من كتاب الحنين: تمثال للأستاذ الزيّات!

02:37 مساءً الثلاثاء 15 ديسمبر 2020
أشرف البولاقي

أشرف البولاقي

شاعر وناقد مصري، يعمل مديرًا لقِسم الثقافة العامة بفرع ثقافة قنا

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

لو كان يمكنني أن أصنع تمثالاً لأحد، لصنعتُه لهذا الرجل، الأستاذ (عبد الرحيم السيد الزيات) الذي كان معلمًا لي وهو ما يزال بعدُ طالبًا في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بأسيوط، وكان يتردد على قريتِه وأهله في برديس، كعادة الطلاب المغتربين.وكنت في المرحلة الإعدادية، قد قطعتُ مع بعض أصدقائي شوطًا في قراءة الصحف والمجلات والقصص والروايات، كنا نقرأ بنَهَم، الأمر الذي جعلنا مجِدّين في الدراسة، أو بالأحرى كنا مختلفين قليلاً عن أترابنا.

أشرف البولاقي، والأستاذ الزيات

وكان لي صديق اسمه “إسماعيل الزيات” رفيق لعب الكرة والسياحة والتصعلك في الشوارع، الأمرُ الذي فَرض عليَّ أن أتردد على بيتِه للخروج، فإذا بأخٍ له يكبره بسنوات (الأستاذ عبد الرحيم الزيات) يستقبلني، كان يعرفني ويعرف بعض أهلي، فكنت أجلس إليه في انتظار أخيه، ولا أعرف ما الذي كان يَدفع هذا الأخَ الكبير ليسألني، وأنا جالسٌ، سؤالا في النحو، أو سؤالا في المعلومات العامة!ولعلِّي كنت أجيب، ولعلِّي كنت أصيب، وبدوري كنت أسأله أسئلة تبدو له غير متوقعة، أو لعلّها لم تكن تناسِب سِنّي واهتماماتي، لكنه لاحظ فيما يبدو ميلاً عندي للعربية، فبدأ يجيب عن أسئلتي باستفاضة، وشيئًا فشيئًا كنت أترك صديقي وأجلس مع أخيه هذا لمزيدٍ من التعلّم والفهم والمعرفة.

لم يكن الأستاذ “بكر – وهو اسم شهرتِه” مجردَ معلمٍ للعربية، لكنه كان بمقاييس ذلك الزمان البعيد موسوعةً ثقافية، عَرَفت لأول مرة معه ما جائزة نوبل، وما جائزة الأوسكار، وتاريخ كأس العالم، وكتاب الخالدون مائة أعظمهم محمد، إلى آخر تلك المعارف العامة، لكن وقتنا، الذي بدأ يطول ويمتد حتى منتصف الليل، كان في رحاب العربية وآدابها، وأذكر أنني سمِعت للمرة الأولى في حياتي عن قضية الانتحال في الشِّعر الجاهلي على يديه، إذ كانت مقررةً عليه في دراسته، فشرحها لي، وشرح ردودَ العلماء عليها، كما طالعت معه كتاب “مسائل الخلاف بين نحاة الكوفة والبصرة”، كما كان يخصص لي أمسياتٍ طويلةً للحديث عن شعراءَ مختلفين في الثقافة العربية، كأبي العلاء المعري، وأبي نواس، وبشّار بن برد، والمتنبي وغيرهم.

صحيح أنني لم أكن وقتَها قادرًا على استيعاب الكثير مِما يقول ويشرح، لكنني كنت مندهشًا من ناحية، وكنت نشوانَ ذا طربٍ من ناحيةٍ أخرى.وأستطيع القول إن لمعلمي هذا أكبرَ الفضل في اتجاهي للعربية وللأدب، ولقد جعلني وأنا في تلك السن أبزّ أقراني بما تحصّلت على يديه من معارفَ وثقافاتٍ مختلفة، لكن كان أهم ما ميّزني وقتَها بينهم جميعًا تفوّقي في مادتَي النحو والأدب، حتى أنني كنتُ حِملاً ثقيلاً على أساتذتي في المرحلتين الإعدادية والثانوية.

ولقد أدرِك الآن أن الأثر الثقافي والمعرفي الذي تركه فيَّ الأستاذ “بكر” كان عظيمًا، ولقد أحمِل له من الحب والتقدير والاحترام ما يجعلني مَدينًا له في الدنيا والآخرة. أطال الله عمرَ صديقي وأستاذي عبد الرحيم السيد الزيات، “بكر”، وشُكرًا له على كل ما طوّقني به من ثقةٍ ومحبة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات