كراكيب الدولة المصرية

01:21 صباحًا الأربعاء 27 نوفمبر 2019
جلال نصار

جلال نصار

رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي (سابقا)، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

فى بيوتنا المصرية القديمة والعصرية توارث كل منا عادات وتقاليد عن الاجداد والأباء والأمهات فى مقدمتها الكراكيب التى تملأ كل بيت وتحول أجزاء من هذا البيت إلى فوضى وتشغل حيزا من المكان والتفكير حيث يرتبط البعض منها بذكريات واحداث واشخاص يصعب التخلص منها فيكون القرار دائما هو التعايش مع تلك الكراكيب إلى حين ربما تتغير الظروف ويتغير العنوان بالإنتقال من مكان إلى أخر حيث نجد أنفسنا أمام إتخاذ قرار مصيرى بالتخلص منها أو بجزء منها؛ وقد أمتدت ظاهرة كراكيب البيوت لتحتل أسطح المنازل والعمارات وغرف التخزين لتشكل ظاهرة تحتاج إلى دراسة علمية لفهم جانب مهم من طبيعة الإنسان المصرى…

galal
ولكن الأمر الذى استوقفنى هو إمتداد عملية توارث الكراكيب على مستوى أكبر يخص ويميز الدولة المصرية القديمة والمعاصرة بشقيها المادى والمعنوى فما من مقبرة يكتشفها الأثريون المصريون والأجانب إلا وتجد بداخلها كل ما يحتاج إليه فى العالم الآخر ولا مانع من وجود برديات ونقوش تحكى وتروى عن زمن أجدادنا ولكن لا تخبرنا بكل أسرارها؛ وتوارث الأجيال كراكيب كل الفترات التاريخية التى مرت بها اقدم دول العالم وأعرقها حضارة حتى تحول الروتين إلى اسلوب حياة وتطور مفهوم الكراكيب ليشمل عدد لا باس به من اسلوب الحياة وإدارتها؛ ومن جانبه استطاع هذا الشعب الجميل أن يتعايش مع تلك الكراكيب بل اصبحت من أهم مميزاته السخرية منها والتنكيت والتبكيت عليها…
فى مصر المحروسة توارثت الدولة وحكوماتها عملية الحفاظ على الكراكيب وتوظيفها، ليس فقط الأحتفاظ بها فى مكان جميل او متحف بشرى نادر بل تفننت فى إحياء عدد منها بعد خروجها من المشهد لسنوات لتحكم وتقرر وتقضى على هيئات ومؤسسات ومجالس وأجيال وتحولوا إلى أدوات للهدم لانها كراكيب تعمل وتنفذ من مكانها دون حركة أو رؤية أو إبداع بعد أن تجاوزها الزمن…
وفى عملية الإدارة للشأن العام توارثت الحكومات عملية إتخاذ القرار وتقاليده التى تحولت بمرور الوقت إلى كراكيب مقارنة بما وصلت إليه الدول التى إستطاعت أن تتقدم وتحقق الاستقرار والرفاهية لشعوبها؛ وأصبح لتلك العملية مميزات وممارسات محفوظة لدرجة الملل فلا تستطيع أن تعرف كيف ولماذا ومتى يتم تعديل أو تغيير وزارى وما الفوراق بين من رحلوا وبين من سيحتلون مقاعدهم رغم وجود دستور وقوانين منظمة؛ ولا تعرف لماذا غادر هذا المحافظ أو رئيس البنك والمؤسسة والبرنامج ورئيس التحرير هذا الموقع ولماذا تولى أخر موقع أخر وما هى الشروط والمعايير المعلنة حتى أصبحت عملية التغيير تمثل بالنسبة للمواطن والمتابع والمراقب سر من أسرار المصريين التى تشبه إلى حد كبير سر عملية التحنيط لمومياوات اجدادنا…
وقد أتقنت الإدارات والأنظمة المتعاقبة الحفاظ على هذا السر فى غرفة مظلمة لا يعرف عنها الكثير بل وتفننت الأنظمة فى فنون المراوغة والإثارة وتسريب الإشاعات والبلبلة والتمويه كى يمر التغيير أو التعديل أو التبديل دون أى ردود أفعال فالبعض منها يسرب أخبار مغلوطة والبعض الآخر كان يقبل على تلك العملية فى شهر رمضان ارتباطا بقلة التركيز التى تصيب الصائم وفى أوقات أخرى أرتبطت تلك العملية بالمساء الذى يسبق الاجازات الأسبوعية والعطلات الطويلة إضافة إلى الإبتكار والتمويه فى تحديد أماكن التشاور مع المرشحين للإمعان فى زيادة حيرة الرأى العام وحجب المعلومات عن الصحفيين والإعلاميين…
ولعل عملية إختيار وتعيين رؤساء مجالس إدارة ورؤساء تحرير الصحف القومية والقيادات الإعلامية هى الأكثر قربا وتشابه مع عملية التغيير والتعديل الوزارى؛ ومؤخرا زاد عليها عملية تشكيل المجالس النيابية والقوائم والمرشحين وتشكيل اللجان والهيئات والمجالس التى تدير الشأن المشهد العام؛ لكن المؤكد أن كل تلك العمليات والإجراءات جاءت من نفس مخزن الكراكيب وبنفس طريقة الحفظ وإعادة الإستخدام والتلميع…
3F6B4CB6-B3A0-48C7-B6BB-C764969FE602شأن الكراكيب فى بلدنا المحروسة يمتد إلى عدد من القضايا والأسئلة التى نتعايش معها وتظل لغزا نتعايش معه فى غياب الإجابات والحلول فلا تجد إجابة واحدة لها وأصبحنا من هواة بقاء الأبواب مفتوحة على عدد غير قليل من الإجابات التى تصنع مشهدا متناقضا مع تعمد غياب الدولة عن المشاركة فى وضع رواية رسمية أو تصريح وبيان رسمى يحسم الجدل…
من بين تلك القضايا والأسئلة التى تحولت إلى كراكيب داخل كل عقل ووجدان وبيت كل منا ونتعايش معها ولا نتخلص منها على سبيل المثال حقيقة دور أشرف مروان وطنى أم جاسوس أم عميل مزدوج؛ قضية ميناء أم الرشراش: هل هو مصرى ولو كان كذلك لماذا لا نسعى لإسترداه مع حالة تعايش تام أنه مصرى؛ هل مات المشير عامر عمدا أم إنتحارا؟ مد مياه نهر الكونغو: هل هى تصلح فنيا أم .. هل ينقصها التمويل أم الإرادة السياسية أم الواقع السياسى والجفرافى لمصر والدول التى تمر به؟… لغز القمامة المنتشرة بصورة مزمنة رغم تحصيل مقابل جمعها: هل غياب الإرادة والفشل الإدارى أم أن هذا المقابل يتم توظيفة فى شأن أخر؟ قضية الحجاب هل هو فرض أم لا: إعادة مناقشة تلك القضية وكأنها غير قابلة للحسم أم المطلوب أن نتعايش مع السؤال وحالة الجدل بعد أن تجاوز العالم تلك التساؤلات ووجد حلول مبتكرة لكل قضاياه وكف عن الوقوع فى مستنقعات الجدل والدوائر المغلقة التى عاقت وتعيق كل مسارات تجديد الخطاب الدينى والإنتقال من هنا إلى هناك؛… الفساد: الذى تحول إلى أهم كراكيب دولتنا وأصبح أسلوب حياة نتعامل ونتعايش معه وبه فى كل مكتب ومصلحة ومؤسسة ووزارة ويلتهم كل إنجازات التنمية ويشيع حالة من الإحباط بين ابناء الوطن وكفاءاته؛… الإرهاب: فكر وعملا وسلوكا وتنظيما والذى قارب على أن يصبح واحد من أهم كراكيبنا لاننا نتعايش ونتغاضى ونتجاهل أسبابه فى غياب تجديد الخطاب الدينى وغياب مشروع تنوير ونهضة فكرية وثقافية وتفشى خطاب الجهل شكلا ومضمونا والإصرار على مراعاة وإستخدام تلك التيارات وكوادرها سياسيا فى عدد من الإدارات السابقة…
عدد لا حصر له من الكراكيب والإرث والتراكم فى ممارسات وعادات وقرارات وسياسات حولت حياتنا فى كل ركن منها إلى مخزن كبير لتلك الكراكيب حتى أنك تشعر فى لحظة ما بالخزى لانك تزعجها وتتطفل عليها لانها تقبل بك كمتطفل يعيش إلى جوارها بل وصل به الوقاحة إلى أن يكتب مقالا وخواطر يتناول الظاهرة ويتطاول عليها…
وللحديث بقية..
جلال نصار
26 نوفمبر 2019م

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات