قوس قزح

11:56 صباحًا الخميس 3 يناير 2013
نجوى الزهار

نجوى الزهار

كاتبة من الأردن، ناشطة في العمل التطوعي

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print


” طوبى لمن يتسعون “

                                                        السيد المسيح

” وكثير من السؤال اشتياق

                                        وكثير من رده تعليل “

                                                        المتنبي

 

جذوري

أتعلمين يا ابنتي أنك جئت الى هذه الدنيا برغبة ملحة من أمك . في لحظات هاربة من زمن الشقاء والنزاع ثم الانفصال ، اقتربت اقتربت . لا أقول كما لم تقترب من قبل . فهي الجبال التي نسجت صخورها بخيط حريري . ما استطاع جسدي المتعب ملامستها . الجفاف  الانكسار التنائي تحركت خلاياها في دمائي ولكن يا للعطش المضني كيف استفاقت رغباته بالارتواء .

ها هي بجانبي سهول على امتداد .؟ سهول سائلة متسائلة . ولكن لماذا السؤال ؟

انه الجواب …. الجواب

تمايلت الأغصان . تمازجت تناغمت .كان ذاك الزمن الذي لا يقاس بطول أو بقصر . زمن قطع الطريق عن كل حكم أو تصنيف .ما عدت أريد أن أفهم الحياة . أن أغير الظروف . يكفي أنني قد شربت من جوهر الحياة الخالد . ومن يشرب من هذا يكون معصوما مباركا من كل ظمأ . انه يا ابنتي قانون أزلي . فهل تستطيعين الفهم . صغيرة صغيرة جدا عندما رمى بما رمى ثم غاب .

أعود الى سنين طويلة مضت . لأرى نفسي قد انقسمت الى جزأين متساويين . لهما نفس القوة على روحي وجسدي . كنت في أواخر العشرينات من العمر ، أجلس مع أطفالي الثلاثة نلعب سويا لعبة الليجو . نشيد المنازل بقطع مختلفة الحجم واللون ، ثم بنفس القطع نبني الجسور ، القناطر ، في عملية لا تنتهي ، هدم وبناء وهدم . واذا بجزء من ذاتي ينفصل عني وعنهم ليقول لي : أريد حقي. أريد وجودي ، وما هو حقك يا ذاتي الأخرى ؟ قالت لي : انني بلا ذكريات، الذكريات هي التي سوف تساعدني عندما أتقدم بالعمر . فالذكريات هي الحياة بحد ذاتها ، أليست أغلب مشاعرنا وأحاديثنا عما مر بنا . ولا شيء لا شيء مثل الحب . من يخلق الذكريات . فمنذ اللحظة التي تبدأ مشاعرنا بامتلاكه ، تتحد معه الذكريات لكي لا تنتهي الا بانتهاء العمر . يا أنت يا أيتها الذات الأخرى… ألا ترين كم عانيت مع ابني البكر لتكون أحرفه الأبجدية  بانسياق وانتظام ، نستطيع أن ننافس بها أبناء الأصحاب ؟ والطعام أليس من غير اللائق ألا أكون فيه بمستوى زوجات الأصحاب ؟. أما البيت فيجب أن يحافظ على تربيته بكل الحالات والأوقات . ألا ترين اني متزوجة ؟ …وما ان قلت ما قلت حتى عادت انقساماتي للتوحد ثانية – لتقول لي وبصوت واثق : كفي عن هذا ، فأنت تعرفين تماما ما بداخلك تجاه هذا الارتباط .

وعشت الانقسام . وكان انقسام ذاتي انقساما لصحتي التي أخذت بالتدهور . فقدت شهيتي وحيويتي . وأحببت عند مراجعاتي المتكررة للأطباء أن يجدوا مرضا مستعصيا ، لكنه واضح الملامح والأعراض . ففي هذا كان هروبي من الذات الأخرى ، ولكنها تمرست بعدة أشكال من المرض لتذكرني دائما بوجودها .

وذات يوم استطاعت الذات الأخرى أن تذهب اليه ، الى الزوج ، لتقول له بكل بساطة :  أنت تعرف تماما كيف تم هذا الزواج ، ولقد حاولت ، حاولت أن أمتلك أو يمتلكني الحب ، ولكن الاشتياق لبعض من دفء . فهذه البرودة التي تهيمن على دارنا ، أخذت مني شهيتي لكل ما يحيط بي ، فما من مقدرة لي على التقاط الحركة السحرية بين الزهرة البرعم . وهذه العتمة أفقدتني الرؤيا لبذور الأرض في رقصتها الأزلية عبر الداخل والخارج . وذاك الضجيج الذي لا ينتهي في داخلي منع عني سماع حديث الأشجار عن حالها وحال المحبين. المحبون الذي سكنوا اليها. عن الأيدي التي تتمايل    تتلامس ، الى أن تنصهر خلاياها . فيعزف الكون أنشودته فرحا بتجدد موسيقاه . الريح . لم أعد أعرف ان كانت آتية أم  مغادرة . وان كانت ستعيد للأشجار أوراقها أحاديثها التي استعادتها لزمن .أم أنه قد لفها النسيان لما حملت واحتملت . والتساؤل يجرحني : هل الماء في النهر أم في البحر له نفس الايقاع ؟ .وهل يستطيع البحر أن يتخلى عن ملوحته يوما ؟ والماء المحبوسة في الكأس أتستطيع أن تكسر الكأس كأسها لتبحث عن اخوة لها ؟ . واذا ما غاب الانسجام بين السماء والأرض ، وأرادت السماء أن تركض هاربة ، هل من نداء لدى الأرض تستجيب له السماء ؟ . أم أن الأرض سوف ترضى بحالها بلا نجوم وأثمار ؟ واذا ما استحالت الأمومة عبئا هل تركض الأم بعيدا بثدييها لتسكب حليب أطفالها في قنوات مسدودة ؟  واذا ما صحونا يوما لنجد الكون محاطا بالأبواب والجدران هل نستعيد قدرتنا على التحليق مجددا غير قابلين الا بهذا الامتداد اللامتناهي ، أم أننا سوف نعود الى عتمة أبدية ؟ .

ها أنت ترى معي ، كيف أصبحت جسرا واهنا ، عجلة تدور في مكانها. لآلئ الأجداد التي تركوها في الأعماق تعرف عجزي وضعفي عن محادثتها . الأفكار تأتي وتعلم تماما أني لا أقدر على ملامستها  ولا معانقتها لا في الحلم ولا في الصحو أيضا .

هذا الحديث الذي امتلك أجنحة، استطاع أن ينقل الى كل من عرفت وعرف .وباتفاق الجميع بالطبع ما عدا الصديقات …..انتقلت من فئة الأمهات العاقلات المتزنات الى فئة الأمهات الأنانيات . ولأن عهدي بالانفصال كان حديثا ، كان لا بد لي من ممارسة ما تمليه الطبيعة علينا من البحث عما يساعدنا على الوقوف على الأرض التي تخلت عن قشرتها الصلبة . فأصبحت نيران براكينها ، انصهار محتوياتها تدمي ، تخيف ، تخنق .

بالأمس حلمت حلما مروعا . رأيت ذاتي ، كياني ينطلق بكل الاتجاهات .وكلما حاولت أن ألملمه انفصل عني مجددا . ثم رأيت ما يشبه عيوني ، على جبل ، فسألتها أن تنزل قليلا ، لتؤنس عيونا مثلها ، ضحكت ضحكا لم أفهم معانيه .كلماتي حروفي رأيتها على سطح الماء كما هي في ذهني . وعندما حاولت استعادتها لإعادتها الى بيتها ، ركبت موجة عاتية لعلها تعرفها …. قفلت راجعة لاستعادتها من فكري وتفكيري ، ولكني لم أجد لها أثرا .

هذا الفراغ. هذا الوحش الذي يجعلنا نعيش التفاهات اليومية على أنها قدرنا . فاذا كنا لا نرى الا بالعين ولا نسمع الا بالأذن ….. فاننا نموت المرة تلو المرة . بعملية لا تنتهي .

رغيف الخبز

من على غصن شجرة ، نزل رغيف لملاقاتي .

قال لي : الدنيا ما تزال بخير .

        : من أين لك أن تعرف ذلك ؟

الرغيف :سأحاول ان شئت .

        يا أنت ، هل صنعت التاريخ أم أن التاريخ قد صنعك ؟

الرغيف : ولماذا أشغل نفسي بمثل هذه التساؤلات التي لا تفيد شيئا .

        : ألا يهمك أن تعرف بداياتك ؟ كيف كان مشوارك وما أصبحت عليه ؟.

الرغيف : لا شيء يعنيني من هذه التساؤلات التي لا تؤدي الا نتائج متباينة، لها نفس قوة التأثير . فان كنت تقصدين أنني أستطيع معرفة الحقيقة . الحقيقة أين هي ؟ .

        : ولكن الا تشتاق الى يوم عرسك مع الدنيا ؟ ألا تحن الى تلك الاحتفالات بقدومك ؟ .

الرغيف : كل لحظة هي يوم جديد وعرس جديد . المهم أني استطعت الافلات من كل التسميات والألقاب التافهة . فأنا الرغيف  . الرغيف في كل مكان وزمان .أعيش اندفاعي نحو الأمام ، نحو الأيدي التي تنتظرني لا أنظر الا الى العروق النابضة التي تزينها وأشفق على عناصر الكون من ذهب وماس وبشر ….. أشفق عليها في بعض الأحيان وأنا أراها سجينة خائفة خلف واجهات العمر ، تنتظر ثمنا لن يعوضها عن ابتعادها عن مناجمها وعروقها .ولكني في بعض الأحيان أشعر بها متآمرة مع صناعها لتخلد في حياة الكسل .

        : تتكلم هكذا لأنك سهل ومتوفر .

الرغيف : بالقلب الواعي ذو البصيرة ، يعرف سري .

        : سرك . منذ قليل كنت تحاول اقناعي بتواضعك ، والآن تقول ليسرك ما هو .

الرغيف : تخلي عن مبدأ النصر والهزيمة في نقاشك هذا، عندئذ ستعرفي تماما ماذا أعني . أما الآن فان لدي عملا كثيرا .

نظرت حولي ، فرأيت أمواج القمح حرة في مروجها. سمعت صوت المياه متنقلا بين بحر ونهر. عندئذ ابتدأ سر الرغيف يتضح أمامي. فالمعاني الجميلة لا تعرف لها بداية . فالقمح قد ارتضى حصدا .والماء أيضا  ارتضى حيزا صغيرا . أما الزمن فقد امتدت خميرته ليكون الرغيف شاهدا حيا على سر التوازن ، وجمال المركز. القمح مثيل الرغيف ، والرغيف هو القمح والماء مثيل الرغيف ، والرغيف هو الماء  . أما الزمن فهو الخميرة الأبدية لكل ما بهذا الكون .

يا رغيف الخبز  يا قصيدة كونية ويا حكمة ناعمة متلألئة بين ذراته . أعطني بعضا من سحر بساطتك وبعضا من خميرة خميرتك ، لعل في هذا يكون خلاصي .

آنا كارنينا من الصعب القول أني قرأته .فالقراءة عملية بتطوراتها المختلفة تأخذ من احساسنا ، طريقة تفكيرنا ، اندماجنا بعض الشيء ونعطيها بالمقابل بعض الشيء أيضا  ، أما قراءتي ولعل من الأوضح القول حياتي مع آنا ….. ففي كل قراءة من قراءاتي عشت حالات مختلفة لا تمت لبعضها بصلة ، بكاء ، انتشاء ، تمرد ، خوف ، تقاعس ، انتصار ، انهزام ، عبودية ، حرية ، ايمان ، كفر . ولكنه في كل الأحوال كان ملاذي . كان القشرة الصلبة التي لم أستطع أن أقف عليها ، وبالرغم من كل المحاولات الدائمة للاحتفاظ بهذا الكتاب ” قصة آنا كرنينا ” في مكان أمين ، الى أن جاء ذلك اليوم الذي بحثت وبحثت عنه ، الى أن جاءني نداء عبر سلة المهملات .

أمسكت بالرماد بين يدي ، فشعت بحرارة يدها ، اقتربت به من وجهي فأصبح هواء مشبعا بها . فاستنشقته شهيقا ما من زفير بعده . سمعت بكاءها وسمعت بكائي . عشت آلامها في قطار يدوس جسدها وعاشت ألمي فأكثر من قطار يدوس جسدي ودمائي لا لون لها لتعرف حقيقة موتي . فأنا لم أستطع الاحتفاظ بأرض صلبة أستطيع الوقوف عليها ، لم أستطع الاحتفاظ بأولادي ، فقولوا ما شئتم . اختارت الطريقة الأسهل …. لا تمتلك المقدرة على الصراع ، كل منكم سوف يحلل الموقف بشكل مختلف ، أما أنا الباحثة عن الحب ، الحرية ، الصدق مع النفس …. استسلمت وعدت للزواج ثانية بما تسمونه ارادة ” ارادتي الذاتية “وأتساءل اليوم كما تساءلت بالأمس ، ما هي الارادة ؟ هل حقا رجعت للزواج الذي هربت منه بإرادتي ؟ بالحقائق المجردة ، نعم . طلبت منه أن أعود …. أنا أعلم تماما أنني كنتفي حالة ، على واجب التخلي عن ذاتي الأخرى ، ولكن من يقول لي عن هذا الشيء الذي كان يضغطك على روحي من داخلها ومن خارجها ، ما الصلة بينه وبين الارادة . وهل هو امتلك أيضا ارادته عندما سمح لي بالعودة بعدما زرعنا أنا وهو في البيت كلاما أقوى في وجوده من قطع الأثاث الموجودة …؟.

ولكن عندما يستمر الحوار بشكل لا ينتهي . أيكون ذلك بسبب رغبتنا في اقناع الآخرين بوجهة نظرنا التي نعتقد أننا محقون بها ؟   لا أظن ذلك … ان الحوار يستمر ويستمر لأن جزءا من رأي الآخر بنا بتصرفاتنا ، بأحكامه علينا يدخل في خلايانا ، يدور مع دورتنا الدموية ، يتمسك بعقلنا ، بإحساسنا ، فنحاور ونحاور لإبعاد ما نحب ابعاده عن حقيقة ذاتنا . فعندما كان يحاول مصادرة أمومتي …. كان بعض من كلامه يتمسك بجزء من داخلي ، شاعرا بعدالة أقواله . وعلى الرغم من آلامي الجسدية  والمعنوية ، فاني أعود الى تلك السنوات الغارقة بالطول ، بالمشاحنات ، بالانقسامات ، تلك السنين أشعر بالامتنان لها ، كما يشعر من امتلك منجما ولكنه لأسباب يعرف بعضها ولا يعرف الآخر لم يستطع الاهتداء لمحتويات منجمه الا عبر اصرار نجمة ليلية . وأنا في مرضي ، وحدتي ، ترددي ، في كل هذا وذاك امتلكت محتويات منجمي التي ما توانت على اعطائي ماسة مضيئة كلما اقترب  اليأس من حواف عقلي وروحي . وأتساءل كيف نعرف حقيقتنا ؟ بل أي جزء من تلك الحقيقة . هل نصحو يوما لنقول لذواتنا اننا ممتلكون لتلك الصفات ، لعله لا شيء مثل الصراع أو بالأخص الصراع بين الزوجة والزوج ما يجعل لصفاتنا أن تنفصل عنا . لنراها متجسدة أمامنا بسلوك . في هذه اللحظات عرف تماما أين نحن مما نعتقده من أنفسنا .

 

يا ماستي …….. يا ماستي……

الأحداث التي لها ثقل على الروح هي المحرك الأولي للانقسام . ما ان تبدأ بالانقسام ، حتى يبدأ هذا بامتلاك قواه الذاتية ، أما نحن فنحاول متمسكين مصممين على أن لا نفقد جزءا من تلك الذوات المنقسمة . ولكن هل نستطيع ؟ وما حياتي الا عبارة عن محاولات بأن لا أفقد شيئا من ذواتي  الآخذة بالانفصال والابتعاد . نحن في محاولات لإعطاء بعض التسميات الخاصة بنا على ما يحدث لدواخلنا . ونحب كثيرا أن يحاول الآخرون النظر الينا عبر ذواتنا المنفصلة , وليس عبر نظرة واحدة تتوافق مع معتقداتهم . نحب أن نكون لعبة ليجو . فالاتحاد  الانفصال لا يهددها ولكن بعض الآخرين في اصرار على أن نحافظ على ذات واحدة – قطعة ليجو منفردة . فالتقدير لقطعة الليجو  المنفردة . وأنا كم حاولت أن أدافع عن أمومتي وأن ما يحصل لي لا يتعارض واحساسي العميق بالمسئولية تجاه أطفالي . فأمومتي دائما كانت معي منذ أن عرفت نفسي وجودها …. لكنه بإصراره على مصادرة أمومتي ، ولأن روحي تكونت عبر ثلاثة ياسمينات بيضاء ، صفراء ، بنفسجي  .كان لا بد لي من امتلاك أجنحة أطير بها بين ذواتي المنفصلة . فعندما جاءني أنا البعيدة  كل البعد عن أوضاعه المالية .كل الذي أعرفه أننا نعيش في حالة من الاستقرار المالي ليقول لي اننا لا نملك شيئا … فقد صودرت الممتلكات ، وعلي أن أتدبر الأمر ! .

أي معادلة هذه ؟ . الأطفال الذين نحتمي بهم ، نختبئ وراءهم من الاحباط ، الاخفاق . والذي نبرر لأنفسنا بأن لمعاناتنا لها من الجوانب الايجابية ، عبر ابتساماتهم ، لعبهم .   والمستقبل مستقبلهم على مستوى المعيشة وعلى مستوى التعليم أين أنا منه ؟ ما من مقدرة لي على أي شيء من هذا ؟ بل الأصح أنني لا أعرف شيئا عما يدور في العالم الخارجي ؟. بنوك ، دين ، رهونات ، حجز .

 

حياتنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

كيف تترتب مفاهيمها كيف نكتسبها ؟ واليوم وأنا أعود لبداية البدايات لا أعرف مما نسج ثوبي وكيف تكونت له كل هذه الألوان . لا أستطيع القول ان الحب الذي امتزج بهذا البيت ، بيت جدتي ، شجرات ياسمين بيضاء وليلكي ، بحيرة تتوسط الديار . ذات مياه لا تتوقف عن الجريان . غرف واسعة متقاربة متباعدة بفعل أدراج متواصلة متصلة . شجرات ليمون وبرتقال من غير المسموح قطف ثمارها ، نباتات تحيط بالديار تسقى وتلمع بعملية لا تنتهي ،شجرة لبلاب متسلقة . لا أستطيع القول  ان بهذا كان تكويني شيئا بدأ ولا اعرف حقيقته . فتلك شجيرات الياسمين الثلاث التي زرعت يوما ما بيد لا نعرفها نحن , هل كانت الياسمينات تعرفها ؟ . وهل كان بإرادتها أم بغير ارادتها أن تتوحد ليلا وتستقل جذورها نهارا ؟ أم كانت تعرف أنها عندما تنزع غطاءها  هذا كل صباح ، بانتشارها على أرض ديار ، مغرقة بالتوهج أنها ديارنا ؟ انها أيدينا التي تمتد اليها مداعبة أزهارها لترد عليها تحية الصباح . ومن من زوارنا كان يعرف أنه اذا ما قرع باب بيتنا في لحظة معينة سيكون بانتظاره طوق صباحي من الياسمين الأبيض والأصفر والليلكي ؟ . وهذه الشجرات من أين لها أن تعرف أن عم امي له مثل هذا الاحساس بأن الجمال الحقيقي لا يحصر بشكل ….  فهذه الثمار النضرة المتوهجة لها أيضا نفس جمال ثمار تجعدت قشرتها الخارجية وجفت مياهها الداخلية . أم أنها هي التي أوحت اليه بالفكرة عدم قطفها لكي نستطيع نحن من عشنا في هذا البيت أن نرى وجه الأجداد ونسمع حديث الأجداد ؟  شاهدوها   نشاهدها   تشاهدنا . أزهار الياسمين ، أشجار البرتقال والليمون تعرف جزءا من حقيقتها وتعرف أيضا جزءا من حقيقتنا . وأنا الطفلة الأصغر سنا لوالدتي المطلقة . لعلي كنت أتعلم من شجرات الياسمين البرتقال الأدراج المتصلة والآيات القرآنية. والا فما معنى أن أصر على وجوب زواج أمي لكي تستقر ، وأنا لم أتجاوز الرابعة من عمري ؟ فالانفصال السلبي لم يكن موجودا في عالمي.  فالأدراج التي كانت تفصل في بيت جدتي كانت أيضا وسيلة اتصاله .و أمي يا أمي وان ذهبت للزواج فأنا أعلم تماما أن الأدراج بيننا . تلك الأدراج كانت معي عندما ذهبت للزوج طالبة الطلاق وليس الانفصال . وكم حاولت أن أشرح له أنني بطلاقي لا أنفصل انفصالا، لا أبتعد بعيدا . فقط أحدد طبيعة العلاقة بيننا . فالأدراج بيننا دائما . فتلك شجرة اللبلاب يا أيها الزوج ، تلك الشجرة كانت جذورها في ركن من أركان أرض الديار  ، ولكنها كانت كل يوم تفاجئنا بامتدادات  بتسلقات ، وكم ابتسمنا لتحيتها الصباحية غير المتوقعة عبر الاطلالات من ثنايا النوافذ البعيدة كل البعد عن جذورها بغير أن تفقد جزءا حقيقيا منها .

شجرة اللبلاب فهمت تماما أنها لن تقوى على منع تلك الامتدادات . وتلك الامتدادات عرفت أيضا أن سر وجودها يكمن في تلك الجذور البعيدة القريبة منها. وأنا  أيضا أريد جذوري وأريد أيضا امتداداتي . ولسوف أطل عليك كل صباح ، فأطفالنا هم الامتدادات التي لا تنتهي براعمها . هم التسلقات الثابتة  على قلبك وقلبي . لم يفهمني… لم أفهمه . عدم الفهم نعيشه جميعا نمارسه أيضا جميعا . وما الاعتذار الذي نبديه لبعضنا البعض الا فهم متأخر مع أن الكون بكل ما فيه نتقاسمه معا . ولكن دائما الأشياء تعاود تكرار نفس الأخطاء ، الاعتذارات ، الفهم المتأخر . فنحن نصر على أن عطاء الآخرين ، ربيعهم ، جمال ثمارهم ، يجب أن يأتي في اللحظة التي نريدها نحن . لا نريد أن نعرف شيئا عن عمق شتائهم ، عن حاجتهم لحطبنا  لنارنا ، الى أني يأتي يوم ما نصادف فيه شتاء يشبه شتاءهم ، ورياحا تهتز لها أشجارنا كما اهتزت أشجارهم . في تلك اللحظة نحاول الفهم . فالدموع يجب أن نتذوقها ، لنتأكد من أن دموع الآخرين لها أيضا نفس الملوحة .

الاغتسال بماء المطر

وأنا كيف لي أن أفهم ذاك الرجل الذي طالما شاهدته يجوب الشوارع حاملا كيسا على كتفيه في الساحة الخالية المقابلة لمنزلي . يغتسل بما تبقى من مياه متجمعة بفعل المطر . في يديه علبة فارغة يستعملها كمرآة ، كيف لي أن أفهم ، وكيف لي أن لا أكون متأكدة أنه بحاجة لمساعدتي . في هذه اللحظة تركت ما  بيدي  ، وذهبت اليه مسرعة مع مخاوف بأن لا أقدر على اللحاق به ، وكان لا يزال في مكانه يمشط شعرا طويلا مكتسيا بلون الحناء . وبعد أن حييته ، قلت له بصوت خافت : أرجوك أن تأخذ هذا . وقبل أن أكمل كلامي ويدي تحاول أن تمتد اليه أكثر ، رمقني بتلك النظرة الحادة التي عرفت طريقها  الى ذكرياتي وذاكرتي قائلا : لماذا ؟  ومن قال لك انني بحاجة الى هذه النقود في ذاك الزمن ؟ وقبل أن يهتز علمي الداخلي بفعل ظروف باعدت بيني وبين سهولة العيش ، لم أستطع فهمه  ، بل على الأغلب أسأت فهمه . فقد كان يمارس عمله بالبحث عن النفايات عما يستطيع العيش منه . لا يريد أن يكون متسولا . أما أنا فلم أر غير منظره الخارجي ، ولم أنتظر أن يسأل يد المساعدة ، كان قراري تصرفي …. ولكني اليوم عندما أراه وقد أصبح جسده يقارب الأرض انحناء . وعلى راسه بعض من شعيرات ما زالت تكتسي بلون الحنة ، حاملا كيسا يزداد حجما واتساعا ، أرى سياج الكبرياء يحيط به ويعطيه أوضح مرآة يرى بها روحه المليئة بالقناعة والرضا ، عندها أقول له معذرة يا صديقي ، فلقد فهمت معنى الاغتسال بماء المطر .

البحـــــــــــــــــــــــــــــــــث

هذا الذي لا أعرف حقيقته بدايته . لا أبحث عنه اليوم في ثنايا الذاكرة ، فالأحداث المليئة بالود الوجوه ، أشجار الليمون ، البرتقال ، الياسمين ، المياه ، الصباحات ، المساءات . الأشياء كلها متواجدة في ربيعها  صيفها  شتاءها  خريفها. فعندما نجوب الشوارع مشيا، ونحن البعيدون كل البعد  مما اصطلح على تسميته الحدود الجغرافية من ذاك البيت الدمشقي ” سوق ساروجه ”  الذي امتدت اليه يد التنظيم السلبي لتشيد على أرض دياره لوحاته مياهه أحاديثه ضحكاته همساته مساءاته وصباحاته …. شارعا يتيما بلا أم بلا أب . ذاك الشارع ربما تحنو عليه في بعض الأحيان جذور أشجار الياسمين ، ولكن ! جذور الياسمين في أي مكان وأي زمان تقول لي بلغة لا أستطيع أن أفك حروفها لأكتبها لكم؟ …. ولكن المعاني تعرفها وأعرفها أنا …. قالت لي يوما وأنا الأمس شجرة ياسمين في منعطف ما …. ان قاماتي وان امتدت لداخل الأرض ،فما زلنا على حالنا نصحو معا ، نفرد أزهارنا على أرض تلك الديار المتوهجة بنفس الألوان الأبيض الأصفر الليلكي …. على تلك الأرض غير المرئية الا العيون التي تعرف تماما كيف لا تنتهي الأشياء .، هي فقط   تغير أبوابها لحين وأدوارها لحين… ولكن الأدراج… هي معنا، ليكون درب العودة درب البداية مضاء بهذا الذي لا أعرف حقيقة بدايته . فعندما تمتد يدي لتمشط شعري، تمتد يد خالتيعبر مااصطلح على تسميته  المسافات لتساعدني قليلا ، لتقول لي : لا يا صغيرتي فهذه التسريحة أجمل على وجهك ، دعي جبينك يرى الصباح والمساء أيضا . لا تدعي الشعر يحجب عنه نور الشمس . في تلك اللحظة أرى شعري القصير وقد تطاول ليعود الى تلك الأرض الذي كانت فيه ضفائري الطويلة الحمراء تنتقل بيني وبينهم . هي لي هي لهم . هي جزء من التسلقات ، من الأدراج التي بيننا .

تصحو خالتي يوما ، تمسك الأمشاط ، الدبابيس ، كاسا من الماء. أفرح لندائها  ،تمسك ضفائري ، تفردها ، تمشطها . لماذا ذهبت رائحة الغار(1) من شعرك ؟  لعل على جدتك الحمام المقبل أن تزيد كمية الطرابة(2) المعطرة ….تهمس لي ألا ترين ؟ لقد أحضرت اليوم مشط جهاز جدتك الموشح بالأحجار الملونة … أطلب منها أن أمسكه قليلا ، لا ترفض . أمسكه لا بل هو الذي يمسك بيدي ليقول لي …أنظري جدتك ، ها هي قادمة من السوق تعبة مستاءة . ما بك يا جدتي ؟ … هذا بائع الخضروات الذي من سوق الهال(3) … قال لي اليوم : ما رأيك يا ام صبري ” أن تضعي ما عندك من جبن على ما عندي من خبز(4) ، ” ! . لماذا أنت غاضبة الى هذا الحد  ؟ لعله معجب بك يا جدتي ؟ فأنت ما تزالين على جمالك . لا يا صغيرتي فالذي أغاظني أن من عندي الجبن ومن عنده الخبز . هو يدرك تماما من أنا ابنة سعيد آغا ذاك الفارس الجميل الثري …. كان الميدان يهتز حتى من جراء ذكر اسمه.

(1)    الغار : صابون مصنوع من ورق الغار تشتهر به حلب الشهباء

(2)    الطرابة : اسمها يدل عليها ، ولكنها ممزوجة برائحة الطيب . كانت عند الحمام تذاب بالماء ثم توضع على الشعر بآخر مراحله. أو كانت توضع بين الملابس لإضفاء رائحة طيبة  عليها .

(3)    سوق الهال : سوق خضار اسمه مستمد من اللغة الفرنسية .

(4)    اصطلاح قديم اختصار للفروق الطبقية .

­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­أنظري نظري له في هذه الصورة ، يقف والتابع من ورائه . أبي يا أبي كان يتيما من جهة الأب والأم. رباه عمه الذي عقد صرته على صرة أمي . أمي لم تكن جميلة ولكنها كانت على خلق رفيع … ولكن يا جدتي أنت تشبهين والدك …….

زواج جدتي

أبي خلق محبا للجمال …….. لذلك لم يشأ أن نتزوج أي زواج . في ذاك الزمن كنا قد فاتنا قطار الزواج … ولكن أبي كان كريما علينا ، لا نشعر بالملل فالحفلات كانت تقام في بيتنا…. عندما تزوج أخي جاءت الراقصات.. المغنيات .. ولو ترين كم كان أبي سعيدا بوجودهن ….. ولكنه في الصباح عندما عرف بيت الشعر الذي ألقته زوجة أخي لأخي طارت أفراحه كلها … ( بيت الشعر يقول : هيم هيم يا شيخ البكري ، هيم هيم عوامه بقطري ، يجعل قبرك حليب مغلي ).

في ذاك الزمان كان على العروس أن تظهر أنها مطلعة مثقفة بحفظها بعض أبيات الشعر ، تلقيها للعريس في ليلة العرس . وأنت يا جدتي ماذا قلت لجدي في يوم عرسكما ؟ ماذا أقول له؟ أم ماذا قالت الأيام له ولنا ؟ . خذي القصة من بدايتها … كانت ثمة علاقة عمل بين أبي وجدك وأخيه … وعرفانا بجميل ابي ، أرسل له جدك سلة من التفاح تفاح الزبداني يا أيتها الورود ، طبقة تفاح ، طبقة ورد ،يا سلة التفاح ، تفاح الزبداني ، يا أيتها الورود …. ما فعلتم بجدي…. صمت أياما طويلة ولا يقطع  صمته وشروده الا النظرة المتأملة لتلك السلة…. جاء يوما ، قال لنا : تجملن بأحسن ما عندكن ، فاليوم سنزور بيت صبحي في سوق ساروجه . في هذا البيت تمازجت العائلتان …. الميدان بجذوره الدمشقية  ، سوق ساروجه بتطوراتها حتى انه كان يطلق عليها باريس دمشق … الجهاز هذا الذي ترين في كل البيت هو جهازنا ….. ذاك الجهاز الذي أصر أبي على أن لا يكون جهاز مثله … على تحمل كافة نفقاته ، كان جميلا وما زال …. المشط بيدك يا صغيرتي . أنظري الى أحجاره ، الى براعة صنعه ، كل ما في البيت لا يجرؤ الزمن أن يضع بصماته عليه. ولكن يا جدتي لماذا هذا الاحمرار الثاني على وجهك ؟… اني أخاف عليك . اهدئي اهدئي …. كيف أهدأ وما تزال الصور ماثلة أمامي … قال لي أبي يوما : تعالي يا وديعة … في هذه الخزنة طاستان مليئتان بالليرات الذهبية هي ثمن الجهاز . رأيتهم بعيني ، لمستهم بيدي … في تلك الليلة غاب الصباح عن الوجود فقد غاب أبي . ذبل أبي . غاب الصباح  ذبلت ورود سلة التفاح .

أصر أخي على موقفه . حزنت امي يا صغيرتي وما ان تحزن الأمهات حتى يحزن معنى العطاء من السكون . الأشجار  السماء  الأقمار  الجبال  والسهول تتلون  تتمازج بذاك الحزن . فالمعاني الحقيقية تدافع عن ذاتها بذاتها …. لذلك ترين بعضا من الناس الذين لايحفلون بمشارع غيرهم ، قد يصبحون سجناء أنفسهم، فهم في زنزانتهم وبيدهم مفاتيحها ولكنهم لا يستطيعون فتح أبوابها… وما من صعوبة تضاهي صعوبة ان يكون الانسان اسيرا لدى ذاته .

كان يوم العرس تائها بلا أبي . أما اليوم الذي أعقب العرس فهو اليوم الذي جعل أيامنا تتوه لسنين … قرع الباب… وفستان العرس مازال متمايلا على تلك الكنبة … لنعلم أن الذي جاء هم الدائنون . فقد رهن جدك البيت ليدفع ثمن الجهاز …. يا جهازا جميلا ماذا فعلت بنا وبهم ؟ … تمهل أيها الزوج فلن تتخلى عن دارك عن دارنا . لدينا أملاك ، تلك الأملاك أخذنا نصيبنا منها لسنوات قادمة فاستطعنا أن نحرر بيتنا من رهن الدائنين .

لكن يا صغيرتي ، ما ان بدأنا نتلمس أمور حياتنا الداخلية ببعض من طمأنينة .تراءى للحياة أن مشوارا آخر علينا أن نعيشه بكل تفاصيله واحزانه .

جمال باشا

كانت بلادنا بلاد الشام خاضعة لحكم الدولة العثمانية ، وكان جدك – ذوالأصول التركية  –  موظفا لديها . ولأنه المولع المتقن للخط العربي ، كان  الخطاط الذي يكتب المراسيم العثمانية المهمة . وعندما طلب منه أن يخط المرسوم القاضي بإعدام خيرة شباب الشام ، وهو الذي يصدح داخله بموسيقى الزهد يترأف بالنملة فيحيد عن طريقها .رفض التوقيع ، بل رفض الوضع برمته . أعدم أبناؤنا إخواننا الشهداء ، هؤلاء الشهداء ، دخلوا منازلنا، أمسكوا بأحاديثنا، تلونت أيامنا بهم ،جاء الربيع مثقلا برائحتهم … كان الحزن وكان الجوع أيضا. أما هو فلم يستطع الاستمرار .

انتقال جدي

جاءني يوما وحاله حال كل المتصوفين أمثاله الذين يعرفون تماما متى تأتي لحظتهم ، فيتوهجون ، يتألقون ، كأن موسيقى الكون تأتيهم من أعماق السماء، فيتآلفون معها للدرجة التي يستعجلون معها لحظة الانطلاق .

هذه الأيام الثلاثة التي قضاها في فراشه ، لم يكن يوما بمثل هذا الجمال ، التوهج والتألق ، عيونه اتسعت من الرضا ، أصبحت بحراشائعا لا أعرف منأينأتت مياهه .

أمسك بيدي لننزل هذا البحر سويا، أراد أن أفهم تماما حكمة تلك الموجات المتتابعة . وها أنت  معي موجة من ذاك البحر . ثلاثة أيام ، جاءت الدنيا اليه بماضيها بحاضرها . بالكائنات التي اعتدنا على تسميتها الكائنات الحية وبتلك الأخرى التي أيضا اعتدنا على معرفتهابأنها لا تمتلك الحياة ، فأنا يا صغيرتي مازلت لاأعرف تماما ما الفرق بينهما، ان كان هنالك من فرق حقيقي ، مخطوطاته كانت تنظر اليه من على الجدران ، وأيضا من داخل الدواليب . بعضها جاء يسأله ضما والبعض الآخر سكونا . ثمة مخطوطات ذاب حبرها شوقا ليديه التي ابتدأت تسير درب العودة . الفصول استعجلت مواسمها . فتركت المنازل وتحررت من منطق الزمن ، فهذا الشتاء الذي سقى وجهه بأمطار متلونة متلألئة، أراد أن يخبره عن كل الشتاءات التي مضت والتي سوف تأتي. هذا الشتاء امتدت يده للشمس كقيثارة متوازنة متماسكة الأوتار . تسمعه أحاديث الكون الصامتة تلك الأحاديث التي لا تنتهي . فالأشياء الواضحة التي نعتقد أنها صحيحة  ، تكون في بعض الأحيان غير صحيحة ، فيما تكون الأشياء غير المنتظرة صحيحة أحيانا …….تذكري هذا الكلام جيدا يا بنيتي .

تركت شعري مع خالتي وأسرعت الى تلك الغرفة التي بها صورة جدي . تتبعني بها نظراته أينما تحركت ، بكيت افتقادي لجدي .

مقامات الأولياء

في طريقي الى المدرسة  أمر على مقامات الأولياء ، أضيء شمعة ،أضع فرنكا ( الفرنك عملة سورية من أصغر الوحدات ) …. فأستعيد جدي لحين ، أقول لحين لأني كثيرا ما أضعت جدي . فعندما كان يأتي دورنا لإقامة الحفلة الشهرية ، حسب العادة المتبعة في الحارة . ويبدأ العزف والغناء بأصوات أعلى من المعتاد ، كان حديث الصمت ينقطع بيننا ، بدايات الأشياء، نهايات الأشياء ، لا تعني شيئا بل هي الاستمرارية المتألقة لبذور تمتلك السر بوجود لا ينتهي .

قولي لخالتك أن تطيل تنورتك ولو قليلا ، فأنت قد بدأت تكبرين سريعا يا حلوة . هكذا قال لي صاحب الدكان الذي على باب حارتنا ولكن هل كبرت حقا ؟ . رجعت مسرعة لأمي  لجدتي  لخالاتي  أقص عليهم ما قيل لي …. كانت المداعبات ، الضحكات ، وكان الاصرار على أن تظل تنانيري الأجمل والأقصر في الحارة .

العدوان الثلاثي

زمن قصير ، يفصل بين هذا الحديث وذاك الحدث الراسخ ( العدوان الثلاثي على مصر العربية 1956 ) شعرت بذاتي قد كبرت .  أقف أمام البائع أسمع الأناشيد ، الله أكبر ألله أكبر والله زمن يا سلاحي. أسمعها مثلما يسمعها ، أشعر مثلما يشعر . لم  يعد يهمه ان طالت تنانيري أم قصرت .

امتدت المساحات .زالت الأبواب ، أصبح بيتنا هو الحارة والحارة هي بيتنا . موسيقى صحون الفول أصبحت هادئة متوازنة . فذاك  الضجيج الذي كان يسمع كل صباح عبر الطلبات الجائعة المستعجلة أفسح المجال لأصوات الراديو  ينبئ بالأخبار عما يجري في مصر ( بضع من الغارات على مدينة دمشق ) في ذاك الزمن استعدت جدي، ولم أعد بحاجة للتحديق بصورته، فلقد كان الهواء مشبعا نديا به …

يا جدي …. يا ماستي ….

وتلك التسميات الماضي الحاضر المستقبل ما هي ؟  وكيف علينا أن نفهمها أولا ، لنتحقق من أنها للماضي الذي لا يعود ؟ أم أنها للمستقبل الآتي سواء أكنا شاهدين عليه من قرب أو بعد . ما زالت يد خالتي تمسك بيدي ونحن  نأخذ موقفا لنا بين الجموع التي جاءت للاحتفال معا بعيد الوحدة ( 1958 ) . عبد الناصر يا رمانة ، دمشق فتحت كل الخزائن ،ارتدت أجمل الأثواب …. سألت خالتي ما معنى كلمة الشعب ؟ ألسنا نحن الشعب الذي يتحدثون عنه ؟نعم قالت خالتي …… قلت لها : أيأننانحن نستطيع أن نقرر أن نحتفل أو لانحتفل . لست بالمعجبة بهذه الاحتفالات التي تخسرنا الكثير من دروسنا ؟.

 

جمال عبد الناصر

لم تحب خالتي المفتونة بالزهور والاضواء ذاك الذي لم يمس جمال عبد الناصر الذي نما حبي له بعدما سمعت جدتي تروي تلك القصة :

ان قريبات جدتي اللواتي ينتمين الى عائلات الشام العريقة قد تضررن بفعل التأميم الزراعي . فقد قررن الذهاب الى قصر الضيافة حيث يقيم جمال عبد الناصر لتقديم شكوى . وأثناء وقوفهن خارجا بانتظاره مر الرئيس ليشاهدهن . تأثر جدا من هذا الموقف فدعاهن الى تناول الغداء معه . كانت البساطة تتجلى في الحديث والطعام مما دعا أولئك السيدات للاقتناع بجمال عبد الناصر ونزاهته واخلاصه . وان لم يقتنعن بجدوى التأميم ؟.  وكما قيل ” ليست الموسيقى التي تؤلف ، وانما الموسيقار نفسه ” . لعل الأجمل يظل مستعصيا عن الافصاح .

يا خالتي اتركي يدي

فهذا النغم الذي يسري يرفعني عن الأرض . وها أنا أقف على تلة واسعة مشرقة، أرى فيها الوطن العربي بامتداداته . تعرفت على ذلك الاحساس الواسع بالانتماء نحن معا أنا عربية أنت عربية أنت عربي …. ستكون لنا بوابات تحمينا من التدخل والفقر والجهل … كان فرحي فرح طفلة ، أما حزني فكان حزن امرأة .

كان فرحي فرح طفلة ما يزال طوق الياسمين ينتظرها كل صباح . أما حزني فحزن امرأة لم تغادر تلك التلة بعد . فلقد أحببت أن  أقف عليها يحيط بي أطفالي . ولكن قشرة الرمان لم تقو على احتواء حباتها .

وكم قيل لي كفي يا امرأة عن ارضاع طفلك حليبا ممزوجا بهذا الكم من القهر والحزن . اصفح عني يا صغيري . اصفح عني ذاك الطعم  الذي تذوقته ولسوف يأتي يوم تعرف فيه مثلما عرفت أن الوطن هو أيضا ابن وأم وأب…… وآه…. أه….. يا جدي .

 

أم العبد …

مدينة لك يا ندى  ، مدينة أنا للبامية ( البعل ) . ( البعل : الخضروات التي تعتمد في ريها على مياه الأمطار فقط . وهي تعني أنها الأفضل ) .

دقت على بابي طفلة لا تتجاوز السابعة من عمرها… اسمي ندى، أرجوك أن تشتري هذه البامية  ، انها بامية بعل . هي لحظات من الحوار . كانت خلالها ندى في منزلي تصدر أوامرها لأطفالي  وتعدهم باللعب خارجا اذا ما نفذوا أوامرها . هي  ساعات لاحقا . كانت عائلة ندى عائلة أم العبد فقد انتقلت للسكن في منزل لنا صغير مجاور لمنزلنا ( كنا نسكن مزرعة ). عائلة فلسطينية من  نور شمس أم العبد ابو العبد نهى ندى تهاني تغريد العبد محمد محمود نصر ناصر زوجة العبد اولاد العبد . …….

كان الصباح جميلا بهم أصوات فرحة متألقة ، حركة لا تنتهي … حبال طويلة تمتد بين الاشجار لنشر غسيلا متوهجا بالنظافة . ندى تنتقل بيني وبينهم الى أن جاءت عصرا ، تدعوني لشرب الشاي مع أم العبد . ذاك المنزل المتواضع، كيف تحول الى فراشة بيضاء بأيدي أم العبد . فرشات على الأرض مغطاة بقماش أبيض من البياض . طناجر ألومنيوم تلمع بأكثر مما أستطيع الوصف . النظافة تشع من كل شيء. الأطفال لا يدخلون بأحذيتهم. يغسلون الأيدي والأرجل خارجا .: يلتقون على الطعام بأيدي لا تعرف لغة التنافس من الحصول عليه . لو تعرفي يا أم العبد كم أعود الى منزلك هذا  عندما يجري الحديث غير المنصف. بين الذين يملكون ولا يملكون ، لأقول انني لا أجد ارستقراطية الا أرستقراطية أم العبد ، ولا أجد منزلا يمثل تلك الأرستقراطية الا منزل أم العبد. فكبرياء الروح هي التي تعكس على ما يحيط بنا ، وما تلك القصور الباذخة الا صفائح من ورق . لم تحاول ام العبد ابعاد ما تعاني من قلة الموارد ، بأحاديث عما كانت تملك في الماضي . لم تحاول اخفاء انه في تلك  الطنجرة التي تحتوي طعامهم قطعة لحم واحدة . الجذور كانت تمتلك الجذور التي جعلت لها مكانا واسعا رحبا ممتدا من فلسطين الى الأردن .

 

نهى وعنقود العنب …..

غرقنا جميعا في بحر حوادث ( 1970 ) وعندما يقع الانسان في بحر ما لا يشغل نفسه بالتفكير حول كيفية وقوعه ، انما يباشر عملية السباحة . في أثناء تلك العملية يخيل اليه انه هو الذي  يمتلك  الحق في ركوب أشرعة النجاة . هكذا نحن بحر هائج يلسعنا ، لا أستثني أحدا من التجاوزات .

تحت دالية تتدلى منها قطوف عنب رومانية الأصل ،لونها قرمزي قشرتها رقيقة الى الحد الذي يسمح بالنظر الى داخلها، جلست صباحا أحاول أن ألملم مشاعري تفكيري وأتساءل اذا كنا نحلل ونحلل ما يجري ، ونعيد للأمور خلاياها الأولية ، ألا نلتقي جميعا عند خلية المحبة ؟

قطعت تفكيري نهى، خطوات مسرعة، نظرات من  عينها لم أخبرها من قبل …..

قالت           : سنغادر هذا المكان سنغادر الآن .

قلت            : الى أين؟

قالت           : لا يهم . المهم أننا لا نريد العيش مع الأردنيين.

انتابني الخوف من أن تكمل كلاما هي بالحقيقة لا تعنيه ، وانما  هذا الضغط الواقع عليها بفعل معلومات وأحاديث أثارت الفعل ورد الفعل . انتابني الخوف أن لا أتذوق طعم الشاي بالنعنع مرة ثانية . انتابني الخوف أن يسألني أولادي عن بيت أم العبد ولا أعرف ماذا أعطيهم من جواب . انتابني الخوف أن يتسلل الغرق الى روحي  ولا أجد قطعة خشب أتمسك بها .

اقطعي لنا يا نهى قطف عنب ، فأنت أطول مني …. نظرت لي مجددا … ولكن بنظرات أعرفها وما يشبه الابتسامة على ملامح وجهها .

الآن تريدين عنبا .

نعم يا صديقتي .

أمسكت بالقطف القرمزي بين يديها ،حاولت اعطائي اياه .

قلت لها مهلا مهلا …. انظري الى حباته مليا يا نهى …. لو تناثرت حباته أيظل قطفا من العنب ؟ .

نعم نعم ، مدت لي قطف العنب ، تلاقت أيدينا لتتشابك . تمازجت دموعها بدموعي . اننا كذلك يا صديقتي ، قطوف وقطوف من العنب تتلهى ولكننا جميعا نعود الى نفس الدالية .

عبد الناصر رمانة ، تناثرت حباتها …. عبد الناصر لست للماضي ، لست للذكريات ، فما زلت للمستقبل الآتي . فانظر لذلك الطفل المصري الذي اجتاز المسافات وحيدا متجها نحو فلسطين .

لعل الذي تبدى لنا يوما أنه مأزقا لزمن طويل سيصبح مخرجا ذات يوم .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات