المشهد الأدبي والثقافي في قنا: من أبوتشت إلى فرشوط!

12:51 مساءً الأربعاء 16 ديسمبر 2020
أشرف البولاقي

أشرف البولاقي

شاعر وناقد مصري، يعمل مديرًا لقِسم الثقافة العامة بفرع ثقافة قنا

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

كان في نيّتي أن أكتبَ عن الحب العُذْريِّ

ذلك النوع من الحب الذي عِشتُ عمري كلَّه لا أؤمن به، ولا أعتقِدُ فيه … لقد خضتُ تجاربَ حبٍ وزواجٍ كثيرةً ومتعددة،كلما أحببتُ امرأةً عانقتُها، وكلما عانقَتْني امرأةٌ قبَّلَتني، وكلما كانت قُبلةٌ جَرى بيننا ما جَرى. 

لم يكن مِن بين هذه التجارب تجربةٌ حبٍ عذريٍّ واحدة .. ولقد كنتُ حتى الأسابيع الثلاثة الأخيرة أعتقِدُ في تلك القصةالتي وَرَدت في تراث العربيةِ مِن أن أحدَهم مرّ على عددٍ من قبائلِ العرب، بطنًا بطنًا، وعشيرةً عشيرةً، يسأل عن بنيعُذرةَ هؤلاءِ فلم يجِد!

لولا أنني أحببتُ حبًا عذريًا!

أشرف البولاقي

كِدتُ أن أكتب عن تجربتي فيه، لولا أن دَاهَمَتني رغبةٌ ملِحة في أن أكتب عن الحركة الأدبية والثقافية في محافظة قنا،ليست كتابةَ نقدٍ أو تنظير، ولا هي كتابة عن خصائصها وسِماتها وملامحها، لكنها كتابةٌ عن السكون والجمود الذيأصبح ملمحًا أساسيًا مِن ملامحها في الآونة الأخيرة.

أريد أن أكتب عن ذلك مرتجِلاً، كأنني أحكي أو أبوح أو أفضفض مع نفسي ومع أصدقائي، أريد أن أتناول مدينةًمدينة، وأقِف عند الذين غابوا عن المشهد، وعند الذين ما يزالون قابضين على الجمر، أريد أن أقف على طبيعة المكانوتاريخه الثقافي.

ليس الغرض من الكتابة المزمَعة اتهامَ أحدٍ، ولا التشهيرَ بأحد، لكن الغرضَ تأمّلُ الحالة، والوقوفُ على بعض الظواهر،والبحثُ عن أسبابِ ما قد يبدو خللاً أو ضعفًا، أو تراخيًا، أو كسلاً، أو تراجعًا.

كان المشهد منذ خمسةَ عشرَ عامًا مختلفًا تمامًا عمّا هو عليه الآن، يكفي أن أقول إن حضورًا وتفاعلاً وحركةً كانتقائمة، وإنَّ وجوهًا جديدة كانت تشرِق، وإنَّ روحًا كانت تحلّق مع كل ندوةٍ أو أمسيةٍ أو فعالية … لكن الآن يبدو المشهدُمعتِمًا وخاويًا.

لا أقصد – بما أريد أن أكتبَه – المشروعاتِ أو المنجزاتِ الفرديةَ التي ينهض بها الأدباء أو المثقفون، فهذه ما يزالأصحابها يقومون وينهضون بها، لكنني أقصد الفعلَ الثقافي نفسَه، أقصد الحركةَ الجماعية والمناخَ العام، أقصدالتجمعاتِ الأدبيةَ التي كانت ممثلةً يومًا ما في أندية الأدب، أو المنتديات، أو الصالونات الثقافية، أقصد قِلة المواهب،وجدبَ القرائح، أقصد هذه الحالةَ من اليأس أو الانطفاء التي أصابت الكثيرين فآثروا الابتعادَ .. الأمر الذي أثَّر بدورهعلى الفعل الثقافي العام، وعلى الإحساس العام بالفشل والخيبة، وهو إحساسٌ يمكن فهم دوافعه وأسبابه عند العامة،لكن عند الأدباء والمثقفين لا بدّ وأن يشكّل لغزًا محيرًا.

في ذهني ووعيي وذاكرتي حنينٌ لماضٍ قريب، كنّا نستشعر فيه التعبَ والإرهاق مِن كثرة مشاركاتنا ولقاءاتنا الأدبيةوالثقافية، كنا نستشعِر محبةً صادقة وخالصة إذا التقى بعضُنا بعضًا، كنا – كما نحن الآن – فقراءَ ومضغوطين، لكننارغم ذلك كنا فرِحين وسعداء … أمَّا الآن فثمّة كوابيسُ تعشِّش في قلوبِنا، ومآسٍ تكبرُ في صدورنا، ربما نحن بحاجةٍ إلىإعادة قراءة المشهد، ربما نحن بحاجةٍ إلى الاعتراف بأخطائنا أو خطايانا، ربما نحن بحاجةٍ إلى ثورةٍ جديدة، ربما نحنبحاجةٍ إلى تغيير دمائنا، ربما نحن بحاجةٍ إلى الحب العذريِّ الذي كنتُ أودُّ أن أكتبَ عنه، لولا أنني اخترتُ أن أكتب عنإحساس القلق والتوتر بخصوص المشهد الأدبي والثقافي المعاصر في قنا.

قنا، من سماء جوجل

أبوتشت

سأبدأ مِن بعيد، مِن أبعد نقطةٍ عن مدينة قنا، مِن (أبوتشت) التي تبلغ المسافة بينها وبين مدينة قنا حوالي خمسةوسبعين كيلو مترًا، وهي مسافة كافية للتساؤل: هل يمكن تصوّر أن هناك إنسانًا يقطع كل هذه المسافة، ذهابًا وإيابًا،شوقًا إلى الشِّعر، أو حبًا في السرد، أو غرامًا بالأدب؟

نعم، هناك مَن كان يفعل ذلك، بل هناك مَن لا يزال يفعل ذلك، دون أن يتقاضى أجرًا أو مكافأة! بل إن هناك مَن ساقتهمالمقادير ليكونوا أعضاء في مجالس إدارات أندية أدب، ومن ثم فهُم مضطرون لحضور اجتماعات دورية!

منذ عشرين عامًا كان مركز ومدينة أبوتشت مشهدًا أدبيًا مضيئًا على مستوى الكتابة الإبداعية، وعلى مستوى الفعلالثقافي أيضًا، وليس أدلّ على ذلك من عدد الندوات والفعاليات الأدبية والثقافية التي كانت تعقَد وتنظَّم هناك، فضلاًعمّا يمكن أن ترصدَه أنت كمتابعٍ لحجم وعدد الإصدارات الإبداعية التي أصدرها أدباءُ المكان، والتي ترواحت بين عشرةوخمسة كتبٍ للمبدع الواحد، ويكفي أن تستدعي كمثال عبد الجواد خفاجي، ومحمد عبد الحميد توفيق، ورجاء عبدالحكيم، ووائل عبد الوهاب، بل إن عددًا كبيرًا من أدباء أبوتشت نفسِها كان لهم حظٌّ وافر ضمن إصدارات مشروعالنشر الإقليمي، وهُم بالتحديد:

– عبد الجواد خفاجي (تأريخ لسيرة ما – كتاب البربرع – مجموعة قصصية)

– عبد الصبور السايح (الساجدون – ديوان شِعر فصحى)

– عبد الرافع الأنصاري (الليل وبُكره – ديوان شِعر عامية)

– رجاء عبد الحكيم الفولي (أرجُل يابسة – مجموعة قصصية)

– مصطفى حسين (صهيل النوافذ – ديوان شِعر فصحى)

– أحمد العوامري (باكهرب العواميد – ديوان شِعر عامية)

– عنايات طنطاوي (شعرية السرد في رواية الشيخ نور الدين – دراسة نقدية)

لكن منذ بضع سنوات، حدثَ أن انطفأ المشهد المضئ فجأة،  وعانت – وما تزال – الحركة الأدبية والثقافية في أبوتشتمن فَقْر المواهب، وقِلة الحضور والمشاركات في أي فعاليةٍ ثقافية، رغم وجود مكانيْن لممارسة النشاط، بيت ثقافة أبوتشت، ومكتبة الطفل والشباب … والمكانان الآن يمارسانِ دورَيهما مشترِكيْن في مكانٍ واحد، هو مكتبة الطفل والشباب؛بسبب إصلاحات أو تجديدات أو ترميمات في بيت الثقافة، والمكان مجهز وبه قاعتانِ صالحتان تمامًا لممارسة النشاط.

لكن أغرب ملاحظةٍ يمكن أن تلاحظها، تتعلق بعدم وجود أديبٍ واحد يسكن في المدينة نفسِها، كل الأدباء والمثقفين هناكيسكنون في قرىً بعيدةٍ عن المدينة، الأمر الذي قد يشكّل أحيانًا مشكلة في التنقل والحضور، خصوصًا إذا كانالنشاط مساءً. وآخِر الأدباء والمثقفين الذين كانوا يسكنون المدينة، هو الراحل عبد الجواد خفاجي.

ويضم نادي أدب أبو تشت أدباءَ أبوتشت وفرشوط، وعددُ أعضائه العاملين ثمانية وعشرون عضوًا، بينهم أربع إناث(رجاء عبد الحكيم، عنايات طنطاوي، مريهام قديس، نهال جمال).

مِن بين هؤلاء الأعضاء محمد عبد الحميد توفيق، ووائل عبد الوهاب، وهُمَا يعملان الآن بدولة الكويت، الأول يشاركويتفاعل حين حضورِه، بينما الآخر لا يفعل!

وخالد عبد العزيز البتشتي، وحسين عبد الهادي شكري، وعزت الديب السيد، الذين توقفوا تمامًا عن الكتابة وعنالمشاركة، ووائل النجمي، ونبيل بقطر، وأحمد ناصر، وسيد البحيري، وعمرو عادل، وعلاء رسلان، ومريهام قديس، ونهالجمال، وهُم جميعًا من فرشوط، وتَحُول المسافة دون حضورهم ومشاركاتهم، كما أن علاء رسلان انتقل للعمل والإقامة فيمدينة الغردقة.

والذين يحضرون ويشاركون على استحياء هُم عبد الباري إمام، وعبد الصبور السايح، وعبد الرافع الأنصاري، وشحاتةالعوامري، والأكثر منهم حضورًا ومشاركة الآن هُم أحمد العوامري، وعنايات طنطاوي، وكمال الحمراني، وعلي جامع،ورجاء عبد الحكيم التي هي موظفة في بيت الثقافة.

ويعتبر أحمد العوامري “شاعر عامية – له ديوان واحد”، أصغرَ مَن تولّى رئاسة مجلس إدارة نادي الأدب المركزي سِنًا،منذ سنوات، وهو رئيس نادي الأدب في أبوتشت حاليًا، للمرة الثانية.

ومنذ عودة النشاط بعد فترة كورونا، لم يحدث أن انعقدت الندوة الأسبوعية لنادي الأدب (الاثنين من كل أسبوع) دون أيسببٍ واضحٍ، إلا تلك الحالةَ التي أصابت المناخَ الأدبي الثقافي العام المتعلق بأندية الأدب على مستوى الجمهورية، إلافيما ندر!

هل قام بيت الثقافة هناك أو مكتبة الطفل والشباب بعقد ندوات ومحاضرات في المدارس؟ نعم … فَعَلا ذلك كثيرًا قبل فترةكورونا.

هل هناك أدباء جدد أو ناشئة يترددون على المكان أو يشاركون في الفعاليات التي تنعقد أو تقام؟ نعم هناك عدد قليليفعل، لكنهم لا يستمِرون في ذلك، وينقطعون بعد فترة، لكن الأهم مِن ذلك أن هناك مسافاتٍ شاسعةً وطويلة بينهم وبينما يمكن أن يَدفعنا إلى القول إنهم مبشّرون، أو إن محاولاتِهم وتجاربَهم تكشف عن مواهبَ حقيقية! اللهمّ إلا فتىً اسمه”فارس تغيان”، كان شاعرًا حقيقيًا ومبشرًا، حضر بضع مرات ثم انقطع تمامًا!

هناك مشكلةٌ كبيرة وحقيقية تنذِر بخطرٍ في أبوتشت، ولا يتحمّلها إلا الأدباءُ أنفسهم الذين توقّفوا عن الكتابة، أو الذينتوقّفوا عن الحضور والمشاركة … ويمكن القول بأريحيةٍ تامة إن الراحلَ عبد الجواد خفاجي – رغم أي تحفظاتٍ عليه – كان بطلاً حقيقيًا في أبوتشت، وجودُه كان كافيًا للبحث عنه والالتفافِ حولَه، كان يتحرك شمالا وجنوبًا، كان يَمنح دعمًاومعلومةً للمحيطين به شبابًا وكبارًا، كان يفكّر ويرشّح ويقترح، كان يَدفع مِن قوتِه وقوتِ أهلِه، مخلِصًا لنفسِه وللأدبوالكتابة.

فإذا كان وجود مثيلٍ له أمرًا صعبًا، فربما كان البديل عودةَ الروحِ للجماعة الأدبية في أبوتشت، روحَ العمل الجماعي،روحَ الحضور والمشاركة، روحَ المجاهَدة والصبر والجَلَد على الظرف الاجتماعي والاقتصادي القاسي الذي نعيشهجميعًا، روحَ الإيمان بجدوى الفنون والآداب والكتابة والإبداع.

قفط 

قِفط مدينة الحزن والحسرة والألم، قِفط تشبِه في الذاكرة الأندلس، مِن حيث الحُلم والحنين والتاريخ، ليس ثمة مدينة مِنمدن محافظة قنا يمكن أن تبكيها بوصفها أطلالاً، كمدينة قفط!

مدينة يؤكد التاريخ وجودَها وحيويتها من قبْل الميلاد، حتى أن بعض دارسي الجفرافيا أو التاريخ يعودون إلى سببتسميتها إلى حاكم فرعوني، وبعيدًا عن المكانة التي احتلتها قِفط تاريخيًا كمركز تجاري واقتصادي كبير، فإنّ تاريخهاالعلمي والثقافي والأدبي كان كفيلاً بجعلها عاصمةً تاريخية للإبداع، لكن متى كنا قادرين على الاحتفاظ بأي قيمةٍ مِنقيم تاريخنا؟!

لنترك الآن التاريخ القديم جانبًا، ولنتذكَر أن شاعر العربية الكبير “أمل دنقل”، مِن قِفط، وهو الشاعر الذي خّط برحيلِهالمبكر في شبابه أولَ سطر من سطور الحزن في عصرنا الراهن، ذلك الحزن الذي وَصفنا به تلك المدينة، إذ تحوّل رحيلهالمبكر هذا إلى ما يشبه أيقونة مأساوية على جِيد المدينة التي بدت وكأن القدر كَتب عليها أن يرحل مِن مبدعيهاومثقفيها، كل عامين أو ثلاثة، شاعرٌ أو مثقف، وكلهم على خطى “أمل دنقل”، رحيلٌ في الشباب (أشرف جيلاني، جمالأبو دقة، محمد خير غاطس، رمضان دنقل)، بالإضافة إلى الشاعر عدلي هبّاش الذي رحل بعد أن تجاوز مرحلةالشباب.

ولا يتوقف الحزن المشار إليه في قفط – في تاريخنا المعاصر – على الذي خَطه “أمل دنقل” برحيله، ولا حتى باتخاذرحيله أيقونة للتابعين مِن أدباء قفط، بل يمتد إلى صورة أقسى وأنكى وأشدّ من ذلك، صورة متعلقة بتخليد ذكرى “أملدنقل” نفسِه، في أسوأ وأردأ صورة يمكن تخيّلها، وهي صورة بيت الثقافة الذي يحمل اسمَه في قفط!

أمل دنقل

إذ يمثل عدم وجود قصر ثقافة يليق باسم الشاعر، جرحًا كبيرًا – إنْ لم نًقُل فضيحةً كبيرة – في نفوسِنا ووجوهناوضمائرنا جميعًا، رغم المتاجرة الدائمة والمستمِرة باسم الراحل العظيم سيرةً وشِعرًا وحياة .. وليس المجال الآن مجال أيحديثٍ عن الجهود، أو الوعود، أو قطعة الأرض المخصصة، أو ما إلى ذلك من كلامٍ مَر عليه أكثر من عشرين عامًا!

المهم أن في قفط بيتَ ثقافة، اسمه “بيت ثقافة أمل دنقل”، وهو عبارة عن شقةٍ ضيقة لا تصلح على الإطلاق لإقامة أيفعالية محترَمة، وكلمة “محترَمة” هنا لا تمس العاملين في المكان، ولا جهودَهم، ولا المترددين عليه، لكنها تمس قيمة أوطبيعة الفعالية نفسها.

وفي قفط أيضًا مكتبة للطفل والشباب تابعة لهيئة قصور الثقافة أيضًا، وهي مكان جميل ورائع ومجهز تمامًا لإقامةالأنشطة، لكن إذا كان بيت الثقافة موجودًا في وسط المدينة، فإن المكتبة – من وجهة نظر أهل قفط – ليست كذلك، هيليست بعيدةً عن العمران، لكنها في مكانٍ يبدو نائيًا بعض الشيء عن حركة الناس. وكثيرٌ مِن المترددين يتحفظون قليلاعلى التردد على المكتبة بحجة أن الطريق إليها ليس مأهولا، خاصةً في المساء.

لا يمكن الزعم أن الندوة الأسبوعية (الأربعاء مِن كل أسبوع) تُعقَد بانتظام، كما لا يمكن القول إن عدد حاضريها مُرضٍإنْ عُقِدت.

ولأن حزنًا واحدًا غير كافٍ لمدينة بحجم قفط، فلا بأس بمزيد من الأحزان، يتمثل بعضها في رصد ظاهرة يبدو ظاهرهاصحيًا وجميلا وبرّاقًا، لكن باطنها فيه من الألم ما فيه، إذ تتميز هذه المدينة عن غيرها من مدن قنا – فيما يخص الأدباءوالمثقفين – أن عددًا كبيرًا مِن أدبائها أو مثقفيها حاصِلون على درجاتٍ علمية – الدكتوراه تحديدًا – منهم – مع حفظالألقاب – (محمد أبو الفضل بدران، إبراهيم الدسوقي، إبراهيم خليل، جمال عطا، ممدوح النابي، محمد عبد الحميدسلامة، محمود البعيري، هاشم الكومي، محمود السمان، منى شارد، وآخرون) وبينما يعمل الدكتور بدران، والدكتوردسوقي بالجامعة، لا يجد الآخرون مكانًا في أي جامعةٍ مصرية، رغم أنهم في سِنِي الشباب، ورغم أن منهم نقادًاكبارًا، ومثقفين حقيقيين، ورغم أن إنتاجهم ومشاركاتِهم العلمية مطبوعة ومتداولة في مصرَ وعددٍ من الدولة العربيةوالأجنبية!

ورغم وجود هذا العدد من الحاصلين على درجات علمية رفيعة، إلا أن أثر ذلك على النشاط الاجتماعي والثقافي في قفطغيرَ ملموس، وغيرَ ذي أثرٍ يتفق مع ما ينبغي أن يكون، فـ قِفط تعيش حياتها كما تعيشها أي مدينةٍ أخرى في قنا.

وكل هؤلاء أيضًا أعضاء هناك في نادي أدب أمل دنقل بقفط، وهو النادي الذي يبلغ عدد أعضائه العاملين سبعةَ عشرَعضوًا، فيهم ثلاث إناث (سناء مصطفى، خيرية عبد المطلب، نجوى محمد الأمين) تَحضر وتشارِك وتتواصل الأولى،بينما الأخيرتان غائبتان عن المشهد! ويشكّل نادي الأدب هناك أقلَّ أندية الأدب عددًا في محافظة قنا، متساويًا في ذلكمع نادي أدب دشنا، مِن بين أندية الأدب السبعة في المحافظة.

مِن المشاركين في أنشطة الثقافة وفعالياتها في قفط (إبراهيم خليل، ويحيي أبو عرندس، وسناء مصطفى، ومحمودالبعيري، وحارس كامل يوسف، ومحمد عبد الحميد سلامة) وممدوح النابي، وجمال عطا، كلما جاءا من عملهما خارجمصر، وهاشم الكومي الذي يعمل الآن في جامعة أسيوط.

مِن الشعراء الكبار في قفط، الأستاذ سيد خضير، والذي كان منذ عشرين عامًا مشروعًا شعريًا حقيقيًا وكبيرًا، لكنهتوقف فجأةً عن الكتابة، وتوقف عن التواصل والحضور والمشاركة، ومِن أدباء فقط الذين يعيشون الآن في مدينة قناالشاعران سعيد عباس الصادق، وسند مغيربي، والباحث هاشم الكومي، وهناك عدد آخر من الشعراء والمثقفينيشاركون على استحياء، منهم (عبد الباسط سعد، المستشار أحمد أبو دقة، أحمد الجارد، سيد غريب البراهمي،وصلاح الدين جودة، وصابر الخواجة، ومحمد عباس محفوظ، أشرف بدري الشاوش) والأخيران يقيمان الآن فيالقاهرة. وهناك غيرهم مما لا تسعِفني آلية الارتجال عل تذكّرهم الآن، لكن من المهم الإشارة إلى عماد إبراهيم النابيالذي غاب طويلا وعاد الآن حضورًا ومشاركة.

وقد صدرَ لعددِ من أدباء فقط مطبوعاتٌ ضمن مشروع النشر الإقليمي للفرع، وهُم السادة:

– سعيد الصادق – قطرات من سُحُب الأحزان – ديوان شِعر فصحى

– جمال أبو دقة – رماد التوغل في الأسئلة – ديوان شِعر فصحى

– هاشم الكومي – المكان وأبعاده النفسية – دراسة نقدية

– سيد خضير – مقطع من كتاب ضُحى – ديوان شِعر فصحى

– عبد الباسط سعد – بطعم القِرفة – مجموعة قصصية

– أحمد الجارد – أدبيات الطفل الشعبية في قنا – دراسات شعبية

– يحيي أبو عرندس – زمن الموت- مجموعة قصصية (في المطبعة)

بعيدًا عن نادي الأدب، لا يوجد في قفط أي منتدى أو صالون ثقافي أسبوعي أو شهري، لكن كان هناك حدثٌ أدبيوثقافي سنوي يقيمه المستشار أحمد أبو دقة، تكريمًا لذكرى الشاعر الراحل جمال أبو دقة، ربما يكون توقّف فيالعامين الأخيرين … ومِن المدهش أن قفط لا تشهد أي فعاليةٍ دوريةٍ تخليدًا أو احتفالا بشاعر مصرَ الكبير أمل دنقل،الذي يحمل بيت الثقافة ونادي الأدب اسمَه! صحيح أن هناك مؤتمرًا يتيمًا عَقدته وزارة الثقافة منذ سنين، وصحيح أنهناك احتفالية أقامها الفرع منذ سنين أيضًا، لكننا نظن أن أمل دنقل وتجربته يستحقان مؤتمرًا أو احتفالية سنويةثابتة، بل إن فقط نفسها تستحق حراكًا أدبيًا وثقافيًا يليق بتاريخها، ويليق بقدرات معاصريها من الأدباء والمثقفين، وهذاالحراك لن تشعل فتيلتَه مؤسسة رسمية، لكن سيشعِلُه أهلها إذا أرادوا.

وقد شهدت مدارس قفط، بكل مستوياتها، خلال السنوات العشر الأخيرة، شأنها في ذلك شأن كل مدارس المحافظة،عشرات المئات من الندوات والمحاضرات، أملاً في اكتشاف موهبة، أو رغبةً في جذب الناشئة إلى الفنون والآداب، لكنالنتيجة كما تعلمونها جيدًا.

فرشوط 

لن نجِد نموذجًا أفضلَ مِن فرشوط، للمقارَنة بين ما كان وما هو كائن، وللتدليل على أن مناط الفعل الأدبي والثقافي ليسمرهونًا لا بالمؤسسة، ولا بحجم الكتب والمطبوعات، ولا حتى بعدد الأدباء والمثقفين، لكنه مرهون فقط بالروح الإبداعية،بالرغبة والأشواق، ونبدأ الحكايةَ بالصلاةِ على النبي العدنان، ونقول كان يا ما كان، منذ أكثرَ من خمسة وعشرين عامًامن الأزمان، أربعةٌ مِن شباب الكتّاب والأدباء الفرسان.

كانوا مخلِصين لأحلامهم وأشواقهم، ينتقلون من مدينتهم إلى كل مدن محافظة قنا، وإلى القاهرة أحيانًا، يشاركون فيكل نشاطٍ وفعالية، بل يحرصون على إقامة ندوات وأمسيات شعرية ونقدية وقصصية، بمناسبةٍ وبدون مناسبة، اثنانمنهم مِن كتّاب القصة (إسحاق روحي الفرشوطي، ونبيل بقطر بشارة)، وشاعرا فصحى (علاء رسلان، وتمّام مخلوف) ورغم أن الأخير كان أقلّهم حماسًا وتمردًا، بسبب ثقافته وتجربته المحافِظة التقليدية، إلا أنه كان حاضرًا وموجودًا، ممثلاًلهم، وممثلين له.

كان هناك غيرهم بالتأكيد، لكن هؤلاء كانوا شبابًا صغارًا مبشّرين، يملأهم الحماس والرغبة في إثبات الوجود، وكانواأكثر مشارَكةً وحضورًا من غيرهم.. فماذا حدث؟

حدث أن دارت الأيام دورتَها، واتجه القاص “إسحاق روحي الفرشوطي” للصحافة، فانتقل إلى القاهرة، وصار رئيسًالتحرير جريدة “منبر التحرير”، ولا تسعفني الذاكرة كي أتذكر إنْ كان قد أصدر شيئًا من إبداعه القصصي أم لا،لكنني أذكر أنه أصدر كتابًا منذ بضع سنوات بعنوان “أشياء عن النيل والأنثى والبكاء وما بينهم – نص”، وانقطع تمامًاعن الحقل الثقافي الإبداعي بمعناه المتعارَف عليه بيننا الآن.

بينما ظل “نبيل بقطر بشارة”، مخلِصًا للقصة القصيرة، وأصدر مجموعتين وعدةَ كتبٍ أخرى، وأوكَل إليه إسحاق روحيمهمةَ الإشراف على الصفحة الأدبية في “منبر االتحرير”.

ورَحل عن عالمنا الشاعر “تمام مخلوف” في ريعان شبابِه، وكان – رحِمه الله – شاعرًا يكتب القصيدة العمودية، واستمر”علاء رسلان” في الكتابة، وهو واحدٌ مِن الذين كَشفت قصائده الأولى عمّا ينتظره من مستقبلٍ شِعري كبير، لولا أنتَعطّلت تجربته بسبب الكسل من ناحية، وبسبب إخلاصِه لعمله الوظيفي، حيث انصرف “رسلان” إلى عمله الوظيفيهذا بجدٍ ونشاطٍ واجتهاد، وأصبح مديرًا في التربية والتعليم، وحقق نجاحاتٍ وظيفيةً كبيرة، الأمر الذي أثّر – مِن وجهةنظري – على تجربته الشعرية، وأظنه لم يصدِر إلا ديوانًا شِعريًا واحدًا حتى يومِنا هذا! وها هو أخيرًا يترك فرشوطويذهب عملاً وإقامةً في مدينة الغردقة.

في تلك الفترة البعيدة، كانت فرشوط جزءًا فاعلاً في النشاط الثقافي والأدبي بمحافظة قنا، ولم يكن الأمر مرتبطًا بوجودقصر ثقافة كبير، ولا حتى بوجود أدباء كبار متحققين يقودون المسيرة، فقط كانت الروح، وكان الإنسان المبدع والمثقف.

ثم مرت سنوات وظهرت أجيالٌ جديدة، مِن بينهم (وائل النجمي، فيصل سليم، سيد البحيري، أحمد ناصر، أيمنالعضيمي، عبد الرحيم فرج العسيري، نصر الدين أنور، ولاء حمدون، ناصر كمال) والمقصود بظهورهم هنا، ظهورهمفي المشهد، وليس ظهورَهم في الحياة.

لكن ظهورهم هذا جاء – لسوء حظّهم وحظّنا – في تلك الفترة التي بدأ فيها التراجع الذي نتحدث عنه، ظَهروا مع انطفاءالحماس، وانشغال الناس بكل شيء إلا الأدبَ والكتابة.

في مدينة فرشوط بيت ثقافة، لكنه شقة صغيرة ضيقة، غير صالحة لأي فعالية ثقافية، ولا يوجد ببيت الثقافة نادي أدب،وسَبق لنا أن ذكرنا ونحن نتحدث عن أبوتشت، أن نادي أدب أبوتشت هناك يضم عددًا من أدباء فرشوط (وائل النجمي،ونبيل بقطر، وأحمد ناصر، وسيد البحيري، وعمرو عادل، وعلاء رسلان، مريهام قديس، نهال جمال) ولقد يحاول الأستاذوائل النجمي كل عام تأسيسَ نادي أدب مستقِل بفرشوط، دون أن تُكلّل جهوده بالنجاح حتى الآن.

ولقد رحل عن فرشوط هذا العام واحدٌ من كبار شعرائها، وهو الشاعر الشيخ محمد مسعود الزليتني – رحِمه الله – الذيكان علامةً في سيرته وفي قصيدته العمودية، لكن الرجل لظروف عملِه الديني لم يكن مِن المشاركين في النشاط الأدبيوالثقافي إلا قليلا، رَحل ليلحق بسابقَيِه، تمام مخلوف، وفيصل سليم، ويوسف الشرافني.

ومِن هؤلاء الغائبين الذين لا يشاركون كثيرًا أيضًا الشاعر عبد الرحيم فرج العسيري، ومِن فرشوط أشرقت منذ عامين أوثلاثة شاعرةٌ واعدة ومبشّرة “ولاء حمدون”، لكنها اختفت فجأة، ربما بسبب ظروف العمل أو الزواج.

مصطفى عبادة

ومن طيور فرشوط المهاجرة إلى القاهرة، الشاعر والصحفي مصطفى عباده (صَدر له ديوانا شِعر)، يعمل في مؤسسةالأهرام، وشقيقه الدكتور صلاح عباده.

ولم يَصدر لأدباء فرشوط إلا كتابٌ واحد ضمن مشروع النشر الإقليمي للثقافة الجماهيرية، وهو كتاب “سبعة أيامسفر”، مجموعة قصصية لـ نبيل بقطر 2012

ليس في فرشوط أي نشاطٍ ثقافي مشهود ومميز بعيدًا عن النشاط الذي تنهض به المؤسسة الثقافية التقليدية، هناكمراكز شباب بالطبع، لكن ليس ثمة منتديات ولا صالونات ثقافية، هناك جمعية “نما لحقوق الإنسان والتنمية”، وهيجمعية أهلية، يرأس مجلسَ إداراتها الأستاذ وائل النجمي – فيما أظن، وهي مَعنيةٌ بالعمل الخيري والتطوعي، ولقدتشهد هذه الجمعية بعض الفاعليات الثقافية، ولكن على استحياء، لأن عملها الأساسي هو التنمية والمساعداتالاجتماعية.

وهكذا يبدو المشهد مأساويًا بالفعل في فرشوط، فالذين يمكن أن تشير إليهم باعتبارهم فاعلين ومشاركين، قد لايتجاوزون عددَ أصابع اليد الواحدة، وكلهم دون استثناء يركنون إلى الكسل الإبداعي، مقصّرون في حق أنفسهم وفيحقنا معهم، وربما يعود ذلك إلى المناخ الثقافي العام، ومشاعر اليأس والإحباط التي نعاني منها جميعًا، والتي تؤثردون شك على عمليات التواصل والكتابة والرغبة في التحقق، وليس أدَلّ على مشاعر اليأس والإحباط تلك، مِن أنالأستاذ وائل النجمي كان قد اختفى عن المشهد الثقافي – منذ سنين – مقررًا العزلةَ بعيدًا عنه، رغم ما كان يتمتع به منحيويةٍ وحضورٍ ونشاط، لولا أن قيّض الله له ولنا عددًا من أصدقائه نجحوا في إقناعه بالعودة، الأمر الذي استجاب لهليعود بيننا ومعنا مرةً أخرى.

ربما كانت فرشوط بحاجةٍ إلى نبي، ربما كانت بحاجةٍ إلى معجزة، ربما كانت بحاجةٍ إلى ثورة، كل شيء فيها بائسٌوفقير، حتى أن المؤسسة الثقافية تجد عنتًا كبيرًا في إقامة أنشطتها التقليدية في المدارس – قبْل كورونا – بسبب عدمتَفهّم بعض مديري المدارس للبروتوكولات الموقّعة بين وزارة الثقافة والتربية والتعليم!

هكذا يبدو كل شيء هناك بائسًا وفقيرًا، بدءًا من المكان – بيت الثقافة – مرورًا بعدد الأدباء والمثقفين، وليس انتهاءبموات الفعل الثقافي، وندرة المنتج الأدبي الجديد، حتى أنك لو تساءلت عن كتّاب السرد، فلن تجد إلا كاتبًا أو اثنين، ولوتساءلت عن شكل القصيدة وتطورها ومستوى التجريب فيها، فسيقال لك إن فيها شاعرًا واحدًا فقط يكتب قصيدة النثر! ولا أحد يمارس النقدَ إلا وائل النجمي، ويظل حُلم سيد البحيري، وحُلمنا معه، أن يطبع ديوانَه الشعريَّ الأول.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات