الفنان التشكيلي صفوان الأيوبي .. الفرشاة العنيدة

08:07 صباحًا الثلاثاء 22 يناير 2013
إبراهيم المليفي

إبراهيم المليفي

كاتب من الكويت

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

من أعمال الفنان التشكيلي الكويتي صفوان الأيوبي

” أنا فنان أصارع المرض بالرسم وأفكر جديا إذا بقيت علي قيد الحياة بعمل معرض أقدم فيه رسمي ومرضي ومرحلتي هذه ” .

 من ذاك السطر استوحيت عنوان هذه الورقة ، فصفوان الأيوبي الإنسان والفنان كما رأيت وعايشت صارع المرض باستماتة وهزمه في معركة الإبداع فلم تنكسر له همة ولم تهن له عزيمة ، بل أنه أضاف لمسيرته الفنية وهو عاجز عن الحركة الطبيعية ألوانا جديدة لم يسبق له أن خاض في بحورها من قبل .

من ديمومة المعاناة وتشابك الظروف أستلهم الفنان صفوان الأيوبي خطوط لوحاته التي تجمعت في أماكن مختلفة من ذاكرته لتشكل بيئة خصبة تخلقت فيها فرشاة الفنان النهمة للتعبير عن نفسها بصورة لا تقبل التكرار أو الترديد .

حياة الفنان التشكيلي مليئة بالتنقل والترحال ، من اندونيسيا مرورا بالكويت ومنها إلى ايطاليا ثم العودة إلى الكويت ، جمع صفوان الأيوبي تحت قشرة خجله السميكة وطبعه الهادئ الرقيق ذخيرته الفنية والثقافية ورؤيته الواسعة لعوالم وثقافات مختلفة تمكن عبرها من إضافة بصمة خاصة في مسيرة حركة الفن التشكيلي في الكويت .

 طفولة صفوان الأيوبي

عاش الفنان صفوان الأيوبي طفولة غير مستقرة ذلك أن سيرته وهو صغير ارتبطت بسيرة والده الشاعر محمود شوقي الأيوبي الذي قضى ما يقارب العشرين عاما من حياته في اندونيسيا معلما أبناء ذلك البلد اللغة العربية والدين الإسلامي في مهمة شبيهة بمهمة مؤرخ الكويت الأول الشيخ عبدالعزيز الرشيد في نفس البلد لتعليم اللغة العربية ، وولد صفوانالأيوبي عام 1945 في تلك الجنة المطيرة المسماة اندونيسيا من أم اندونيسية تنحدر من أصول عربية ، وعاش هناك لمدة خمس سنوات عاد بعدها مع أسرته الكبيرة التي بلغ عدد أفرادها أثنا عشرا صبيا وبنتا إلى الكويت في رحلة شاقة .

آنذاك لم يكن في الكويت مطار فتم النزول في مطار البصرة ومنه سلكت الأسرة طريق البر وصولا للكويت ، في البدء عاشت أسرة صفوان الأيوبي  في منطقة الصالحية لمدة سنة ثم انتقلت لمنطقة الشعيبة جنوب البلاد لرغبة الوالد محمود شوقي الأيوبي للعيش في مكان يتمتع بالهدوء ، وفي الشعبية عرف صفوان الأيوبي البحر وعشقه ، وبعد ثلاث سنوات من الاستقرار النسبي انتقلت العائلة مجددا لمنطقة حولي سنة 1954م وكانت المباني فيها مصنوعة من الطين والشوارع غير مسفلتة .

يتذكر صفوان الأيوبي أن مطرا شديدا نزل على الكويت في شتاء 1956م وتسبب في تهدم المنازل ومنها منزلهم مما أضطر أفراد الأسرة للانتقال للسكن في مدرسة حولي بشكل مؤقت ، وفي عام 1958م انتهت معاناة صفوان الأيوبي وأسرته من حالة التنقل بعد حصولهم على منزل في منطقة كيفان ونظرا لعدم وجود مدارس في منطقة كيفان فقد درس في مدرسة الشامية وكان في السنة الثانية من المرحلة  المتوسط .

وحكايته صفوان الأيوبي مع الفن بدأت منذ الصغر حيث كانت رسوماته تلفت نظر مدرس التربية الفنية الذي نصحه بالالتحاق بمعهد المعلمين ودراسة الفن وهذا ما كان ، كان صفوان الأيوبي ضمن الدفعة الأولى التي قبلت في معهد المعلمين عام 1966 وكان قوامها 130 طالبا ، وقد تخصص في الرسم ، وبعد تخرجه مارس صفوان الأيوبي مهمة التدريس في مدرسة ” الخالدية ” الابتدائية لمدة سنة ثم أنتقل لمدرسة أخرى لمدة خمس سنوات وبعدها قرر الانتقال لمرحلة جديدة في مسيرته الفنية والدراسية وهي الدراسة في ايطاليا .

 قفزة روما

حمل صفوان الأيوبي معه تطلعاته وتحدياته ورفيقة دربه السيدة أسماء الخميس ” أم سالم ” وطفله الرضيع ” سالم ” وذهب بهم إلى ايطاليا للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في روما ، التحدي الأول الذي اجتازه صفوان الأيوبي هو كسر حاجز اللغة الإيطالية التي تمكن من تعلمها وإتقانها وقبل ذلك كانت حياته تسير بصعوبة بالغة لأن الشعب الإيطالي يعتز بلغته ولا يتحدث اللغة الإنجليزية ، التحدي الثاني هو مواجهة مصاريف الدراسة والمعيشة وهذه ساهمت فيها ” أم سالم ” بشكل كبير عندما عملت في السفارة الكويتية في روما وكان ذلك حساب الصغير ” سالم ” الذي لم يجد والداه الوقت الكافي للاهتمام به لفترة من الزمن .

أكثر ما يلفت النظر في ” القفزة ” التي أقدم عليها صفوان الأيوبي في مسيرته التعليمية والفنية هي المكان أو البلد الذي اختاره لاستكمال دراسته الجامعية ، إذ لم يسلك الطرق المألوفة وهي الدراسة في أحد العواصم العربية أو الأجنبية التي تلقى قبولا كبيرا لدى الطلبة الكويتيين ، لكنه أختار الدراسة في روما ليكون أول كويتي يدرس هناك وعلى نفقته الخاصة من الألف حتى الياء ، تلك الرحلة كانت حدثا نادرا وبعض الصحف والمجلات الكويتية أجرت مع صفوان الأيوبي وزوجته عدة لقاءات واحدة منها تمت في روما .

قبل عودته للكويت وفي سنة التخرج عام 1975 أقام صفوان الأيوبي أول معرض فردي له في روما بدعم من وزارة الإعلام بدولة الكويت تحت رعاية سفير الكويت آنذاك محمد زيد الحربش ، ويصف لي المرحوم صفوان الأيوبي حجم الإقبال الكبير على معرضه ومدى اتساع شريحة المهتمين بالرسم والفنون بشكل عام ، خاصة وأن أعماله الفنية تأتي من فرشاة غير ايطالية وهذا ما أثار فضول الجمهور المهتم لمعرفة الجديد الذي سيقدمه ذلك الفنان القادم من البيئة الشرقية ، وقد فوجيء صفوان الأيوبي برغبة أحد عمال السفارة الكويتية في روما وهو ايطالي برغبته في شراء أحد لوحاته وقد اشتراها بالفعل وبالسعر الذي حدده لها .

وقد ذكر لي هذه القصة جوابا على سؤالي لماذا بقي كفنان لا يقيم أية معارض فنية لفترة طويلة حتى عام 1995 أي بعد عشرين سنة من معرضه الأول في روما ، وأضاف أنه صدم من ضعف الإقبال الرسمي والشعبي على معرض جماعي أقيم عام 1976م شارك هو فيه بخمسة لوحات ، وأخذ يقارن بين معرضه الأول في روما والمعرض الذي شارك فيه بالكويت ، ومنذ الحين قرر التوقف عن الرسم احتجاجا على ذلك التجاهل .

دراسة الفن في روما أثرت على نظرة صفوان الأيوبي للحياة ، يقول ” لقد أعطيت الكثير من صبري وتعبي للفن … أصبحت أقيس كل شيء بميزان الفن والجمال وبما يقدمه للإنسانية ، حياتي في روما جعلتني أحس بآدميتي وإنسانيتي وأن لكل شيء قيمة حتى الفراغ له قيمة ” .

بعد انتهاء دراسته الجامعية في روما ، عاد صفوان الأيوبي للكويت وعمل مدرسا لمدة خمس سنوات وأصبح بعدها موجها تربويا في التربية الفنية ، وقد رزقه الله بثلاثة أبناء بعد ” سالم ” الذي أنتقل الى رحمة الله وهو صغير السن هم ” منوه وسالم وزكية ” .

 فرشاة تعلن عن نفسها

حظي معرض الفنان صفوان الأيوبي الشخصي في صالة بوشهري عام 1995 بنجاح كبير جعله يتجاوز تجربته السابقة مع معرض عام 1976م ، والفضل كما يذكر صفوان الأيوبي في مقابلة صحفية يعود للتشجيع والاستفزاز المستمر الذي مارسه عليه الناقد جهاد أيوب الذي أكد لصفوان الأيوبي أن الجمهور سيستقبل تجربته الفنية بصورة جيدة وسوف تعتبر نقطة تحول في الحركة التشكيلية الكويتية ، ذلك النجاح شجعه على إقامة معرضه الثاني 1997م في صالة الفنون الجميلة بضاحية عبدالله السالم والذي حقق هو الآخر نجاحا كبيرا .

وسبق للفنان صفوان الأيوبي أن شارك بمجموعة من المعارض الفنية داخل وخارج الكويت ، مثل المعرض الجماعي في مهرجان محرس في تونس ( 1992م ) ، بينالي القاهرة ( 1992م ) ، معرض فترينات من القرن العشرين للفن العالمي المعاصر في فلورنسا ( 1994م ) ، مثل دولة الكويت في بينالي بنجلاديش ( 1994م ) ، الإسبوع الثقافي الكويتي في لبنان ( 1996م ) ، وحاز على الدانة الذهبية بمعرض 25 فبراير الذي تقيمه الجمعية التشكيلية لدول مجلس التعاون الخليجي ، وحرصت مجموعة من الجهات الرسمية والشخصيات العامة على اقتناء لوحات الفنان صفوان الأيوبي .

 مشاهد ثلاثة لا تنسى

الفرشاة العنيدة أبت إلا أن تواصل حياتها ووظيفتها حتى اللحظة الأخيرة ، لقد لامست عناد صفوان الأيوبي في ثلاثة مشاهد لا يمكن أن تنسى ، الأولى في حفل زفافي على أبنته عندما أصر على الوقوف بجانبي لمدة ثلاث ساعات وأكثر وهو متكأ على عصاه بكل صلابة حتى ظن أقرب المقربين أنه أستعاد عافيته ولكنه في الحقيقة رفض الانسحاب من ذلك المشهد الذي ينتظره كل أب سعيد بزفاف أحد أبنائه .

المشهد الثاني هو ذهابه بالكرسي المتحرك لأداء مناسك الحج قبل وفاته بعام تقريبا وهو على يقين أنه سيواجه الكثير من المتاعب ، إلا أنه أستشهد بمن هم في حالة صحية أصعب منه ولم يتراجعوا عن الذهاب لبيت الله .

المشهد الثالث والأخير هو المداومة على الرسم والتكيف مع الأوضاع الجديدة ، فبعد أن فقد صفوان الأيوبي القدرة على الوقوف الطويل والتحكم بأطرافه بصورة فعالة ، ناهيك عن الآلام التي يشعر فيها في الرقبة والظهر والمفاصل ، وجد الحل في الرسم وهو جالس على الأريكة ليلبي رغبته العارمة في الرسم ونسيان حالته الصحية .

تلك النافذة الصغيرة أتاحت لصفوان الأيوبي التنفس بعمق وفتحت أبواب الحرية والإنعتاق للكثير من اللوحات والتجارب الفنية الجديدة كي تخرج من محبسها وتنطلق في سماء الإبداع ، وفعلا دخل صفوان الأيوبي عالم فن ” الأكرليك ” الذي يعتبر جديدا عليه ووصل لمرحلة رسم الإيقاعات الراقصة والكلاسيكية عبر صدى اللحن ، وقد تسنى لي مشاهدة ولادة العشرات من اللوحات الجديدة والاطلاع على الجديد القادم وهو في مرحلة التشكل

وقد أنجز صفوان الأيوبي وهو جالس أكثر من مائة لوحة من الحجم الصغير ، قسم كبير منها لم يعرض من قبل ، وهي جميعها محفوظة في مكان مخصص لها في منزله .

 المرض والتحدي

بعد أن أصيب صفوان الأيوبي بنوع من عدم الاتزان في حركته وشعر أن حالته الصحية في تدهور مستمر ، بدأ بعرض حالته على الأطباء ورغم سوء حالته فقد كان قرار وزارة الصحة الذي أرسل لوزارة التربية حيث يعمل مدرسا فيها هو أن صفوان الأيوبي قادر على العمل ولا يشكو من شيء !!! علما بأنه في تلك المرحلة أصبح عاجزا عن قيادة السيارة أو السير على قدميه دون استعمال العصا ، ومما زاد في تدهور حالته النفسية هو تضمن تقرير وزارة الصحة لفرية كبيرة هي أن الحالة التي يعاني منها ناتجة عن ” السكر ” وهو الإنسان المشهود له بأنه لم يعاقر المسكرات في حياته .

وعلى اثر ذلك القرار عوقب صفوان الأيوبي بتغيير درجته الوظيفية من مدرس إلى سكرتير داخل المدرسة التي يعمل فيها !!! ما أدى إلى خسارته للمكافآت والعلاوات التشجيعية التي كان يتمتع بها ، وأمام هذا الإجراء الجائر قدم صفوان الأيوبي استقالته من وزارة التربية قبل صدور قرار تحويله لسكرتير بيوم واحد .

وأضطر صفوان الأيوبي للسفر من أجل العلاج خارج الكويت على نفقته الخاصة برفقة زوجته ” أم سالم ” ، وتوجها إلى ألمانيا وهناك أجمع الأطباء على أن ما يعاني منه هو ضمور في المخيخ وهذا حالة نادرة حيث يصيب هذا المرض عادة كبار السن وليس ممن هم في عمر صفوان الأيوبي ، وقد نصح الأطباء صفوان الأيوبي بالسفر إلى سلوفاكيا للعلاج الطبيعي ، وذهب إلى هناك لمدة شهر ثم عاد إلى الكويت وبقي فترة من الزمن ثم سافر إلى فرنسا حيث يوجد هناك مستشفى متخصص في بأمراض المخ والأعصاب ، وفي ذلك المستشفى أجريت دراسة وتحاليل شاملة حددت وجود التهابات في القشرة الخارجية للمخ وجرثومة ، وخلاصة تلك الرحلات العلاجية منذ منتصف التسعينات وحتى وفاة صفوان الأيوبي هي عدم وجود علاج يكفل شفائه أو يوقف تفاقم حالته عند معين .

في الشهر الأخير من عام 2000 وفي الذكرى السنوية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان كانت لصفوان الأيوبي مساهمة نبيلة عكست تقديره للقضايا الإنسانية ودعمه لأي مجهود يخدم تلك القضايا ، طلبت منه كوني أحد أعضاء اللجنة المنظمة لحفل خيري تنظمه الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان لوحة من لوحاته لبيعها في مزاد سيقام ضمن فقرات يوم الاحتفال ، ولم يمض وقت طويل حتى أختار لي لوحة من أعز لوحاته وأعطاني إياها .

الشيء الجميل الذي أدخل البهجة في قلب صفوان الأيوبي هو أن لوحته حصدت مبلغا كبيرا هو أربعة آلاف دينار كويتي ، والشيء الثاني هو أن تلك اللوحة كانت من نصيب الراحل الأستاذ جاسم القطامي رئيس الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان آنذاك .

 الليلة الأخيرة والكلمات الاخيرة

 الليلة الأخيرة في حياة صفوان الأيوبي لم يكن فيها شيء مختلف عن بقية الليالي السابقة ، زوجته وأبنائه ملتفون من حوله في صالة المنزل وحفيدته ” أبنتي ” التي أتمت عامها الأول “حصة ” تلعب بالقرب منه ، شيء واحد أختلف هو أن الجميع ذهب للنوم إلا أنا وهو ودون أن أعلم أنها الليلة الأخيرة بقيت معه لمشاهدة فيلم أجنبي حتى نهايته هو ” صمت الحملان ” الذي سبق لصفوان الأيوبي أن شاهده وأعجب فيه وقد تكفل بتحفيزي لمشاهدة ذلك الفيلم وإعطائي شرح واف عن شخصية الدكتور “ هانيبال ” ، بعد نهاية الفيلم بعد منتصف الليل توجهت لمنزلي لأبيت في فراشي وبعد خمس ساعات أيقظنا هاتف القدر المحتوم ليبلغنا أن والد زوجتي الفنان صفوان الأيوبي أنتقل إلى رحمة الله بتاريخ 3 مارس 2002م .

 وأختم هذه الورقة بكلمات قالها الفنان صفوان الأيوبي في إحدى لقاءاته الصحافية ” الفنان الصادق يعمل دون أن يطالع حوله ، المتواجدون الآن على الساحة الكويتية يتكلمون أكثر مما يفعلون ،،، الفن حالة إبداعية لا بد لصاحبها أن يعيشها بحرفنة وعلم وحب ،،، الفن لا يحب الشريك ومرضي شريك فني “

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات