في بلاد الله الواسعة | الفصل الثاني | العمّةُ التي عاشَتْ طويلاً

05:55 مساءً الأحد 12 نوفمبر 2017
بَسْمة الخطيب

بَسْمة الخطيب

كاتبة وإعلامية من لبنان.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في بلاد الله الواسعة | الفصل الثاني | العمّةُ التي عاشَتْ طويلاً

بسمة الخطيب وغلاف روايتها للناشئة

بسمة الخطيب وغلاف روايتها للناشئة

الوحيدةُ التي كانتْ تعرفُ مكانَ إسماعيلَ حينَ يطولُ غيابُهُ، هي العمَّةُ، وهذا الاسمُ الوحيدُ الذي عُرفتْ بهِ.
هي عمَّةُ والدِ إسماعيل، وتسكنُ معَ الأسرةِ منذُ سنواتٍ كثيرةٍ، ويُناديها الجميعُ عمَّتي. والحقُّ أنّها في مقامِ الجدَّةِ، فهي مُعمِّرةٌ حكيمةٌ واعظةٌ، تحفظُ كثيراً منَ الحكاياتِ الشعبيةِ المذهلةِ.

وكما برعَتْ العمَّةُ في سردِ الحكاياتِ، فقدْ حُكيتْ عنها الحكاياتُ أيضاً.
حكاياتٌ امتزجَ فيها الواقعُ بالمبالغةِ، مثلَ أنّها، بِبُنيتِها الضئيلةِ وكفَّيها الصغيرتين، بَنَتْ بنفسِها بيتَ العائلةِ هذا، ورصَّتْ الطوبَ وسَعفَ النخيلِ بمهارةٍ فاقَتْ مهارةَ رجالِ الواحاتِ، وأنَّها حفِظَت كتابَ ألفِ ليلةٍ وليلة وسيرةَ عنترةَ بن شدَّاد حينَ أتمَّتْ العاشرةَ، وأنَّ العصا التي لا تُفارقُها صَنعَتْها بنفسِها من شجرةِ كافورٍ عمرُها مئتا سنةٍ… والأهمُّ في كلِّ هذا، ما يُشاعُ عن أنَّها تخطَّتْ المئةَ والعشرينَ عاماً.
*
حينَ يطولُ غيابُ إسماعيلَ، وتقلقُ أسرتُه عليهِ، تلبسُ العمَّةُ عباءَتَها وبُرقُعَها، وتتّكئُ على عصاها الغليظةِ، وتمضي نحوَ البئرِ.
يعرفُ إسماعيلُ أنَّ عمَّتَهُ قادمةٌ من رائحةِ الكافورِ، فعصاها الفريدةُ تُضوِّعُ رائحةَ الكافورِ حولَها، وتُعلنُ وجودَها أو قُدومَها دائماً. يتقدَّمُ نحوَها، وهوَ يعرفُ ماذا ستقولُ:
تعالَ يا ولدي، سأحكي لكَ حكايةً جديدةً الليلةَ.

لكنَّ حكاياتِ العمَّةِ نضبَتْ.
فجأةً، صارَتْ فاترةَ الهمَّةِ، قليلةَ الحركةِ. ما عادَتْ تتبعُ إسماعيلَ، أو تبارحُ غرفتَها.
ظنَّ أهلُها أنَّها مريضَةٌ، وصاروا يحاولونَ تحديدَ عمرِها الطويلِ.
سابقاً، لمْ يهتمَّ أحدٌ بعمرِ العمَّةِ. لم يعرفوا عمرَها، ولم تبُحْ بهِ إلى أحدٍ. ما يعرفونَهُ أنَّها وُلدَتْ منذُ زمنٍ بعيدٍ، مثلَ حكاياتِها التي دائماً ما تحدثُ في زمانٍ ومكانٍ بعيدين.
حينَ تكونُ مُتعبةً، ويطلبُ إسماعيلُ حكايةً، تُخبرهُ أنّها جائعةٌ، وحين يجلبُ لها ما تأكلُهُ، يجدها غارقَةً في نومٍ عميقٍ.
باتَتْ تنامُ كثيراً.
حتَّى إنَّها ما عادت تستيقظُ لتناولِ السُّحورِ في شهرِ رمضانَ، أو لصلاةِ قيامِ الليلِ كما اعتادَت.
*
بعد فترةٍ، كشفَ إسماعيلُ السرَّ.
نادَتْهُ عمَّتُهُ بصوتٍ سعيدٍ، وقالَتْ إنَّ عندَها حكايةً جديدةً لهُ.
وحينَ راحَتْ تروي وتروي، وتقفِزُ بالقصَّةِ منْ مكانٍ إلى آخرَ، ومن بطلٍ إلى آخرَ، فهِمَ إسماعيلُ أنَّها تروي لهُ مناماً وليسَ حكايةً، وفهِمَ أنَّها كانَتْ تَتعمَّدُ النومَ كي تحلمَ بحكاياتٍ جديدةٍ.
وكانَ إسماعيلُ يُنصِتُ جيِّداً لها، كي لا تحزنَ، أو يُكسرَ خاطرُها، ثُمَّ يسرقُ أيَّ وقتٍ يُسنحُ لهُ ليذهبَ إلى البئرِ، ويستمعَ إلى حكاياتِ العابرينَ والمسافرين.

توقّفَتْ العمَّةُ عن المحاولةِ، واكتفَتْ بقراءةِ القرآنِ والصلاةِ في غُرفتِها، بصمتٍ تامٍّ.
*
العطَّارُ الجوَّالُ

في أحدِ الأيَّامِ، بينما كانَ إسماعيلُ يجلبُ الماءَ العذبَ إلى المنزلِ، وإذْ هوَ يهُمُّ بمغادرةِ المكانِ، ناداهُ رجلٌ يتفحَّصُ ماءَ البئرِ، وقالَ:
السلامُ عليكم يا ولدي، هل توجدُ بانةٌ في الجوارِ؟

التفتَ إسماعيلُ، فوجدَ أمامَهُ رجلاً في مطلعِ الخمسينَ من العمرِ، يحملُ كيساً من القِنَّب، في وجهِهِ تلوحُ مئاتُ الحكاياتِ، ومنهُ تفوحُ روائحُ الطيبِ، التي أكَّدَتْ لإسماعيلَ أنَّهُ عطَّارٌ.

سارعَ إسماعيلُ إلى الترحيبِ بهِ، وردِّ السلامَ بأحسنَ منهُ، ثُمَّ راحَ يساعدُهُ في انتشالِ الماءِ.
العطَّار: تبدو المياهُ عكرةً، ألا تُوجدُ شجرةُ بانٍ هنا؟
إسماعيل: لا.
العطَّار: ليتكَ تغرِسُ واحدةً. أغصانُ البانِ تُنقِّي الآبارَ. تحتاجُ بئرُكُم إلى تنظيفٍ دائمٍ.
أشارَ العطَّارُ إلى الأفقِ، خلفَ الواحاتِ، وأضافَ:
الرمالُ ليستْ بعيدةً كما تظنُّ.
إسماعيل: كنتُ أظنُّها بعيدةً.
العطَّار: ليسَتْ كذلكَ.

تبادلَ الاثنانِ التعارفَ.
إسماعيل: أنا إسماعيلُ، ابنُ مزارعٍ.
العطَّار: فقط؟
إسماعيل: حتَّى الآنَ.
العطَّار: وأنا حالياً عطَّارٌ مسافرٌ، رحَّالةٌ. كنتُ ابن قَصَّار، أمضى عمرَهُ يضربُ الغسيلَ فوقَ القَصَرَة، رفضْتُ أنْ أرِثَ مهنتَهُ، لأنَّني لمْ أُطِقْ يوماً البقاءَ مكاني ساعةً واحدةً، فكيفَ بعمرٍ بأكملِهِ؟! عملْتُ ساقياً للقهوة مدّةَ أسبوعٍ، ثُمَّ صيّاداً بضعةَ شهورٍ، ثُمَّ حادي عيس مدَّةَ سنةٍ، ثُمَّ عطَّاراً.
إسماعيل: لماذا لَمْ تملَّ من العِطارة أيضاً؟
العطَّار: وجدتُ روحي في العِطارة، وكأنَّها كانَتْ مسجونةً بقارورةٍ في قَعرِ البحرِ، لفظَها الموجُ وفتحَها صيَّادٌ عاثرُ الحظِّ، من اختراعِ شهرزادَ زوجةِ الملكِ شهريارَ، في كتابِ ألفِ ليلةٍ وليلة.
إسماعيل: عمَّتي روَتْ لي حكاياتِ “ألف ليلة” وغيرها.
العطَّار: أنتَ محظوظٌ إذاً.
إسماعيل: أخبرني كيفَ صرتَ عطَّاراً؟
العطَّار ضاحكاً: بالخطأِ.
إسماعيل: بالخطأ؟
العطَّار: ذهبتُ أشتري البهارَ لأمِّي، فظنَّ العطَّار أنَّني شخصٌ آخرُ. كانَ ينتظرُ صبيّاً ليساعدَهُ، فعرضَ عليَّ أجراً. عملتُ عندَه عشرَ سنواتٍ، واكتشفتُ سحرَ العِطارة. راح يُرسلُني إلى أسواقِ الأَحساءِ وجوارِها لأشتري ما ينقصُهُ من بضائعَ… حتَّى التقيتُ عطَّاراً مغربياً، مسافراً إلى السِّندِ، أخبرَني أنَّ ما أعرفُهُ عن العِطارةِ هو موجةٌ في محيطٍ. فقرَّرتُ حينئذٍ أنْ أجوبَ بلادَ الله الواسعةِ لأعرفَ سرَّ أسرارِ العِطارة، أو جوهرةَ أسرارِها.
إسماعيل: وما هي؟
العطَّار: لا أعرفُ. سأبقى أبحثُ حتَّى أجدَ الطِيْبَ الذي لنْ يُدهشني طيبٌ منْ بعدِهِ.
إسماعيل: أينَ؟
العطَّار: في المحطَّةِ التاليةِ، في الرحلةِ المقبلةِ…

فتحَ العطَّارُ كيسَهُ، وأخرجَ منهُ قواريرَ صغيرةً، مختلفةَ الألوانِ والروائحِ، وراحَ يحكي لإسماعيلَ عنها:
تُغلى أوراقُ الوردِ الجوري بالماءِ العذبِ، يرتطمُ بُخارُها بسقفِ آلةِ التقطيرِ، فيتساقطُ ماءُ الوردِ قطرةً قطرةً. بعضُ النساءِ يتطيَّبنَ بماءِ الوردِ، وهو مُطيِّبٌ للحلوياتِ أيضاً. سمعتُ أنَّ للوردِ أكثرَ من مئتي نوعٍ!
إسماعيل: هذا رقمٌ لا يُصدَّقُ!
العطَّار: ولكنِّي أصدِّقُهُ. سنلتقي مُجدَّداً وأخبرُكَ الخبرَ اليقين. أمَّا زيتُ الخُزامى، فيستلزمُ تجفيفَ زهورِ الخُزامى، ثُمَّ نقعَها في زيتِ الزيتونِ، وبعدَ أيَّامٍ، تُصفَّى منَ الزيتِ، ويُعاد نقعُ كميَّةٍ جديدةٍ منها في الزيتِ نفسِهِ، حتَّى نحصلَ على زيتِ الخُزامى الساحرِ، بفوائدِهِ العلاجيَّةِ والتجميليَّةِ. أتعرفُ أنَّ أهلَ الهندِ يستعينون به لترويضِ الأسودِ؟ فهو يُهدِّئُ رَوعَ الكائناتِ المفترِسةِ.

راح إسماعيلُ ينظرُ ويُنصتُ ويشمُّ ويتذوَّقُ وهو مذهولٌ.
أهداهُ العطَّارُ بعضَ ما معه: ماءَ الوردِ وزيتَ الخُزامى وزيتَ الكافورِ وحجرَ إثمِد من النوعِ الفاخرِ.
فكّر إسماعيل أن يُعطي الكُحل لعمّتهِ التي تحرصُ على الاكتحالِ مرَّتينِ يوميّاً.
قاطعَ العطّارُ تفكيرَهُ سائلاً:
وأنتَ يا إسماعيلُ، يا ابنَ المُزارعِ، ما شغفُكَ؟
إسماعيل: كيفَ؟ ماذا يعني الشغفُ؟
العطَّار: أكثرُ شيءٍ تُحبُّهُ وتُحبُّ القيامَ بهِ، ويشغلُ تفكيرَكَ وقلبكَ؟
إسماعيل بعدَ تردُّدٍ: لا تسخرْ منِّي، الحكاياتُ شَغَفي.
العطَّار: ولماذا أسخرُ؟ الحكاياتُ شغفٌ رائعٌ. إنَّها كالعطورِ، عليكَ أنْ تبحثَ عنها، وتبذُلَ في حبِّها كي تُعطيكَ المقدارَ الدقيقَ من السعادةِ والرِضا.
إسماعيل: إذاً؟
العطَّار: إذاً، شغفُكَ الحكاياتُ. إنْ سمعتَ يوماً عن أمِّ الحكاياتِ، حكايةِ الحكاياتِ، جوهرةِ الحكاياتِ، ستبحثُ عنها، ستعيشُ أجملَ أحلامٍ في رحلتِكَ إليها، وستصادفُ حكاياتٍ أُخرى وستصنعُ غيرَها.
إسماعيل: سأصنعُها؟ أنا؟
العطَّار: ستفعلُ. الحكايةُ جزءٌ من راويها ومؤلِّفِها، يُضيفُ إليها من روحِهِ وخيالِهِ، كما يفعلُ العطَّارُ الماهرُ.
إسماعيل: معقولٌ؟
العطَّار: بل عينُ العقلِ، وإلّا لما التقينا أنا وأنتَ.
إسماعيل: وهلْ تُوجدُ أرضٌ للحكاياتِ؟
العطَّار: إنْ أردتَها ستجدُها، وإنْ أردْتَها بقوَّةٍ ستجدُكَ. ما تبحثُ عنهُ ربما يبحثُ عنكَ بدورِهِ.

تبادلَ إسماعيلُ والعطَّارُ الحديثَ حتَّى تعبا. أخبرَهُ مزيداً عن العِطارةِ، كيفيةِ تقطيرِ النباتِ وصناعةِ الزيوتِ، وكانَ إسماعيلُ مأخوذاً بكلِّ كلمةٍ، وتمنَّى أنْ يُصبحَ عطَّاراً.

وكما لكلِّ حكايةٍ خاتمةٌ، وقفَ العطَّارُ مستعدّاً للرحيلِ.
نظرَ حولَهُ حيثُ عدَّةُ طرقٍ حفرَها المسافرون بآثارِ أقدامِهم وحوافرِ دوابِهم.
سألَهُ إسماعيلُ: أيُّها طريقُكَ؟
أجابَ: كلُّ الطرقِ طُرقي.
قبلَ أنْ يمضي العطَّارُ، سألَهُ إسماعيلُ بقلقٍ صادقٍ:
هل وُجِدَتْ يوماً أرضُ الحكاياتِ؟
العطَّار: لا أدري. أنتَ ستُخبرُني حينَ نلتقي مرَّةً ثانيةً.
إسماعيلُ: وهلْ سنلتقي ثانيةً؟
العطَّار بثقةٍ: حيثُ تلتقي الطُرقُ يلتقي الأشخاصُ المتشابِهون. أنا كُنتُ أشبِهُكَ كثيراً في صِباي يا إسماعيلُ، وكنتُ إذا ما أرسلَني أهلي لأجلبَ شيئاً، أنساهُ وأعودُ بشيءٍ آخرَ أكثرَ أهميَّةً.

تذكَّرَ إسماعيلُ أنَّ أهلَهُ ينتظرونَ المياهَ العذبةَ، فارتبكَ وشعرَ بالذنبِ، لكنَّ العطَّارَ قالَ لهُ:
لا ترتبكْ. أهلُكَ سيتفهَّمونَ. إنْ لم يفعلوا اليومَ، سيفعلونَ غداً.
تودَّعا، وانطلقَ كلٌّ منهما في طريقٍ، العطَّارُ حاملاً كيسَ عطورِهِ وزُيوتِهِ، وإسماعيلُ حاملاً قربةَ جلدِ الماعزِ المملوءةَ بالماءِ، وحاملاً أيضاً قلباً مُفعماً بالأملِ والإصرارِ.
*
عادَ إسماعيلُ نشيطاً، من دونِ أثرٍ لتعبِ نهايةِ النهارِ. تردّدتْ كلماتُ العطَّار في رأسِهِ، كقصيدةٍ بديعةٍ:
ما تبحثُ عنهُ ربما يبحثُ عنكَ. سيتفهَّمُ أهلُكَ اليومَ أو غداً. جوهرةُ الحكاياتِ، حكايةُ الحكاياتِ، أرضُ الحكاياتِ… ستصادفُ حكاياتٍ وستصنعُ أُخرى…

عرفَتْ العمَّةُ من حركتِهِ وصوتِهِ أنَّهُ سعيدٌ وحائرٌ في آنٍ.
حين قدّمَ لها حَجرَ الإثمِدِ، اتّسعَتْ ابتسامتُها، وأعادَتْ المثلَ الشهيرَ: “الكُحل في النهارِ زينة وفي الليلِ خزينة”.
وضعتْ الحجرَ في صندوقِ زينتِها، قُربَ أعوادِ الثُمامِ التي تتكحَّلُ بها، وأنصتَتْ لإسماعيلَ وهو يحكي بحماسةٍ عن العطَّارِ الجوَّالِ.
*
الفتى الحالمُ

في الصباحِ التالي، بينما والدُ إسماعيلَ يستعدُّ للخروجِ إلى المزرعةِ، نادَتْهُ العمَّةُ، وقالَتْ لَهُ:
إسماعيلُ يُريدُ الرحيلَ. أحلامُهُ أبعدُ من هذا المكانِ.
والدُ إسماعيل: أعرفُ ولدي. سيبقى الفتى الحالِمَ. ولكنَّنا نحتاجُ إليهِ هُنا. لا نستطيعُ تحمُّلَ كلفةَ أجيرٍ، وريحُ السَّمومِ تقسو علينا. نصفُ الطَّلعِ تساقطَ باكراً. حينَ يتحسَّنُ الموسمُ سأتركهُ يرحلُ.
سمعَ إسماعيلُ حديثَهُما، ولسببٍ ما، شعَرَ بأنَّ اليومَ الذي سيتمكَّنُ فيه منَ الرحيلِ بعيدٌ جدّاً، برغمِ المثلِ الذي ردَّدَتْهُ عمّتُهُ قبلَ مغادرةِ والدِهِ: “رِزقُ الدودِ في الحجرِ الجُلمودِ”.
*
ازدادَتْ وحدةُ إسماعيلَ. ما عادَ يهتمُّ بشيءٍ، حتَّى بالمسافرينَ.
صارَ يجلسُ فوقَ التلّةِ، يُراقبُ الأفقَ، متأمّلاً أنْ يُرسلَ إشارةً إليهِ. ولكنَّ شيئاً لمْ يرتدَّ إليهِ إلّا الصمتُ.
وذاتَ مساءٍ حارٍّ من نهاياتِ الصيفِ، جمعَتْ العمَّةُ قوَّتَها، ارتدَتْ ملابسَها واكتحلَتْ، ووقفَتْ وسطَ حوشِ المنزلِ. ضربَتْ الأرضَ بعصاها، وقالَتْ وهي تُغادرُ:
سيظهرُ سْهيل الليلةَ. ستصبحُ الأمورُ أفضلُ.
تعجَّبَتْ نساءُ العائلةِ من الأمرِ. فالعمَّةُ لم تخرجْ منذُ شهورٍ كثيرةٍ. لكنَّهنَّ اسْتَبشرْنَ خيراً بظهورِ نجمِ “سْهيل”، فهوَ يُعلنُ انتهاءَ موسمِ ريحِ السَّمومِ، وهو علامةُ بدايةِ انخفاضِ درجاتِ الحرارةِ.
*
وصلَتْ العمَّةُ مُجهَدةً إلى التلَّةِ، تَسبِقُها رائحةُ الكافورِ.
جلسَتْ قُربَ إسماعيل تلهثُ، وحينَ استردَّتْ أنفاسَها، قالَتْ:
هكذا تَعرفُ العجوزَ منَ الشابَّةِ. دعْهُما تتسابقان نحو الماءِ وهما عطشانتان. العربُ تعرفُ أعمارَ الخيلِ المتشابهةِ بهذه الطريقةِ.
سقاها إسماعيلُ من ماءِ البئرِ، وعادَ إلى جِلسَتِهِ الحزينةِ، فسألَتْهُ:
هلْ سمعتَه جيِّداً؟
إسماعيل: ما هو؟
العمَّة: الصمتُ.
إسماعيل: لا أسمعُ سواه.
العمَّة: في الصمتِ أسمعُ كلامَ الريحِ للجبلِ، حيثُ وُلدتُ في عسير. وأنتَ ماذا يُحدُّثُكَ صمتُكَ؟
إسماعيل: لا يفعلُ. يبدو أنَّهُ غاضبٌ منِّي أو غيرَ مهتمٍّ بي.
العمَّة: ليسَ صحيحاً. عليكَ أنْ تُنصِتَ جيِّداً. أنصتْ بكلِّ حواسِّكَ، ليسَ بسمْعِكَ فقط.
حرَّكَ كلامُ العمَّةِ قلبَ إسماعيلَ، منذُ أوَّلِ كلمةٍ إلى جُملتِها الأخيرةِ:
الصمتُ يُخبرُكَ دائماً شيئاً مُهمّاً. يهمِسُ إليكَ بسرِّ حياتِكَ.
*
أغنيةٌ بعيدة

ما عاد إسماعيلُ يفكِّر إلّا في نصيحةِ عمَّتِهِ ومقاصدِها.
يعرفُ أنَّ كلامَها ليسَ سهلَ التنفيذِ. يعرفُ أنَّ عليهِ بذلَ جهدٍ، كما يفعلُ طلَّابُ العلمِ، ويفعلُ المُزارعُ الذي تتحدَّاهُ الطبيعةُ، كما يفعلُ العطَّارَ الذي يستخرجُ قطراتٍ نادرةً من موادَّ منثورةٍ في بقاعِ الأرضِ المتباعدةِ.
أنصتَ جيِّداً لما يقولُهُ صمتُهُ. صارَ يُغمِضُ عينيهِ ليرى صمتَهُ، يدفعُ نبضاتِ قلبهِ نحو صمتِهِ، يصومُ عن أيِّ طعامٍ قويٍّ ليتذوَّقَ طعمَ صمتِهِ.
*
مضتْ أيَّامٌ وأيَّامٌ، من دونِ أن يُلبِّي الصمتُ نداءَ إسماعيلَ.
حلَّ الشتاءُ. وليهرب َإسماعيلُ من الهواءِ الباردِ الذي يلسعُهُ فوقَ التلَّةِ الخاليةِ من أيِّ شجرٍ، صارَ يجلسُ قربَ البئرِ، مُحتمياً بسورٍ منَ النخلاتِ المنثورةِ هناكَ.
وذاتَ مغيبٍ شتويٍ مسقوفٍ بالسُحبِ، مفروشٍ بالخُضرةِ، وبينما الإبلُ تُساقُ بهدوءٍ إلى مَبارِكها، متلوِّنةً بألوانِ الغروبِ، وإذ إسماعيلُ يُسندُ ظهرَهُ إلى حجارةِ البئرِ العتيقةِ، حدثَ ما انتظرَهُ طويلاً.
سمعَ ما يقولُهُ الصمتُ.
لم يكُنْ كلاماً عادياً، بل أغنيةً. أغنيةً بعيدةً.
ولم تكُنْ جديدةً، بل اكتشفَ إسماعيلُ أنَّهُ يعرفُها، وأنَّها طالما تردَّدَتْ في رأسِهِ.
كانَتْ كالحلمِ الذي ننساهُ من فورِ استيقاظِنا منَ النَومِ.
*
ما سمِعَهُ إسماعيلُ في صمتِهِ كانَ ترنيمةً، كلماتُها غيرُ واضحةٍ، أشبهُ بلحنٍ حزينٍ تُغنِّيهِ امرأةٌ وحيدةٌ.
ماذا تُريدُ هذه الترنيمةُ أنْ تقولَ لهُ؟ كيفَ يُمكنُها أنْ تدُلُّهُ على طريقِ الرحيلِ؟ كيفَ يُمكِنُها أنْ تُساعِدَهُ؟ ولماذا تعلو كلَّما اقتربَ منَ البئرِ؟ أتُراها قادمةٌ من البئرِ نفسِها؟
حاولَ أنْ يُصغي أكثرَ.
تذكَّرَ الكلامَ الذي طالما كرَّرتْهُ عمَّتُهُ:
اسمعْ يا إسماعيلُ هذه الحكايةَ. اسمعْ حكايةَ اسمِكَ. إسماعيلُ هبةُ الله لإبراهيمَ عليهما السلامُ.
سمعَ الله من إبراهيمَ فوهبَ لهُ إسماعيلَ بعدَ طولِ صبرٍ وحِرمان.

اسمَعْ يا إسماعيلُ! اسمعْ! كانَ يقولُ لنفسِهِ.
حاولَ جاهِداً أنْ يفهمَ ما سمعَهُ، لكنَّهُ لم يتمكَّنَ. ساعدَتْهُ الترنيمةُ في أمرٍ واحدٍ: الصبر.
باتَ هادئاً أكثرَ، وعادَ للعملِ بجدٍّ مع والدِهِ، وهو ينتظرُ معجزةً من اثنتين: تحسُّنَ الموسمِ أو اقتناعَ والدِهِ بأحلامِهِ.

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات