التكشُّف الشعوري في زمن الاعجاب الطفولي

02:36 صباحًا الخميس 26 يناير 2023
د. منى رسلان

د. منى رسلان

أُسْتَاذةُ النَّقْد الأَدَبِيّ المعاصر والمنهجيَّة فِي كليَّة الآدابِ والعُلومِ الإنسانيَّة في الجامعة اللبنانيَّة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الدكتورة الأميرة منى رسلان تكتب قراءتها النقديَّة لـ “غمزة” للقاص دانيال قهوجي

إنَّ مسارَ الكِتابة الأدبيَّة، ليست بالأمرِ السهلِ ولا اليسير، لدى الكثير مِن الكُتَّابِ المُخضرمين وحتَّى كُتَّاب السِير الشخصيَّة / الذَّاتيَّة، أو لدى ممَّن يمتهنون الكتابة التدوينيَّة؛ فكيف هو الحالُ إذاً بولوجِ مسارِ الكتابةِ الإبداعيَّة الَّتي تمتزِجُ فيهَا روحُ الواقعيَّة والحقيقة مع الإبداعِ الأدبيِّ، لطالبٍ مدرسي في الثالثة عشر من عُمره؛ وما هي التساؤلاتُ والحقائق الَّتي تؤرِقهُ وهو في عزِّ طفولتِهِ ويبحثُ عنها، أو يخوضُ في مِضمارها؟ وما هي لُجَّةُ العُقد أو الصراعات الَّتي تُثيرُ اهتمامه ليستثير قرَّاءه. أيتمثَّلُ ذلك بصراعِهِ الدَّاخلي مع ذاتيَّتهِ، أم هو الصراعُ الخارجيّ الماثِل في قصَّتِهِ، أم هي العُقدة البسيطةُ في تشكُّلِها الخارجيِّ، العميقةِ في دفينها النفسيِّ، وكُلُّ ما يترتَّب على ذلك من مواجهةٍ للعقدةِ القَصصيَّةِ وأزمتها، هذا ناهيك عن دورِ الشخصيَّاتِ في القصّ والمعوِّقاتِ والمُعضلات والخيارات والأقدارِ الحياتيَّةِ.

وعليه، تُطالِعُنا أنماطٌ للكتابةِ الإبداعيَّةِ، منها: الرِّوايةُ، القصَّةُ، القصَّةُ القصيرةُ، الأُقصوصةُ، النبضةُ القَصَصيَّةُ، وحتَّى الحكاية. فـ “الروايةُ” تنمازُ بالسِّردِ الطويلِ وتصارع جُملةٍ من الأحداثِ وتنامٍ للمُشكلات والعقد وسواها؛ بينما تتميَّزُ “القصَّةُ الحقيقيَّةُ” بالسَّردِ القَصصيِّ الحقيقيِّ _ بنجاحها وفشلها_ إذ يقومُ السَّردُ على تصوُّراتٍ ذاتيَّةٍ وفعليَّةٍ مُرتبطةٍ بأحداثٍ بسيطة تُلامِسُ الواقع الإنسانيِّ. غير أنَّ “القصَّة القصيرة” الَّتي تتَّسِمُ بالايجاز، تتناولُ حدثاً واحداً من دون سواه. غير أنَّهُ يتمُّ تكثيفُ الحدث القَصصي الواحد في كِتابةِ “القصَّة القصيرة جداً” / أي “النبضة القصصيَّة” / و”الأدب الوجيز” أيضاً؛  في حين تروي “الحكاية” حادثةً أو مجموعةً من الحوادثِ الواقعيَّةِ أو تلك الخياليَّةِ ، بحيث يقصُّها القاصُّ أو الصوتُ السَّاردُ، مِن دون التزامِهِ بقواعد تُحدِّد طُرق سردِهِ للمتنِ الحكائي.

فأيٌّ من هذهِ الأنماط الكتابيَّة الإبداعيَّة، تُحرِّكُ يقظة القاصّ اليافع دانيال قهوجي في باكورة كتابته “الغمزة”؟

وبناءً عليه، تُشكِّل هذه التساؤلات لوحةً استقرائيَّةً، لقراءةٍ نقديَّةٍ سريعةٍ وموجزة في أدبِ الناشئة الَّتي يكتبُ فيها قصَّته دانيال قهوجي، والَّذي يخُصُّني بصفة “صديقته العزيزة”، المُحبَّبة إليَّ جداً.

إذ يُسطّرُ القاصُّ الواعد دانيال قهوجي ابن الـ 13 عاماً، حكايَتَه المُعنونة بـ : “الغمزة”، منذ بدايتها بواقعيّةٍ زمنيَّةٍ مُتمثّلةٍ بعودتِهِ والطلاّبِ إلى رِحاب الدوام المدرسيِّ، إذ “رجعْنا إلى المدرسةِ، وبدأنا بأحاديث الاشتياق. وبينما كُنَّا، أنا و(شكيب)، نستقبِلُ جميع زملائنا قرب بوابة المدرسة السَّوداء الكبيرة…” ، بعد عطلة عيد الميلاد “الباردة”، حيث تختزنُ أحاسيسُ القاصّ (دانيال)، برودةً طقسيَّةً سوّرت أيّام عُطلتِهِ في منزلِهِ السَّاحلي، المُطلِ على مشهدياتِ غُروبِ الشمس فوق أليمِّ المتهاوي في الأُفقِ، حيث تُلاطِمُه أمواجٌ هوائيّة والرغبة المُستميتة للدفءٍ والاحتضانِ والاكتشاف.

ههنا، يتلازمُ “صقيعُ” الطقس مع “صقيع _ التوهّم بالحُبِّ”، بفتاةٍ غضَّةٍ وشعرها الأسود المكحول، والَّتي تستنهضُ مُخيِّلتي دانيال وشكيب، إذ يُحرِّكُهُما فيضٌ شعوريٌّ لم يختبراه من ذِي قبل، ويتبدَّى قلباهما المُتطايران مع هواءِ الشتاءِ القارس، حيث الصقيع يجمّدُ الأطرافَ والأحاسيس، غير أنّ فاعليَّةَ “غمزة” الصبية، تؤرِقُ وجدانهما، وتُحفِّزُ أجمل المشاعر والأحاسيس ومن دون أيِّ تأطيرٍ لها.

ويُعبِّر دانيال المُختبِئ خلفَ الصّوتَ السَّارِد: “وانصهرنا لشدةِ جمالها، وذابت أعينُنا ونحن نلاحقها متنهِدَيْن”.

وها إنّ “شعرها الأسود يتطاير” يحفرُ عميقاً في هوى الأنفُسِ حُلُماً ليقظةٍ شعوريّةٍ يستنهِضُهَا حضورُ طيفِ أُنثويّةِ “عفيفة” المغناجُة بلطف. ففي مشهدٍ تصويريٍّ حركِيٍّ مُلفت، لعينٍ مُراقبة بدقَّة وحِرفيَّة في التصويرٍ، يقولُ: “نزلت زميلتُنا من الحافلةِ متغندِرةً وشعرها الأسود يتطاير في هواء المدرسة الجليديّ، ومنحتنا غمزةً جعلَتْ قلبَيْنا يزدهران.. “. والتلذُّذ بفطرة وفتنة الإعجاب “اللحظة”.

وتُجسِّد “الغمزة” حيرة الطالب دانيال: “ولم يَطُلِ الوقتُ حتى بدأتُ أتساءَلُ: “هل كانَت تقصدني أو تقصده؟” “.

يُظهِرُ هذا الحوار شخصيَّات مُحدَّدة، وفقَ ما تقتضيها الضرورة المُلحَّةِ للسَّردِ، وفي وقتٍ وجيزٍ يتناولُ دانيال فكرة واحدة “الزهو” بـ “غمزة” الفتاة، وصديق دراستِه شكيب مفتوناً بالفتاةِ؛ الَّتي تستثيرُ عاطفة واحدة يُعْنَى الكاتب ههنا بها، لتتمحور حولها نبضة قلبه وشجون عواطفه؛ بما يُماثِلُها من عباراتٍ مضغوطة، وجُمل حواريَّةٍ قصيرة:

“فقلتُ له بصوت خفيف: “هل شاهدتَ عفيفة اليوم كيف غمزتني وابتسمت لي؟”

ثمّ أكملْتُ بسعادةٍ: “كنتُ أعرف أَن (عِفّو) تحبني، فحركاتُها واضحة”.

غير أنَّ الهيكل العام للقصَّة القصيرة، المُكثَّفة مشهدياً، وحِكائيَّاً، تخضعُ لاتِّحاد عاملي بيئة الزمان والمكان فالعقدة:

“وتدخَّل (شكيب) بسرعة صارخًا:“تعتقدُ أن عفيفة ستغمز شخصًا مثلكَ؟ بالطّبع هي تغمزني وتلاطفني أنا، لأنني وسيمٌ وذو هيبة وأبدو أكبرَ منكَ، وكأنني تلميذ بريفيه”!

فردَّيت: “أَنت تغار منّي، يا (شكيب)، وتتخيَّل هذه الأمور فقط”.

فانتفض (شكيب)، وغادر منزلي خابطًا الباب وراءه بعنف.

ولأيامٍ لم نعُد نتكلم مع بعضنا بتاتًا… “.

وبذا يكون العيش في الحُلم العشقي _ الوهم الطفولي، ترميزاً لعواطف مكبوتةٍ أو حتَّى استدراراً لعاطفة أمومةٍ يتوقان إليها. وبذا يكون الإقرارُ بـ “الخيبةِ اللحظيَّة”، من خلال مواجهتهما للحقيقةِ والمُصارحةِ الذاتيّة والشعوريّة، إذ يُصوّر الصوت السّاردُ – دان مشهد “الصدمة” :

“وفي اليوم التالي، وصلَتْ (عفيفة) مع صديقِها الأثير، واتجهتْ نحوي و(شكيب)، وقالت لنا:

“ما هذا البرد القارس؟ حُوووح! لا أستطيع أن أفتح عينيَّ، فكلما فتحتهما، تغمضان من الصّقيع!”

مُستتبعاً بمشهد “الخيبة_العشقيّة”، ويضمحل “توهّم المراهق _العشقي”، فينتهي السرد بمقولة تكاد تُلامس أتون الحِكمة أو  موعظة: “وهنا اكتشفنا أن نسمةَ بردٍ عيَّشتْنَا حالةَ حب وعراك!. “.

أوليس هو حُلمٌ التساؤل العشقي المتوحَّد بالتوهُّم، والَّذي لطالما راود الشعراء وكُتَّاب الأناشيد الصوفيَّة والعشقيَّة؛ فجاءت أغنية “فاتت جنبنا”، أنا و هو” للشاعر “حسين السيِّد”، أمثولة لانغماسٍ في التأزُّماتِ الذَّاتيَّةِ _ الشعوريَّةِ والظنون والقلق، والَّتي قدّمها غناء العندليب “عبدالحليم حافظ”، فجاءت رائعةً لحنية للملحِّن الفذِ، مُوسيقار الأجيال “محمَّد عبد الوهاب”.

أليست قصة “الغمزة”، بـ “عفويَّتها” الصَّادقة، غمرة من زهوِ وشقاوةِ دانيال وصديقه شكيب، وطفولتهما الآيلة إلى الانسلاخِ عن ذاتِهَا الماضويَّةِ لطفلين مُراقبين لحضورِ الأُنثى المُتمثِّلةِ هُنا في القصَّةِ بـ “عفيفة” في الحياة، حينما تتوغّلُ مرحلتهُما العُمريَّة رويداً رويداً في متاهَةِ استكناهِ المُراهقة وطراوةِ الأحاسيس وأشجان الشعور. وأليست قصة “الغمزة” أمثولةً تربويَّة وتفعيلاً إنسانيَّاً لتلعُّم ِالناشئةِ قيمَ المُصارحةِ والمُكاشفةِ والتسامُحِ ومكارم الأخلاق، وتعميم قيم السلام والمحبَّة في ما بينهم.

وبناء لذا كلِّه، تسطعُ “غمزة” دانيال قهوجي، ترميزاً مُستقبليَّاً لصيرورةٍ حكائيَّة لقاصٍ يُمارس الكتابة ، كما يعزف البيانو، ويُراقب المجرَّات، بفاعليَّته الواعدة والمُشرقة تلسكوبيَّاً.

*الدكتورة الأميرة منى رسلان

أستاذة النقد الأدبيّ المُعاصر والمنهجيَّة  في كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة في الجامعة اللبنانيَّة

الثلاثاء 24 كانون الثاني / يناير 2023

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات