الورد كان شوك

04:21 صباحًا الأربعاء 10 أبريل 2024
خالد سليمان

خالد سليمان

كاتب وناقد، ،مراسل صحفي، (آجا)، تونس

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

“الورد كان شوك من عرق النبي فتّح”كان ينشدها بائع الفاكهة السريح بصوت بالغ العذوبة بنغمة محببة فيرد عليه بائع “العرق سوس” المتجول بإيقاع بديع بقرصي النحاس المحمولين في يده مصاحبا صوته الجهوري الحاد قائلا “صلي ع النبي .. صلي ع النبي تكسب”..

ثم تتعالي أصوات الباعة معلنة احتدام منافسة الإنغام والإنشاد حاملة بعض المدائح للرسول صلى الله عليه وسلم وذكر المولى عز وجل وقد يتطرق البعض لذكر الأولياء والقديسين والصالحين دون تفرقة بين الملل والنحل..فقد تسمع مسلما يمدح “أم النور” العذراء مريم البتول أو حتى القديس “مارجرجس اللي ضرب بالحربة بهدل الثعبان..واللي بفرسه وبالحربة يبرجس”..

مقر مطرانية الجيزة من الداخل … ” ماتبقى من الجيزة الجميلة

كانت الأصوات تتداخل لتصل إلى مسامعي في شرفة بيت جدي لأمي رحمهما الله في الجيزة والذي كان يحتل موقعا استراتيجيا هاما يمنحه إطلالة قريبة على ميدان الجيزة ، وشارع سعد زغلول وميدانه الصغير ، وشارع النقراشي ، غير بعيد عن شارعي الصناديلي و أحمد ماهر .. حيث تشكل تلك المساحة سوق الجيزة الكبير الذي يحتوي على كل شئ ممتدا إلى شارع المحطة ، متوازيا مع شارع البحر الأعظم و يمكنك أن تصل من خلال إمتداده إلى سوق الأحد ، ومنطقة الرقعة حيث شون الغلال وسوق العلافين جملة و(قطاعي)..


-تلك الأصوات التي كانت تدغدغ الحلم والقلب معا جعلتني أحلم منذ نعومة أظافري بتجاوز مرحلة الطفولة المبكرة لكي أنزل إلى مدينة الأحلام الصغيرة التي حلمت بإكتشافها وكنت أراقبها من الشرفة وشبابيك بيت جدي والجيران بشغف فعلى اليمين واليسار جوامع ومساجد وزوايا صغيرة..فيما يطل شباك شقة جارنا “عمو عزيز” على “مدرسة الأحد” ، وعلى مرمى حجر في ميدان الجيزة “جمعية ومسجد الإستقامة” الشهير ب”جامع السنية” وغير بعيد عنه في شارع مراد بطريركية الجيزة،لأنطلق في مرحلة الصبا المبكر لإعادة إكتشاف المكان عمليا كلما ذهبت لشراء الخبز (العيش) أو الجرجير أو الفول المدمس والبليلة لجدتي رحمها الله..فإكتشفت عالما جديدا ومتنوعا من الباعة وعشرات المخابز والأفران الأفرنجية والبلدية فضلا عن المحلات

منزل عبد الحميد باشا عبد الحق شقيق الفنان الممثل و الملحن الكبير عبد العظيم عبد الحق .. (جوجل)

أما عن البقالين فحدث ولا حرج بداية من “عم السني” في عمارة الهجان إلى “عم شحاته” وبجواره “سمير”،ومع إزدياد طولي سنتيمترات قليلة عرفت بقالة “المغربي” و”الأستاذ وأخيه”، وعمارة “بقلة” ، وشارع “الأباصيري” وبقالة”عم محمد أبوالعلا” ، و”سوبيا توتو” وسينما “الفنتازيو الشتوي” ،وعلى شارع ربيع الجيزي بالقرب من الميدان سينما “الفنتازيو الصيفي” بجوار محلات “السحرتي” و”أركو” و”المانش” الذي كان يملكه بطل السباحة “عبد المجيد عبده” (فيما أذكر) الذي عبر “المانش” وبجواره “فول الحرية” وكلما تقدمت نحو ميدان سعد زغلول ستجد محل إصلاح أحذية مملوك لخواجة يوناني ثم محل “بابا شارو” الساحر

أما إذا أتجهت لميدان الجيزة فستجد فرع كبير من فروع محلات “عمر أفندي” الكثيرة وبحواره حديقة المطعم والمقهى اليوناني الفريد “سان سوسي” ذو البابين الأول يطل على شارع جامعة القاهرة والثاني يطل على شارع مراد بجوار مكتبة الأهرام في نفس العمارة التي يسكن فيها صديق الطفولة والعمر “طارق سالم” الذي يحلو لي أن أناديه “طاطا بك” ، في الصبا المبكر لم أتجاوز كثيرا تلك المنطقة اللهم إلا إذا عدت مجددا للخلف إلى شارع ربيع الجيزي في إتجاه كوبري عباس حيث توجد حديقة مقابلة لمدرسة الجيزة الثانوية بنات تجاورها مدرسة صلاح الدين الأيوبي و في الجهة المقابلة لهما سوف تجد بقالة المغربي الصغيرة والأنيقة ذات السلع المميزة جدا وجاراج ضخم للسيارات كان والدي رحمه الله أحد زبائنه حيث تبيت سيارته “زوبة-البيجو 203” والتي طالما عاني من إنقطاع “سلك المارش” الخاص بها ، بجوار الجراج إن لم تخنّي الذاكرة شارع “زكريا بخنيس” الذي يصل بين شارعي ربيع الجيزي ومراد ويوجد به السنترال ومطعم “روك أند رول” للسندويتشات (الفول والطعمية والبطاطس”

فإذا تجاوزت الجراج في إتجاه الميدان سوف تجد ممر أوله “عم حسن الجزار” ثم مقهى شعبي ثم مطعم عوض الكبابجي ، وعبر الشارع سوف تجد بيت الأسيوطي الرائع والبديع والفريد من نوعه ، لكنني أفضل إعطاء ظهري لميدان الجيزة متجها إلى ناحية كوبري عباس حيث أفضل الدخول إلى مكتبة الكرنك لشراء الغاز المغامرون الخمسة التي يكتبها الأستاذ “محمود سالم” وفي المكتبة سوف تجد صاحبيها الأخ الكبير ذو الوجه الطيب الذي يحاكي الثلج بياضا “عمو فايز” وأخوه الأنيق المصفف الشعر دائما الأستاذ “مكرم” ، ولابد من التقدم قليلا نحو كوبري عباس بحثا عن أحد أخوالي في الجهة المقابلة في محل “سبرنج” بالقرب من شارع المطافي طمعا في قطعة مكرونة فرن بالبشاميل وشوب كبير من الموز باللبن ، وربما أسعدني الحظ وأصطحبني لسينما شهرزاد الصيفي المجاورة لبيت الصحفي والكاتب الشهير “أنيس منصور” على مسافة قريبة من عمارة الوزير الشهير وأمين عام الأمم المتحدة والفرنكوفونية فيما بعد “بطرس بطرس غالي”

وكان إذا أسعدني الحظ وأصطحبني أحد أخوالي إلى سينما شهرزاد الصيفي التي تنزع كراسيها في الشتاء وتتحول إلى “باتيناج” فهذا يضمن لي خلال الفرجة الطويلة على ثلاثة أفلام بالحصول على وجبة سندويتشات شهية من محل “طأطأ” المجاور للسينما مباشرة والمملوك للرجل البشوش الطيب الحاج “يحيى” ، وبعد سهرة السينما التي تنتهي بين الواحدة والواحدة والنصف صباحا يعبر ثلاثة أرباع رواد سينما شهرزاد أو على الأقل نصفهم كوبري عباس متجهين إلى منيل الروضة لشراء “الجيلاتي” الرائع من محلات “الچوكي” الذي كان يقال أن صاحبه هو شقيق النجم السينمائي الرائع “رشدي أباظة” ، وكان لابد أن يستغرق شراء “الچيلاتي” أكثر من ساعة رغم كثرة العاملين في المحل وسرعتهم بسبب إلتقاء الرواد الخارجين من سينما شهرزاد عند اول كوبري عباس من ناحية الجيزة..مع الرواد الخارجين من سينما “جرين” في الجهة المقابلة في المنيل .. ليصبح تناول “الجيلاتي” إجباريا خلال رحلة العودة إلى الجيزة عبر كوبري عباس دون تباطؤ حيث يكون الفجر قد أصبح وشيكا وتزداد إحتمالات تعرض بعض العائدين من السينما إلى اللوم أو إلى (علقة ساخنة) بسبب التأخير ..
و مع التقدم في مراحل الصبا إزدادت حلاوة مغامرات الجيزة مع الدراجة وحديقة الحيوان وقصر الثقافة وصيد السمك تحت كوبري عباس وعند بيت المانسترلي لكن لهذا حديث أخر .. فقط لقد تفتحت شرايين الذاكرة إن جاز التعبير مع تباشير ليلة القدر فإستعدت ذكريات مفقودة بسبب “مصل الكورونا اللعين”..

وحقيقة لا أدري ما الذي أعاد إلى أذني ووجداني صوت بائع الفاكهة السريح وهو يغني “الورد كان شوك من عرق النبي فتّح” قبل أن يعرض بضاعته..فيرد عليه بائع العرقسوس مغنيا مع إيقاعته النحاسية “صلي عالنبي..صلي عالنبي تكسب” .. أظنها بركة الحبيب صلى الله عليه وسلم وجاهه العظيم وسيرته العطرة في تلك الليلة المباركة .. ” الورد كان شوك من عرق النبي فتح .. صلي ع النبي .. صلي ع النبي تكسب ” .. أنا باحب النبي وأهل بيته

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات