الثقافة في صلب المشروع المجتمعي: التجربة الكويتية

08:00 مساءً الأحد 10 مارس 2013
د. هشام العلوي

د. هشام العلوي

باحث من المغرب

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

ملتقى مجلة العربي الثاني عشر: مشروع ثقافي حي، لمجلة رائدة

نادرا ما تُسخر الثروة في خدمة الفكر والمعرفة، وقلة هي الأقطار العربية التي جعلت الثقافة من ضمن المجالات ذات الأولوية الجديرة باستثمار منافع النمو الاقتصادي، وعائدات الثروات الطبيعية والمعدنية التي تزخر بها.

 والحاصل، أن دولة الكويت، وهي البلد البترولي بامتياز، قد شذت عن قاعدة النظر إلى الثقافة بوصفها فضلة أو ترفا يأتي بعد استيفاء الحاجيات الأساسية، واختارت منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي ( قبيل استقلالها)، أن ترسي نموذجها المجتمعي في بعديه القطري والقومي، على رهان الثقافة كرافعة للتنمية والتقدم والتحديث، فضلا عن كونه قنطرة للتلاقي والتبادل وتعميق وشائج التعاون بين بلدان وشعوب الوطن العربي الكبير.

 وهكذا انبرت الكويت، بريادة لا ينازعها فيها أحد، لوضع أسس مشروع ثقافي هيكلي ومستدام من خلال بنيات ووسائط  تروم  تطوير الإنتاج الفكري والفني العربي وإثرائه، وإشاعة ثقافة الخلق والتأمل والتنوير، واستيحاء منابع الإبداع الإنساني أياًّ كانت الحقبة التاريخية، واللغة، والملة، والجغرافيا.

 ستغطي مؤسسات “الكويت الثقافي” مختلف حقول العلم والمعرفة والفن، وستمتد أنشطتها وإصدارتها إلى باقي بلدان العالم العربي، كما وفقت طيلة عقود من الزمن في أن تغدو “أكورا” للاحتضان والتحفيز والحوار بين المثقفين والباحثين والكتاب العرب من مختلف الأطياف والتيارات الفكرية والإيديولوجية.

إن الوقوف اليوم على مسار هذه التجربة الرائدة في المنطقة العربية، وماراكمته من أرصدة وثائقية ومنجزات ثقافية وازنة، كما وكيفا، يشي بأن مشروع “الكويت الثقافي” كان يرتكز، منذ البداية وما يزال، على ثوابت ناظمة، ويكتسي بملامح راسخة  تتميز بالدينامية والتنامي.

 الوحدة، الخصوصية، الكونية

          لم تختر دولة الكويت إرساء مشروعها الثقافي داخل شرنقة الهوية القطرية أو الاكتفاء بحدود التكتلات الإقليمية (الخليج والشرق الأوسط) التي تتقاسم ودولها روابط الجوار والمصير المشترك والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية. وحرصت في المقابل على الانخراط طي أفق أوسع من خلال إبراز عمقها العروبي وانتمائها القومي فيما تصدره مؤسساتها الثقافية من مجلات ودوريات وباقي المنشورات والأعمال. بل ساهمت من جهة أخرى من الزاوية الثقافية على الأقل، وهي البلد الصغير من حيث المساحة والساكنة، في  تنزيل  حلم “الوحدة العربية” التي  لطالما تطلعت إليها الأنظمة والشعوب العربية من أقصاها إلى أقصاها على مدى عقود كاملة من القرن الماضي.

 وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى مجلة العربي بكل تنويعاتها وسلسلاتها، وهي المجلة التي دخلت كل البيوت، وخاطبت جميع الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، وجسَّد خطُّ تحريرها ومحتويات أعدادها حس الانتماء إلى واطن واحد: الوطن العربي.

هذا، وإذا كانت مجلة العربي وجريدة الفنون وإصدارات أخرى تشدد على مواطن الوجدان العربي المشترك في مختلف تجلياته اللغوية والتعبيرية والتاريخية والأنتروبولوجية، فإنها لم تنقد وراء  حماسة “القومجة” كمعتقد إيديولوجي أو برنامج شمولي تحركه نوازع الهيمنة والتوسع، ولم يستشعر القارئ العربي إزاءها أن فكرة الوحدة، التي تضعها نصب مشروعها، تفيد الأَحادية والتنميط وبالتالي ابتلاع كل أشكال التعدد الثقافي التي  تمور بها بنى المجتمعات العربية.

ألفينا في المقابل احتفاء بذاكرة الساكنة والأمكنة والخصوصيات المحلية كما تجسدها العادات والتقاليد وآداب السلوك وطرائق العيش التي تنماز بها كل منطقة على حدة من وطننا العربي الفسيح والمتنوع.

 ولا يضاهي أهميةَ هذه الصورة المتعددة والغنية التي يسعى المشروع الثقافي الكويتي إلى تقديمها عن الهوية العربية، سوى حرصه الثابت على مقاومة- مقاومة ضمنية- ثقافة الانكماش والانكفاء على الذات ورفض الآخر بدعوى التحصين والتمنيع.

فمن خلال مجموعة من المجلات والدوريات، نذكر منها خاصة مجلة “العربي” دائما، ومجلة “الثقافة العالمية” وسلسلة “إبداعات عالمية” و”المسرح العالمي”؛ تم وضع الهوية العربية في سياقها الكوني بما يقتضيه ذلك من انفتاح إيجابي على باقي الثقافات والحضارات الإنسانية، والتفاعل مع رصيدها العلمي والمعرفي والجمالي، والانخراط فيما تحيل عليه من فضائل التفكير والخلق، والتسامح والحوار،  والاختلاف والسلم.

 ولقد ظلت دولة الكويت ومؤسساتها الثقافية وفية لهذه الثوابت حتى وهي تجتاز محنة الاحتلال التي عادة ما تخلخل الكيانات القطرية وتغذي النكوص نحو الهوية الوطنية الضيقة، إذ سرعان ما بادرت الكويت، وهي بصدد صياغة تاريخها المعاصر، إلى إدماج واجب الذاكرة وعدم النسيان الذي تستلزمه هذه التجربة المريرة،  لتواصل بعد ذلك رسالتها  الحضارية تجاه الواقع الثقافي العربي.

 المأسسة، الاحتضان، الولوج إلى المعرفة

 يلاحظ أن النهوض بالثقافة في دولة الكويت الشقيقة ليس فقط شأنا من اختصاص القطاع الوزاري الوصي في إطار الهيكلة الحكومية، ولكن التنمية الثقافية تحضر باعتبارها هدفا  استراتيجيا  أفقيا حيث تتلاقى برامج وتدخلات العديد من السياسات القطاعية ( الثقافة، التعليم، البحث العلمي، الإعلام، الأوقاف)، فضلا عن بعض الجهات غير الرسمية والراعية ومنظمات المجتمع المدني، من قبيل: رابطة الأدباء في الكويت، ومؤسسة جائزة سعود البابطين للإبداع الشعري، ومؤسسات آل الصباح التي تمنح جوائز في المجال الفكري والعلمي وإبداع الشباب…وغيرها.

وحتى لا تبقى الثقافة رهينة بتوجهات الحكومات المتعاقبة أو مبادرات الأفراد والشخصيات، فقد تم إحداث آليات مؤسساتية قارة ومستقلة منذورة لخدمة هذا المأرب بما يحتاجه من ديمومة وانتظامية وموارد مالية كافية ومتجددة عبر الشراكة مع صناديق الاستثمار وعالم الأعمال، الأمر الذي ساهم بشكل ملموس في تثمين قيمة الإنتاج الثقافي على اعتبار أنه لا يقل أهمية وجدوى عن باقي الإنتاجات المادية  والأنشطة النفعية المباشرة.

وفي طليعة الآليات المؤسساتية التي اضطلعت بهذا الدور، نجد المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ومؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ومجلس النشر العلمي التابع لجامعة الكويت وغيرَها من البنيات التي تحتضن، عبر إصداراتها الجادة والمٌحَكَّمة ودعمها للإبداع والابتكار، أعمال المفكرين والدارسين والمثقفين  العرب، تأليفا وترجمة وبحثا، دون الاحتكام إلى أية قيود أو معايير خارج حرية التفكير والتعبير وقواعد العلم والفن التي يتعين الالتزام بها.

واللافت أن مشروع “الكويت الثقافي” سيسخر هذه الالتقائية بين النخب الفكرية والعلمية من جهة، والحكامة المؤسساتية والتنظيمية من جهة ثانية، وإمكانات الثروة الوطنية من جهة ثالثة، في تيسير الولوج إلى الثقافة والتكوين الذاتي ودمقرطة تداول الكتاب والدورية المتخصصة والمجلة الشاملة لفائدة شرائح واسعة ومستويات مختلفة من القراء في العالم العربي، وذلك على مدى سنوات طويلة قبل أن تتولى هذه المهمة اليوم التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال، والمبادرات العالمية الرامية إلى حرية الولوج إلى المعلومات العلمية والتقنية، والموجهة خاصة نحو دول الجنوب.

والواقع أن هذا المشروع عبر جهوده المبذولة في تعريب فتوحات العلوم وترجمة المعارف الجديدة وآداب وفنون الشعوب الأخرى، قد نجح في كسب رهان تحويل المعرفة من امتياز نخبوي يكون غالبا من نصيب المترفين من بين المتعلمين، إلى منتوج رائج في كل الأسواق، يتيح فرص التثقيف والتعلم والتذوق للجميع، خاصة وأنه يتناسب والقدرة الشرائية  للطبقات الوسطى  التي لم تبرح بعد عتبات الهشاشة والضعف في معظم بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

  تحديات جديدة

إن النموذج الثقافي والمجتمعي الذي يدافع عنه مشروع “الكويت الثقافي” بالثوابت والملامح التي وقفنا عليها سابقا، والذي يحيطه على مدى عقود من الزمن بالرعاية والدعم والاحتضان، يواجه اليوم وأكثر من أي وقت مضى تحديات كبرى متعالقة، ذات صلة بالتحولات والأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية التي يعرفها الوطن العربي والنظام العالمي بأسره في السنوات الأخيرة.

  • التحدي الأول، يكمن في قدرة هذا المشروع، بأبعاده العربية والإنسانية متعددة الروافد، على مواكبة ما تشهده المنطقة من توق إلى الحرية والديمقراطية والتغيير أو إلى المزيد منها، وإيجاد من خلال مؤسساته الفكرية والبحثية الميكانيزمات القمينة بالتحليل الهادئ والتقييم الموضوعي لهذا الحراك بما يحتاج ذلك من قوة اقتراحية وقيمة مضافة خارج المقاربات والخطابات المستهلكة حاليا؛
  • التحدي الثاني، يتعلق بمواصلة الجهود المبذولة في إطار هذا المشروع، واستعادة فلسفته وأهدافه البدئية، للنهوض والاصطفاف دائما إلى جانب ثقافة العقل والتنوير والتسامح والحداثة والإبداع والانتقال نحو مجتمع المعرفة، في ظل تنامي نزوع النكوص نحو مجتمع الدم، وتدفق لوثة التطرف والعدمية والشعبوية وكراهية الآخر في شرايين الجسد العربي عبر وسائط إعلامية وثقافية مضادة؛
  • التحدي الثالث والأخير، يستدعي، ربما، إعادة النظر في طرائق ومقاربات الاستثمار في التنمية الثقافية، وذلك بالبحث عن جسور سالكة كفيلة بتحويل الثقافة من مجرد مبادئ وقيم ومعارف متعالية إلى خبرة تداولية في صلب السلوك الفردي والمدني والحياة العامة، وذات وقع ملموس ومباشر على منظومة التنشئة التربوية والاجتماعية بما من شأنه تثمين العنصر البشري، وإتاحة فرص الارتقاء الاجتماعي أمام مواطنات ومواطني العالم العربي، خاصة الشباب منهم.         

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات