بيروت في رواية “الأثير”

11:04 مساءً السبت 26 ديسمبر 2020
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

قدمت السيدة (ميرامار سنتينا) هذه الدراسة البديعة (بيروت في رواية الأثير). وهي دراسة أدبية وأكاديمية شاملة لرواية الأديبة والأكاديمية اللبنانية د. إيمان بقاعي (الأثير)

الغلاف

كتبت ميرامار سنتينا:

عندما وصلتني نسخة من رواية (الأثير)، طلبتُ من حفيدتي التي قرأتها الكترونيًّا ونصحتني بقراءتها كونها تحمل كما قالت لي حرفيًّا: “عبق بيروت ووجعها”، أن تطبعها لي على ورق، فلم أستطع أن أتركها قبل أن أنجز قراءتها أول مرة في جلسة واحدة، علمًا أنني قرأتها مرتين عندما قررت الكتابة عنها.وكوني ابنة بيروت أبًا عن جد، بل ابنة ما أُسمي “بخطوط التّماس”، وابنة اللّغة العربية التي أمضيت عمري أدرّسها إلى أن تقاعدت قبل بضع سنوات: “تنفسْت بالمعنى الحقيقي والمجازي” بيروت من خلال هذه الرّواية.ولن أتحدث عن تفاصيل الرّواية أو مقدمتها وعقدتها وحلها والطّريقة الفنية التي استخدمت الكاتبة اللّغة فيها وسيلة وغاية، إذ اتصفت بالذّاتية التي لا تشبه لغة أحد ممن سبق وأن قرأت لهم، وبالتّأثير والجمال والإيحاء والانزياح عن التَّعبير الوظيفي الصّرف نحو الإيقاع المكثف، فحضرت الكاتبة فيها حضورًا حقيقيًّا حيويًّا مميزًا؛ بل سأتحدث عن “بيروت” فيها، والتي تبدأها الرّوائية من مبنى تراثي “بيروتي” عريق دقيق الوصف بدءًا من المدخل فالمصعد، وانتهاء بالشّرفات والشّبابيك، والتي يُظهر بطل الرّواية الملقب من قبل البطلة بـ (الأثير)، ولا يوجد إشارة طوال الرّواية إلى اسمه أو اسم البطلة [؟!] إعجابه به من خلال إصراره على الانتقال إليه قبل سنوات، وشكره الله بأنه نجا ومبنى آخر في الشَّارع الموازي من “تفجير” المرفأ [وأنا أؤيد الكاتبة في استخدام لفظة “تفجير”، لا “انفجار”].

وبدا واضحًا، من خلال انتقال بطلة الرّواية من مكان اللّقاء، في الفصل الأول، إلى “شارع الحمراء” أن “مبنى الدّراسات المسرحية الأكاديمية” موجود في “الأشرفية”، يعني في قلب بيروت، وانتقالها إلى “الحمراء”، قلب بيروت أيضًا، مرورًا بالمرفأ الذي أسمته الرّوائية بـ “مرفأ العزّ”، [وهي تسمية موفّقة]، فتتوقف البطلة عنده توقفًا وجدانيًّا مفعمًا بالأحاسيس الأبعد ما تكون عن البكاء والصّراخ وعرض العضلات، متألمة مع من شيَّع من أهل ضحاياه “بدمع القهر أذنًا، ذراعًا، عظمة محروقة- أو ربما مسحوقة- لحبيب […]سيظل جمرًا يتلظى متوثبًا تحت حُرقة أن الحبيب لن يعود”، تاركةً المكان وقد “بوركت رئتاها بتنفس ذرات مَن رقد في سماء هذا المكان ناظرًا إلى من بقي حيًّا على هذه البقعة بشفقة من فوق”. علمًا أن مناطق بيروتية أخرى ذكرت في الرواية: “بدارو” التي كانت واحدة من خطوط التّماس، و”ضبية”.

ولفتتني مقارنة الحياة في أجواء (كورونا) بين بيروت وغيرها من البلدات، فنرى البطلة تتـأمل الحياة في بيروت، فتصفها، رغم الأوضاع السّياسية والاقتصادية والمرَضية المتردية بأنها: متنوعة، حيوية، بعيدة عن “شبح رعب هجوم الجائحة” كما هي الحال في بلدتها السّاحلية في ظل أزمة (كورونا)، [وقد لفتني تحفّظ البطلة المتأثر بأجواء بلدتها في الفصل الأول، مقابل ضحك البطل وهو يتأمل تحفّظها، ولم أكن لأستطيع تفسيره لولا وصف البطلة المقارِن هذا بين بيروت وبلدتها]، وربما هذا ما دعاها إلى التّريث في المكان إلى درجة الاستمتاع بعجقة السَّير التي يقابلها هدوء الضّجر في بلدتها الذي إن خُرق، خُرق من قبل مجموعة الرّجال العجائز المنتشرين في البلدة بحجة ملاحقة الشّمس، أو انتظار بناء مغارة الميلاد، بينما هدفهم التّشهير “بأهل من ماتوا متكَورنين”.

ثم تنتقل البطلة نحو (وسط بيروت)، فيما تدعوه بـ”أمكنة البطل”، وتقصد حيَّه الذي ما زال قسم منه مهجورًا من أيام الحرب الأهلية (1075-1990)، رغم إزالة الركام وقيام بنايات شاهقة مكان ما هُدم أو بِيع بانتظار التّواصل مع أصحاب البيوت القديمة الباقية أو ورثتهم ممن “هاجر” أو “هُجّر”.وهنا تعود البطلة إلى (بيروت) التي أخبرها عنها البطل “قبل ست وعشرين سنة” عندما زارتها مرات معه، فتطالعنا أجواء الحرب الأهلية، ومقتل صديقه “طارق”، ومقتل مؤرخ علماني كان يقيم في الحي بعد خطفه وتعذيبه.

ويطالعنا منظر بيوت أثرياء بيروت ومم تتكون هندسيًّا. وقد شرح بطل الرّواية، وهو مهندس، التّفاصيل الدّقيقة من خلال التَّوقف عند بيت “أبي صلاح”، فذكر لها: “فتحات التّهوئة، والتّتخيتة، والعرزال، والسّلمين الحجريين، والمسطبة، والدار البرانية، والمعبور، والإيوان والقناطر والبوائك، والجنائن”، بينما لم يستطع أن يمارس مهنته وهو يستضيفها في بيته الصّغير “المكلوم”، خائفًا من الصّعود إلى “العلّية” حيث كان وجدّتَه يقطفان النّجوم، وحيث كان يقرأ ويعزف على العود. [مع أنني تمنيت لو كانت حالته النّفسية أفضل، فيشرح للبطلة أكثر عن أهمية العلّية في البيوت البيروتية، كما تمنيت أن يصعدا إليها معًا.

ولكنني شعرت بما شعر به، وعذرتُه وربما كنت تصرفت مثل ما تصرف لو كنت مكانه، فخرجت على عجل موجوعة، متلمسة في جيبي مفتاحًا مصيره إلى جيب متعهد، خاصة وأن الكاتبة أشارت عند وصولهما إلى بيته بأنه معروض للبيع، شأنه شأنه البيوت البيروتية طبعًا].وهنا لا بد لي أن أشير إلى براعة تلازم الوصف الخارجي بالوصف النّفسي، إذ لا يمكنك أن تمر بتلك الأزقة والبيوت والأشجار في الرّواية وما آل إليه مصيرها أو يؤول أو ينتظر دوره ضمن صفقات الاستبدال المشبوهة طالما المفتاح موجود والتّجار، بأنواعهم، موجودون.

وإذ أجادت الرّوائية إخفاء أية منطقة قصدت بـ”أمكنته” فيما كان يُعرَف وقتَها بـ “الغربية” و”الشّرقية”[رغم أنها أوردت التّسميتين في الرّوايةِ ولكن في غير منحًى!] متفادية، [قصدًا على ما أعتقد]، التّطرق إلى موضوع التَّقسيم على أساس الدّين، كما كان يُسَوَّق له، والذي أشارت إليه، بوجع، على لسان البطل وهو يشرح للبطلة أن كل ما جرى إنما هو تنفيذ لمخططات “استراتيجية حرب المدن التي يفترض أن تتحول فيها الأحياء إلى جبهات قتال لا تلبث أن تتطهر من رافضي الحرب”، وإن جاء تحت أسماء لا تمتّ إلى حقيقته بصلة، فقسمت الكاتبة بيروت، على لسان “الأثير” البيروتي، إلى: “هنا وهناك”، فأصاب أهلَ “هنا” ما أصاب أهلَ “هناك”، بمعنى أن ما جرى لكلا الطّرفين الموجودين على ضفتي خطوط التَّماس هو “واحد” هدفه: المغادرة والغدر، راميةً بعيدًا تقسيم “مسلم” و”مسيحي” الذي عُمل على جعله وقودًا لحرب قذرة.وفي (أثير بيروت) ذاكرة شمّية وتذوقية لافتة: فبمجرد اتخاذ قرار لجوء البطلة إلى “أمكنته”، تذكرت بإيجابية [وقد أحببت إيجابيتها، إذ أظهرت شخصية من بداية الرّواية إلى نهايتها متصالحة مع نفسها، وتعرف ما تريد وتسعى إليه]: “أطيب كأس عصير”، وأطيب رز بحليب، وأطيب فلافل”، وفوجئتُ وأنا أقرأ تفاصيل طبخ الأرز بحليب بتفاصيل لم أكن أعرفها!

وكدتُ أتذوق كل ما تذوقَتْه معها، ولعلّي عرفت أسماء هذه المحلات، ولكنني لست متأكدة أنها اليوم على الجودة نفسها، مع أنني أعرف أن للحالة النّفسية، وقد أشارت البطلة إليها من طرف خفي، تأثيرًا على شعورنا بالطّعم، والدّليل أنها، عند تذوّقها هذه الأطعمة بعد ست وعشرين سنة، كرّستها “الأطيب”، وكأنها تكرس بذلك “أثير” بيروت بأنه ما زال هو وأطعمته وأشربته: “الأفضل”! ولا أعرف إن كان طعمُ القهوة التي شربتها البطلة في “الحمراء” بطعم “عكَر الزّيت والحُلبة والحلتيت” سيتغير لو أنها شربتها نفسها معه سابقًا في “أمكنته”؟!

وفي إطار هذه الذّاكرة أيضًا، تناهت إليها في زيارتها وحدها إلى “أمكنته”، رغم اختفاء معالم البيوت وحدودها [وهنا أوجعتني قضية المفاتيح التي لم تذكرها الرّوائية في هذه الفقرة، ولكنني استدعيتها وأنا أتذكر مفتاحه المنتظر متعهدًا] روائح طبخ لذيذ مألوف، كحساء العدس، أو “الشيشبرك”، أو حلوى “المفتقة” العائدة إليها من مطابخ زمن أمهات ما قبل الحرب والجدات.

وهنا أود الإشارة أن البطل لم يرافق البطلة في رحلتها البيروتية التي دامت حوالي تسع ساعات، بل رافقتها انزياحات قصتهما الزّمانية والمكانية ورافقناها كقراء، فطافت بنا وكأنه هو الذي طاف.ويخيل إلي أنها أحسنت إذ بحثت في “أمكنته” عن “الصعوبات” التي أشار إليها في الفصل الأول ولم يغص في التّفاصيل، إذ لو غاص لما ذهبت لتبحث، ولما أرّخت لنا بهذا الأسلوب الأدبي حقبة من الحقب المريرة التي طالتنا سهامها بنسب متفاوتة.

كما أحسن إذ أصر على عدم استخدامه العبارة التي تمنت لو استخدمها “كنت غاطسًا في الشّغل”، وإلا ما سمعنا شيئًا مما سمعناه في هذه الرّواية.أما مغادرة “الأثير” بيروت إلى “أمكنتها”، وإن بوقت أقل من الوقت الذي كرسته هي له، اللهم إلا إن أضفنا إلى وقته الأوقات التي مر بها خلال سنوات ما أسمتها البطلة “بالعقوبات” [الغريب أنها لم تحس بها إلا عندما أخبرها!!!] ببلدتها ولا أعرف إن كانت تستكمل تسع ساعات، خاصة وأنه وصف هذه البلدة بأنها “ليست طوكيو”.

ولكن مغادرته مدينته التي يربطه بها انتماء يشبه انتمائي الشّخصي وانتماء أهل هذه المدينة: متين، عاطفي، وجداني، نفسي، هذه المغادرة هي مغادرة مؤقتة، يستدعي فيها رحلتهما إلى تونس، ويمارس هوايته في المزاح أثناء انتظار عودتها، فيفترض حوارات لم تحصل، ويحصل على أجوبة لم تُجب، كما يفترض توقعات قد تحمل نتائجها بعض الشّك، فيقطف نجومًا وأحجارًا كريمة تحقق الأمنيات أو “التّوقعات”، ولو رافقها في رحلتها إلى أمكنته التي لا يعرف عنها شيئًا، لما احتاج إلى برَكة الغزال ذي الحافر الفضي، وإن كانت برَكة الجدة محتاج إليها في كل الظروف.الرّواية، بأسلوبها، بلغتها، بكثافتها الوجدانية والإنسانية، بعمق تحليلها النّفسي للصراع الدّاخلي في شخصية بطليها، رواية تقرأ أكثر من مرة، وأعتبرها من هدايا عام 2020 القليلة الحلوة.

ميرامار سنتينا، بيروت 25\12\2020

Love


2 Responses to بيروت في رواية “الأثير”

  1. د. إيمان بقاعي رد

    27 ديسمبر, 2020 at 10:06 ص

    شكرا لنشر مقال عن روايتي (الأثير)

  2. Obada Obada Mohab رد

    17 يناير, 2021 at 11:34 ص

    مقال الاستاذة / ميرامار سانتينا .. قطعة ادبية بليغة، ، دراسة نقدية رائعة، تنم عن ثقافة ، وسعة افق واحاطة، بلغت القمة بالتعبير والاحاطة بالرواية ، واحداثها، وقرات ما بين السطور ، ،فاضاءت النص الابداعي ، اضاءات كشفت وابانت عن مواطن الجمال، فجاءت تلك الدراسة، مكملة للنص الاصلي، وكتبت بلغة شعرية رقيقة ، تسري في جوانبها، روح جميلة تضفي جوا وعبقا، يرتقي ويسمو بالقارئ، وياخذ بيده ، وتصحبه كأنها مرشد سياحي يتجول به في ثنايا الرواية وينتقل به في شوارع بيروت ، ويتوقف عند اماكن كثيرة، وهو ياكل سندوتش فلافل ، ويتذوق ارز بالحليب ، ولا ينسي يشرب عصير البرتقال، وتنتقل الاستاذة ميرامار ببراعة وذكاء بالقارئ بين الفصول ، وعندما يصل الي خاتمة ، المقال ، يعود مرة اخري لقراءته … لقد ابدع قلم الاستاذة ميرامار، فهذه الدراسة بحق هي قراءة ابداعية جمالية ساحرة، وان من البيان لسحرا، شكرا ، شكرا استاذتنا الفاضلة، وبارك الله قلمك وسلمت اناملك و

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات