هزائم الزمالك في مجموعة قصصية

01:38 مساءً الجمعة 1 سبتمبر 2023
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

شهادة مخالفات محمد أبو الدهب

مخالفة للمعتاد والمكرور في الأحاديث اليومية من تداول مدمن للرياضة، تخلو الأعمال الأدبية من تناولها، وكأنها تنضم طواعية لتلك المحرمات (المألوفة)؛ السياسة والدين والجنس! ويبدو أن السرد انتظر بطلا منكسرًا ليضع الرياضة، وخاصة نادي الزمالك، في متون قصصه القصيرة، بدءا بأول ما في مجموعته (شهادة مخالفات)، للقاص محمد أبو الدهب، وهي القصة التي تحمل عنوان (لو أنه لم يكن ميتًا).

تلح فكرة الكف عن تشجيع نادي الزمالك، في هذه القصة وسواها، والأمر يكاد يكون معادلا موضوعيا لفكرة الكف عن تقبل الهزيمة. فهو في المطبخ يعمل الشاي، ويشعر بالعار من حيث المبدأ، يبحث عن شيء للصداع، مفكرا، بجدية هذه المرة، أن يتوقف عن تشجيع نادي الزمالك، وكان انهزم للتو من غزل المحلة في الوقت بدل الضائع.

اليوم هي السنوية السابعة لوفاة الوالد، وكأنها السبع العجاف التي توقف فيها ناديه عن حياة البطولات، والغريب أنه – حتى في حلمه – يحلم بالجالسين بالعزاء، وصرختهم القوية المباغتة “جوووول”. إنه – الراوي – شخص غارق في مسائل الرياضة وكرة القدم، حتى أن شقيقته التي تأتي لتصحبه إلى المقابر ، تواجهه: يعني انت الكورة ملخبطاك، وعايزها تلخبطنا إحنا كمان!

سيتابع طريقه في نهاية القصة التي يختمها بكلمات متحسرة: “في ضميري أن المباراة القادمة للزمالك سستكون الفاصلة، وإذا لم يفز بها، فقرار المقاطعة”. وربما يسأل القاريء، هل هزائم الزمالك، معادل موضوعي للهزائم التي يعيشها الراوي؟

الحقيقة أن نسيج تلك القصة هو الذي ألبس المجموعة كلها لتصبح الكاتالوج الذي يسير عليه السرد؛ فالراوي – دائما – لديه أحداث في الواقع، وأخرى في الحلم، ويتجلى دوره في الخروج والدخول بين ما هو واقعي وما هو متخيل، وكأن الواقع – بكل هزائمه ومراراته وسقطاته – لا بد له من واقع آخر متخيل يتيحه الحلم.

في (الذي يحب تفسير الأحلام)، يظل دائمًا يستدعي حضوره في الخيال بديلا للواقع، فالمنام الذي رآه يوصل فيه مجموعة لا يعرفها إلى مستشفى التأمين الصحي، ويحاول أن يركن سيارته، ليعود لهم، سيمضي به يوما حالما، وينقضي دون أن يعرف كيف يركن سيارته، فيظن أنه لو حكى الحلم لزوجته أنها ستباغته: “هو انت كنت بتعرف تركنها وانت صاحي لما عاوز تركنها وانت نايم!” حتى أنه يفكر في أن يحكي الحلم لزميله، لكنه يعترف بأن الزميل لا يستحق أن يكشف له عن حلمه، “فهو وإن كان يحب تفسير الأحلام، إلا أنه أيضا يحب مشاهدة الأفلام الجنسية على المبايل، وإذا قال له كاستهلال مشوق “مش ما عرفتش أركن العربية في الحلم”، فالمرجح أنه سيفسر ركن السيارة في المنام بمضاجعة الزوجة في اليقظة.

عليه دائما أن يهرب من الواقع إلى الحلم، فمستشفى التأمين الصحي شهد موت أمه وحيدة في عنايته المركزة بالدور الثاني، وموت عمه قبل أن يفردوا ظهره على السرير، وموت زوج عمته في قسم المسالك البولية، وزوج عمته الثاني في قسم الباطنة، وفيه شتمه أبوه حين دهس رجله سهوا وهو ينظر للممرضة الجميلة التي ضحكت ووالده يقول له: “هتفضل طول عمرك جاموسة”.

هذا هو الواقع، سجل وفيات، وكأن كل هذا الموت تكئة أو حجة للهروب منه إلى الأحلام.

يحلم في (جلسة صلح) بمحاولة إرضاء رجل المطعم الذي ظن أنه سيأتي معاتبا من السيجارة الملقاة عبر النافذة من الشخص الذي يعاتبه على إغضاب زوجته، لأنها اشترت هاتفا يعمل ببصمة الوجه.وفي (زرع بصل) يحلم بامرأة تستحم، وهو يزور حماتها، ويكتشف بعد استغراقه في تخيلها أن زوجها هو من كان تحت الدش، وأنها ليست بالبيت وأن حلم اليقظه جعله يسهو عن عدل رقبة العجوز، فتسقط، وقدماها أعلاها، كرأس بصلة خضراء، والحلم لا ينقطع، ويبدأ من المفردة الأولى، أحيانا، كما في قصة (رم مخ): “نمتُ، فرأيت كل شيء. تفاعلت مع الإشارات والرموز التي زخر بها المنام. رأيتني وقد صار لي كرش ضخم، كأنني أخزن فيه حاجات بخلاف الطعام…”

في قصته (ليلة الأربعين)، الأطول بأقسامها في المجموعة، يستعيد الراوي حلما مواكبا لكأس العالم في المكسيك (1986)، كان طموحه في تلك المرحلة منصبا على أن يكون حارس مرمى منتخب مصر ونادي الزمالك، “ولا بأس من الاحتراف فترة في سيلتك الأسكتلندي، أو باوك اليوناني….

“أنام لأصور بخيالي فيديوهات، بلا حصر، لي، وأنا أطير يمينا وشمالا، أمام الخشبات الثلاث، لأمنع تسديدات أعتى لاعبي العالم، مقلدا (بفاف) حارس بلجيكا، مثلي الأعلى، الذي دخل مرماه ثلاثة أهداف في مباراة الاتحاد السوفييتي، واثنان في مباراة الأرجنتين، وكلها من أخطاء دفاعية. وبعد عشرة آلاف ومائتين وعشرين ليلة، تحديدًا في صيف العام ٢٠١٣ ، لم يكن كأس العالم منعقدًا، وكنت أقل انتشاءً، أبحث في المصير دون ورقةٍ تساعد، مع أن زجاجات الخمر، من حولي، تدفع بعضي ببعض. وكان بإمكاني الدردشة مع أي لاعب على وجه الأرض، بعد أن صرت ماهرًا في النت. لكني لم أفعل. ولم أفكر مرة في أني فرّطت في فرصتي مع منتخب مصر ونادي الزمالك. كما لو أني لم أعد مهتما بالكرة.”

كتب محمد أبو الدهب القصة القصيرة، وأصبح  وفيا لها، منذ صدور أول مجموعاته (أوراق صفراء)، في 1997، ليكتب (آخر الموتى)، 1999، و(نصف لحية كثيفة)، 2001، و(نزهة في المقبرة)، 2008، و(البر الآخر)، 2009، و(نصوص الأشباح)، 2011، والمتتالية القصصية (يليق بسكران)، 2012، و(المتفاعل)، 2021، قبل أن يعود بهذه المجموعة القصصية، التي يختتمها وكأنها اعتراف بالعودة، متخم بالشك، في نصه: عودة الكاتب، وأنقله، نموذجا للكتابات الابحة بين الواقع والمتخيل، وكأنه عاد للنهار بعد ظلام الأحلام، لكنه عاد بحزن نائم:

“ظهرت فجأةً بعد عشر سنوات.

قال الذي لا يفارقني إما أنه النبش في الدفاتر القديمة، وإما أنه الحنين إلى الماضي، أو الأخيرة مع الأسف: الالتحاق بوردية الوداع التي يعرفها جيدا الذين ماتوا مرّةً واحدةً كحد أدنى.. لست مجبرا على اختيار الإجابة الصحيحة من بين الأقواس ولا على تحمُّل عدم مفارقة هذا القوّال. لم أكن مختفيا بالنسبة له، لهذا لن أبادر بإصدار أية تصريحات

دخلت القاعة الآيلة للسقوط منذ شُيدت دخلتُ كعابر سبيل، يطلب شربة ماء، يجرعها ثم يمضي. سأبقى محتاطا حتى النفس الأخير لم يسأل أحدهم السؤال الذي أرهبني طويلا. سأشكرهم يوما ما. كبار السن قالوا بشفاه ممطوطة (لماذا توقفت عن الكتابة؟ لقد كنتَ واعدا).. أبناء الجيل قالوا بشفاه مخصوصة (أنت توقفت عن الكتابة، أما نحن فلم نتوقف لحظة .. الصغار لم يستخدموا شفاههم عندما قالوا (أنت تكتب؟ ألستَ عجوزا على هذا!)

كانت المقاعد مشغولة كلها، حول المائدة العتيقة المستطيلة ولم تكن الندوة قد بدأتْ. سحبتُ مقعدًا من الطرقة المؤدّية إلى البوفيه، وبدأتُ صفًّا خلفيًا. لم تتغير خريطة المكان. وجوه قديمة قليلة استبدل بها أحدث. لم تمرض ذاكرتي. هل يسقط السقف أخيرا فوق الجميع ؟ يموتون إذن – القديم والحديث، وأنا العائد بعد غياب وهذا ما يجعل للحياة طعمًا.

لم أخبر أحدا، ذلك قالوا ما قالوا . ومع إندمجوا في التَّجادُل حول نفس الكارثة الكونية، التي كانت موجودة قبل السنوات العشر وبنفس الحماس الذي لا يعني إلا أنهم ضمنوا الشيء الأهمّ، حتى لو كان لا يزال غامضًا عليهم. هيج حماسهم حُزني النائم. أرسلني إلى نقطة البداية، وقد كنتُ أحسب أني قاربتُ بمجهودي الخاص على نقطة النهاية عاودت مساءلة نفسي عن المغزى الخرافي من وراء رصف الكلمات، ثم التراشق بها على مرأى من عالم لا يهتم. قلتُ لهم إنني لا أريد أن أورّطهم في مشاغلي الصغيرة على الأقل لعشر سنواتٍ أخرى.

خرجت من القاعة، لأظهر له من جديد.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات