيع السّفرة بسبب الزَحام و الفوضى التّي أخّرتني عن دخول الطّائرة في الموعد .. بطريقة ما ساعدتني الفوضى فقد تأخّر نزول الطّائرة و بالتّالي إقلاعها , كنت أعلم أن أحدا لن يستطيع أن يمنع سفري .. تلك هي العدالة الإلهية .. سافرت يأكلني الفضول لأعرف أن تذهب كلّ هؤلاء الفتيات الجميلات اللاتّي يبدين كأنّهن سقطن توّا من مجلاّت الموضة , انتظرت أن تبهرني دبي , أنا التّي كدت أفقد قدرتي على الدّهشة لولا كوريا. وصلت إلى مطار كبير باذخ و أحمق ,تتأمّل فيه الوجوه لعلّك تعثر على من يدلّك على بوّابتك يتكلّم العربيّة أو الإنقليزيّة فلا يسعفك الحظّ الاّ بهنود مطبوع على قمصانهم بالعربي و الإنقليزي ” كيف أساعدك ” هكذا نكاية في حيرتك و ضياعك !!لكنّك بعد السّير ساعة و بعض السّاعة في الأروقة الطويلة و العريضة و التّي تشبه الأسواق و المولات أكثر منها مطارا لولا الأصوات المعدنيّة التّي تعلن عن النّداء الأخير لرحلة ما و إغلاق البوّابات .. يا الله إنّهم لا يرحّبون بك بقدر ما يدفعونك لعداء المكان و النّظر في ساعتك تستعجل الرّحيل من بوّابة تختبئ في منعطف صغير أسفل ما قبلها و ما بعدها من البوّابات .. هل تهت في التّفاصيل ؟ هكذا أنت في دبي لولا أن يرزقك الله بمن يساعدك من المصريين أو التونسيين , لا تنس أدويتك أبدا فهناك .. في المركز الطبّي لا يملكون حتّى أدوية الدّوار و الصّداع !!!!

المهمّ وصلت أخيرا و بعد أن قطعت  7222 كلم من دبي إلى أونشون , وصلت إلى كوريا . كانت إنجليزيّتي قد ضعفت فكان التوجّس من التّيه رفيقي لكنّ المكان كان واضح المعالم يسير السّبل بلا مبالغة في البذخ ولا في الإستعراض كلّ شيء دقيق .. أخيرا دخلت مكانا لا تعقيد فيه حتّى يثبت صانعوه عبقريّتهم !! وجدت فتاة رقيقة , مرهقة لكنّها بشوشة و مرحّبة تحمل ورقة مكتوب عليها  (أجا ) اختصارا لجمعيّة الصحفيّين الآسيويين صاحبة الدّعوة لإطلاق النّسخة العربيّة من الشّبكة الإخباريّة آسيا إن .

 كان أغلب زملاء رحلة العمل قد وصلوا قبلي من بلدانهم,و كان أغلب أعضاء الفريق الكوري هناك مع القهوة و الكعك وكان” لي سونغ كي ” أقرب إلى الصّديق القديم منه لشخص نقابله أوّل مرّة , إنّه زعيم فريق الصّقور , هكذا كان يدعونا , انتظرنا وصول زميلنا التّركي لكي نتّجه نحو الفندق في قلب مدينة سيول .

أكثر من أربعين عاما في بلاد التخلّف تخلّف من العقد ومن الغيرة الكثير, طوال الطّريق كنت أنتظر أن تهتزّ بنا السيّارة بسبب مطب أو حفرة , هكذا يحصل في بلادي , لقد أصبحنا نستدلّ على الأمكنة بحفرها و أكوام القمامة الأبدية على جوانبها .. لقد خيّب الكوريّون أملي في العثور خطأ  .. كان الطّريق يثير الإعجاب و الحنق , لماذا لا نكون هكذا .. كلّ شيء مخطّط له ولا أعتقد أنّ تكلفة الإنشاء أكبر هنا من هناك أو العكس .. كلّ السرّ في تعاملك مع المكان , هل هو وطن باق و أنت ذاهب فلا بدّ أن تفعل شيئا من أجله أم هو مال مباح لا بدّ أن تنهب منه ما تستطيع قبل أن تذهب و ليذهب الآخرون إلى الجحيم.. عملا بمبدأ أنا ومن بعدي الطّوفان .. هذا إن تركنا لهذا الوطن ما يكفي من مائه ليطفو . المهم وصلنا بسلامة اللّه إلى الفندق حيث أقمت مع الأستاذة نجوى الزهّار في نفس الغرفة , سيّدة مليئة بالحياة  , تريحك بسرعة كأنك تعرفها منذ زمن طويل . العشاء كان كوريّا تقليديّا مرحا .

بدأ العمل في الصّباح بالتعرّف على فريق العمل هم مجموعة من الشّّباب مثل الورد .. لمحة سريعة عن الهدف من هذا اللّقاء ثمّ انغمسنا في تفاصيل الموقع الإلكتروني للشّبكة وانتهى الأمر بعد غداء إيراني و لقاء عمل مع أحد المسئولين الذّي روى لي تفاصيل حياة حنّبعل باحترام كبير انتهى بالعودة إلى قاعة الإجتماعات والدّخول في نقاش عميق في إطار ندوة حول الإستعمال السّلمي للطاقة النوويّة في الشرق الأوسط حظره أكثر من خبير و باحث و صحفي .تواصلت أيّام العمل و اللّقاءات دون كلل , لم نكن نستطيع أن نشعر بالتّعب أو الملل , لم يكن لدينا الوقت لذلك كما لم يكن لدينا الوقت لنرى كوريا إلاّ من خلال زجاج نافذة السيّارة و نحن في طريقنا إلى مقابلة أو زيارة أو لقاء أو عشاء أو غداء عمل ..  في كوريا رأيت النّاس يمرحون وهم يعملون يقابلون الأصدقاء و يخرجون للعشاء و هم يعملون .. أصبح العمل سلوكا يوميّا مثل المشي واحترام قانون السّير و البيئة و الإبتسام , لكنّه التزام نزع بعض انسانيّة زيارتنا إلى كوريا ..لن أغفر ل ” لي ” أنّه رصّ جدول أعمالنا حتى لم نجد الوقت لشراء تذكارات من كوريا .. كنت أريد أن أشتري حذاء مريحا من هناك و (هارد ديسك ) يخفّف الضغط على حاسوبي الذّي بدأ يصاب بتخمة ما عليه من مادة , لقد رتّب لنا موعدا في المطار و نحن نغادر كوريا !!!

عندما تخلّصت من انبهار لحظة الإكتشاف بدأت أستوعب رحلتي إلى كوريا كانت رحلة في المستقبل فقد أدهشني كما أدهش زملائي ما رأيناه في مؤسّسات كبرى هناك مثل أس كيه و سامسونغ التّي رأينا غدها من خلال نافذة يمكن أن ترى على زجاجها أحوال الطّقس و مواعيد الطّيران و أخبار الصّحف بإختصار بها حاسوب متكامل يمنحك حتى المنظر الذى تتمنى أن تراه من نافذتك حتى لو كانت عمليا تنفتح على الصحراء !! قدت في اس كيه سيارة المستقبل الكهربائيّة الرّهيبة و رأيت الغد بل لمسته بيدي .. كانت رحلة مذهلة يقوم بمثلها ثلاثة آلاف من النّاس يوميّا هناك ..احلم فقط .. و هم سيجعلون حياتك أيسر .. ففي سامسونغ 54 ألفا من ضمن ال 222  ألفا العاملين هناك باحثون ومصمّمون .. دورهم أن يتخيّلوا و يشطوا في الخيال وأن يجعلوا الخيال واقعا كما كان دور صاحبة مؤسّسة (نبي) أو الفراشة بالكوريّة أن تساعد الحالمين بالسّلام على تخطّي الخلافات و الصّراعات المسلّحة لتجمع شبابا و عائلاتهم من كلّ آسيا و العالم ليحتفوا بالسلام و لتكون التكنولوجيا في خدمة فنونهم و آمالهم و غدهم الذّي لن نراه لكنّ العاملين من اجله أبناء الأمس و اليوم كثر.

كوريا بلاد الألوان تطلّ أشجارها من شرفات البيوت و تحضن الزهور عواميد النّور فيها يلتزم أهلها بقواعد السّير التزاما يقرب إلى التّقديس , لم أر من خرق إشارة حمراء و لا مترجّلا قطع الطّريق من مكان غير ممرّ المشاة المخصّص له .

لم ينس (لي ) و هو يعدّ لنا البرنامج أن يرتّب لنا زيارة و لقاء مع الشّاعر الكبير “كو أون” ليوقّع لنا ديوانه الصّادر باللّغة العربيّة الذّي ترجمه الأستاذ أشرف أبو اليزيد تحت عنوان ألف حياة و حياة . و ننطلق في رحلة لقاء الرّاهب البّوذي و الشّاعر ” شو أو هيون ” الذّي شرب معنا الشّاي و حدّثنا مطوّلا عن السّلام و الحياة و الموت في مرح و خفّة روح و تواضع كبير .

تفاصيل الرّحلة كثيرة و طويلة رغم قصرها لكن اللافت للانتباه حقّا هو اهتمام الكوريين بالحفاظ على الطبيعة و البيئة رغم سعيهم الدءوب للتطوير و التحديث , الحياة تسير كما يجب لها ان تسير , الناس يقرؤون في قطار الأنفاق و الباصات , شحن بطاقات السّفر ممكن بيسر و سلاسة على نفس التذكرة الكرتونية القديمة بحيث تكفى لعدد من الرحلات توفيرا لنفقات طباعة تذكرة لكل رحلة .. هذا بالنسبة لقطار الأنفاق .. ؛ أما الباص فيتم شحن مبلغ من المال علي هاتفك الجوال تستعمله فى التنقل حتى ينفذ .. و بمجرد وضع جوالك فى مواجهة باب الباص ينفتح بعد أن يخصم من رصيدك القيمة المطلوبة .. عملية تستغرق بضع ثوان لكنها خطوة كبيرة فى عمر الإبتكار البشرى , نادرا ما تسمع صوت آلآت تنبيه السيّارات و ترى زحمة السّير , مازال يمكنك في سيول أن ترى الجبال و أشجارها ذات الألوان السحريّة .. لم تلتهمها المباني وناطحات السّحاب , لم أر على امتداد الأيام التي استغرقتها الرّحلة مصبّات ومكبّات للقمامة وعلمت بعد السّؤال أنّه يتمّ تجميع القمامة ثلاث مرّات في الأسبوع و تنقل مباشرة إلى مصانع إعادة التّدوير .

السّفر إلى أيّ وجهة كانت , يكشف للفرد نفسه و الآخرين في حدود ما يسمح به الزّمن والمحكّات , رحلتي إلى كوريا , كشفت لي حتّى بعد وصولي وجهي الآخر , كشفت لي كم يمكن أن يجمّلنا الأحبّة حتّى نصدّق , و على طريقة الرّاهب البوذي أقول أيضا كم يطول انتظار الرّحيل حتّى يصبح همّا .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات