بيــن إعلامـــين (2): الحالة التونسيّة

02:11 مساءً الجمعة 7 ديسمبر 2012
خالد سليمان

خالد سليمان

كاتب وناقد، ،مراسل صحفي، (آجا)، تونس

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الحالة التونسيّة تختلف اختلافا كبيرا عن الحالة المصريّة حتّى لو تشابهت بعض التّفاصيل في كون العمل الإعلامي في شكله البدائي و التّقليدي ممثّلا في الصّحف و الإذاعات التّي بدأت خاصّة و محدودة و كانت تلك البلدان ترزح تحت نير نهاية الحكم العثماني و بداية حلول القوى الإستعماريّة العظمى آنذاك محلّ الدولة العثمانيّة و هذا ينسحب على مصر أكثر من تونس حيث التّجربة كانت أقدم و أعمق و ربّما يرجع ذلك إلى أنّ الإستعمار الفرنسي الذّي عرفته تونس كان يصاحبه غزوا ثقافيّا كاسحا على العكس من الإستعمار الإنجليزي الذّي عرفته مصر و الذّي لم يحاول التّدخّل في الشّأن الثّقافي و مقوّمات الهويّة اللهمّ إلاّ عندما تشكّل خطرا داهما عليه و كان دائما أسلوب البريطانيين هو القمع و المنع و هذا ما واجه المبدعين من أمثال العظيم سيّد درويش و قبله عبد الله النّديم خطيب الثّورة العرابيّة حيث كانت الوسائط التّي تدخل في المنظومة الإعلاميّة مختلفة آنذاك في أواخر القرن التّاسع عشر و بداية القرن المنصرم .

ـ بيد أنّ الإعلام التّونسي بشكله الحالي ينتمي إلى عصر ما بعد الإستقلال سنة 1956 أكثر منه العصر السّابق عليه , لكنّ أسلوب ” الحبيب بورقيبة ” الذّي يعدّه قطاع ساحق من التّونسيّين المؤسّس الأوّل للتّحديث في تونس وواضع حجر الأساسي لمشروع نهضتها من خلال إيمانه بقيمة العلم كان أقرب للكلاسيكيّة في التّعاطي مع شكل الإعلام الذّي يريد و مضمونه و لا شكّ أنّ سنّه المتقدّمة مقارنة بنظيره في القاهرة كان لها أثرها في ذلك .., كلّ منهما ينتهج منهج الدّكتاتور العادل و إن لم يصرّح و يرى في نفسه الأب و المخلّص لكنّ الأمر المؤكّد أنّ فارق السنّ كان له بالغ الأثر في التّعاطي مع معطيات العصر و تحدّياته.
ـ أمسك “بورقيبة ” بزمام الإعلام في يديه كأحد المفاصل الهامّة للدّولة .., و كان مغرما بالإذاعة و المسرح و قراءة الصّحف و الموسيقى و الطّرب إلى حدّ التدخّل المباشر .. ربّما اتّصل بالإذاعة عدّة مرّات في اليوم الواحد كما يروى عنه ليتدخّل فيما يبثّ أو ينتقد عملا ما .., لكنّه لم يفكّر مطلقا سوى في الدّور المحلّي للإعلام رغم إنشائه إذاعة المتوسّط محدودة القدرة و التّي وصفت بأنّه لا يسمعها إلاّ السّمك في البحر .., بينما” صوت العرب” من القاهرة يترقّبّها العالم العربي من طنجة إلى سلطنة عمان و ينتظر خطابات “ناصر” الناريّة مع شدو “أمّ كلثوم” و ” عبد الوهاب “و “فريد الأطرش” و”عبد الحليم حافظ” و غيرهم من مطربي العرب فضلا عن السّينما المصريّة و المسلسلات التّي لم تجد منافسة تذكر اللهمّ في الفترة الأخيرة و بشكل محدود حتّى يمكننا القول أنّ العالم العربي آنذاك قد استفاق خلال حقبة الإستقلال على مصر قبل أن يستفيق على نفسه.
ـ و لم يكن أمام “بورقيبة” سوى استخدام مجموعة من المثقّفين و الأساتذة لتأسيس آلته الإعلاميّة التّي كانت تكرّس لخطابه الأبوي و مفاهيمه هو فقط و التّي كان أهمّها مصطلح ” الأمّة التّونسيّة” الذّي روّج له بصرف النّظر عن مدى صدقيّته و تماشيه مع واقعه الفعلي و الذّي لا يمكن إغفال مجموعة من المعطيات المتعلّق به .., كمساحة البلاد المحدودة و عدد سكّانها القليل نسبيّا ومقوّماتها العلميّة و الحضاريّة و الإجتماعيّة إذ لا يمكن لتونس أن تنفصل عن بعدها العربي و المغاربي و الإسلامي في المقام الأوّل فضلا عن بعدها الإفريقي أيضا .., و ربّما كان ترويج الإعلام لهذا المصطلح أثره المتناقض , ففي الوقت الذّي كان يدّعي فيه نظامان متعاقبان بعد الإستقلال أنّ الشّعب التّونسي منفتحا على الآخر كان يمكن للمتابع أن يكتشف بسهولة أنّ ذلك الإدّعاء غير دقيق إذ يمكنك ملاحظة أنّ المهاجرين التوّنسيّين في أوروبا يحملون معهم عند العودة من عطلتهم السّنويّة عادات و تقاليد و سلوكا محليّا لم يتبدّل إلاّ في الظّاهر إلى حدّ أنّ عددا ليس بالقليل كان يحمل معه المواد الغذائيّة المحليّة الخاصّة بالإقليم الذّي ينتمي إليه حتّى إن وجد مثيلها في بلد المهجر .
ـ على صعيد آخر كان و مازال المنتوج الإبداعي التّونسي محدودا للغاية و لا يكفي لتغطية ساعات البثّ و بالتّالي كان المنتج المصري ثمّ اللّبناني و السّوري هو السّائد حتّى اليوم في وسائل الإعلام التّي كانت و مازالت تتبنّى خطابا متناقضا مع ما تقدّم فعلى سبيل المثال لا الحصر كانت وسائل الإعلام هذه تبثّ أغاني ” الشّيخ إمام عيسى ” المصري و ” مارسيل خليفة ” اللّبناني و”جوليا بطرس” اللّبنانيّة و كذلك قصائد الشّعراء العرب أكثر ممّا تبثّ المنتج التّونسي إن وجد و هو لم يكن متوفّرا عمليّا إلاّ من خلال ” إيقاعات الرّاب ” , و حتّى الأغنية التّي أطلق عليها ” نشيد الثّورة التّونسيّة” و التّي يقول مطلعها “محلى الثّورة التونسيّة و محلى الرّبيع ” قدّمت في قالب موسيقي “شامي” يعرف “بالمعنّا ” , في المقابل كانت الانتفاضات الأخرى في مصر و ليبيا و اليمن و سوريّة تقدّم إبداعا وليد الحدث الذّي توهّج في ميادينها و لم تلتفت إلى إبداعها الثّوري في الماضي إلاّ قليلا و على استحياء من باب “النّوستالجيا ” .
ـ على صعيد آخر لم يحاول النظّامان المتعاقبان في تونس محاولات جديّة لإمداد الميديا الخاصّة بتونس بالكوادر اللازمة من خلال إنشاء معاهد و كليّات متخصّصة اللهمّ إلاّ ” معهد الصّحافة و علوم الأخبار ” الذّي سمح النّظام “و أظنّ ذلك كان عن قصد ” بأنّ يدخله كلّ من أحظر شهادة و لو صوريّة من إحدى الصّحف أنّه عمل بها صحفيّا لمدّة عامين و لو لم تكن لديه شهادة إتمام الدّراسة الثّانويّة و ربّما دون شهادة دراسيّة أصلا و استمرّ الوضع كذلك حتّى سنة 2006 و هو ما خلق صراعا خفيّا بين من يحملون شهادات عليا و يعملون في الإعلام و نظرائهم من خرّيجي هذا المعهد الذّين يرون أنّهم متخصّصون بينما يرى أصحاب الشّهادات أنّهم أنصاف و أرباع متعلّمين .., فضلا عن أنّ النّظام سمح لكثير ممّن لا يحملون مؤهّلات من الموالين له بالدّخول إلى هذا المضمار و العمل كمذيعين و مديرين يمكنهم الوصول إلى قمّة الهرم الإعلامي و التسلّط على مقدرات الميديا بأكملها ما انفكّوا في خدمة النّظام الأمر الذّي سمح بتكوين مافيا تغلغلت و يصعب التخلّص منها في المدى القريب إلى حدّ الإستحالة .., و إذا كان نظام ” بورقيبة ” يؤمن بمشروع ثقافي و لو كان موجّها ..فقد كان نظام خلفه “بن علي ” أقرب إلى اللامشروع سوى تسطيح كلّ شيء حتّى اتّسع الخرق على الرّاتق , و قد يقول قائل كيف ذلك و هناك من الكوادر التّونسيّة من يعمل في الميديا العربيّة و الدوليّة و يتناسى أنّ هؤلاء نتاج المشروع التّعليمي البورقيبي و تمّ صقلهم خارج البلاد بعد أن أصبحوا طريدو نظام ” بن علي ” الذّي لم يكن يتحمّل وجود كلّ من يمتلك قدرا من الموهبة أو الاستعداد للتّعلّم إمّا لأنّه ليس مواليا مائة في المائة أو متأفّف من المنظومة التّي اتّخذت من السّطحيّة شعارا .. فيما قبع بقيّة الموهوبين يعملون في صمت و قهر خشية على لقمة العيش التّي كان النّظام السّابق يستخدمها بمنتهى القسوة إلى حدّ أن يلقى من تمرّد عليه مصير الموت جوعا كسائر الأنظمة الفاشيّة .., و لا يمكن لأبرع كتّاب “مسرح العبث” أن يتصوّر شابّة تحمل إجازة في اللّغة العربيّة تنظّف البلاط البارد تحت قدمي مذيعة نجمة لا تملك من المؤهّلات سوى ” دبلوم ابتدائي في التكوين المهني تخصّص خياطة” .. لكنّه واقع أليم يصنعه الطّغاة ليستمرّ حتّى بعد الإنتفاضات.
ـ المحصّلة التّي يمكن أن نخلص إليها أنّ هذا القدر من الجهل و الفساد و السطحيّة طوال تلك العقود التّي ناهزت الخمس عقود كان لا بدّ أن تترك أثرها الكارثي على سلامة المنظومة الإعلاميّة و كلّ ما يتعلّق بالميديا بالكامل , علاوة على خلق صورة مزيّفة لدى المتلقّي يترتّب عليها نتائج خاطئة و عندما يصطدم هذا المتلقّي بالواقع المعيش يكفر تماما بهذا الكذب الذّي كان يتلقّاه صباح مساء .
و من النّتائج الخطيرة على سبيل المثال لا الحصر التّي كرّس لها هذا الإعلام خلق إحساس زائف بالتميّز في كلّ شيء و كأنّ الله خلق عالم هذا المتلقّي على حدة دون سائر الكون ممّا يجعله يسعى إلى مقارنات غالبا تأتي في غير صالحه .
ـ لم يكن لهذه المنظومة الإعلاميّة الغريبة أدنى تأثير على المستوى الخارجي فيما كان أثرها الدّاخلي مدمّرا ليس لتأثيرها و بصمتها بل لإلحاحها المستمرّ على جمهورها الذّي وجد في الإذاعات الخاصّة و التلفزات المجاورة و التّي تصله ,ملاذا قبل انطلاق عصر السّماوات المفتوحة الذّي وجد فيه المتلقّي انعتاقا من براثن تلك الآلة الإعلاميّة التّي تعاني من فساد على كافّة الصّعد و هو ما جعل أبناءها غير المتورّطين مع النّظم السّابقة التكنوقراط يسعون إلى استرداد ثقة المجتمع التّونسي و استعادة المصداقيّة المفقودة من خلال تشكيل هيئة لإصلاح الإعلام بعيدا عن نفوذ النّظام الحاكم أيّا كان بمعاونة الهياكل النّقابيّة ومنظّمات المجتمع المدني لكنّها ليست بالمهمّة السّهلة خاصّة و أنّ هناك من يرى أنّ هذه الهياكل و المنظّمات لا بدّ من إصلاحها أوّلا و كشف الحقائق حول بعض مسئوليها ممّن وجّهت إليهم اتّهامات بالعمل السرّي لحساب أجهزة الأنظمة السّابقة و هو ما يتطلّب كشف الحكومة لوثائق البوليس السّياسي و الكيانات المماثلة لمعرفة الحقائق حول من تورّطوا معها و هو ما لم تفعله الحكومة التّي شكّلها المجلس التّأسيسي المنتخب حتّى الآن رغم وعودها المستمرة و هو ما يثير التّساؤلات حول المستفيد من بقاء الوضع على ما هو عليه لتدرك شعوب ما يسمّى بالرّبيع العربي و المراقبون أنّ أسهل مراحل الثّورة هي المرحلة الماضية و أنّ القادم أصعب حيث مخاض الثّورات أو الإنتفاضات أبطء ممّا يتصوّر البعض و يتطلّب إرادة لا تلين من الشّعوب .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات