إلى الشاعر صلاح ستيتية: راقب طيورك كيف تمحو المسافة بأجنحتها

01:55 مساءً الأربعاء 6 يناير 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
الشاعر والكاتب اسماعيل فقيه، بيروت

الى صديقي الشاعر السفير صلاح ستيتية، قبيل وفاته وبعد وفاته ، (راقب طيورك كيف تمحو المسافة بأجنحتها).
كتبتُ قبيل وفاته بأسابيع التالي: علمتُ ،فجأة، أن صديقي الشاعر الكبير والسفير الدبلوماسي صلاح ستيتية قرر ممارسة عادة غريبة! وما هي هذه العادة؟ ممارسة الإنتظار، ولكن انتظار ماذا؟ إنتظار الموت.

نعم صديقي قرر إنتظار الموت بهدوء وربما بفرح.فقد علمت من صديق مشترك بيننا،ولاحقاً من الشاعر نفسه،أنه قرر بيع كل ما يملك من تحف ومقتنيات فنية نادرة وعرضها في مزاد علني ويعود ريعها للمؤسسات الإنسانية.صديقي الشاعر الذي يكتب بالفرنسية ويعيش في باريس تربطني به علاقة وثيقة تتعدى كل المعاني وتصل الى عمق القصيدة التي ننطلق منها الى الحياة.هذه الحالة التي يمرّ بها صديقي الشاعر جعلتني أقف أمام مرآة كبيرة،لا يمكنني الخروج من إطارها،لذلك كان من واجبي،وبدافع من شعور لولبي في روحي ان أعود الى الشاعر والطلب منه العودة الى مناخ عاشه بفرح وشعرية كاملة.اتصلت به وتمنيت أن يتوقف  عند حدود المسافة الملتهبة،وأن يبتعد قليلاً عن الجوهر الملتهب،لكنه بقي في مساحته اللاهبة.. قلتُ لصديقي لا تستعجل،توقف،خذ حذرك ولا تكن في أسر رهافتك،ولكن لم يكن للكلام سوى شعور اللمسة العابرة على كتفه..ولأنني على دراية وافية بجوهر القصيدة التي يكتبها صديقي الشاعر،كان لا بد لي إلاّ أن ألاقيه في قلب القصيدة،علّني أخفّف من وطأة انتظاره وعذابه،فجلست الى نفسي وكتبت قصيدتي(راقب طيورك كيف تمحوالمسافة بأجنحتها).وبعدما أنجزتها،شعرت بأنني قدّمت الى صديقي ما يحتاجه،وبالفعل وصل الجوهر ،جوهر القصيدة الى صديقي،ولمعت في عينيه وروحه.تلقّفها صديقي ،وصارت ومضة لا تغيب عن باريس،بعد أن ترجمها الشاعر عيسى مخلوف الى الفرنسية ،ونشرت في أهم الصحف الفرنسية.

صلاح ستيتيه، وإسماعيل فقيه في باريس


 (الى صلاح ستيتية،شاعر ينتظر الرّحيل)
(شعر : إسماعيل فقيه)
لا تستعجل
تمهّل
لا تُحدّق كثيراً في مسافة الغياب
خذ وقتك وانتظر
راقب غاباتكَ وما فيها
ما فوقها وما تحتها
راقب بحاركَ التي تعلوها الطّيور
راقب طيوركَ كيف تُحلِّق
كيف تمحو المسافة بأجنحتها
وكيف تحمل براثنها بأمان وطمأنينة
راقب نومكَ المتيقّظ
نُعاسكَ القويّ الشّرس
انظر جيداً
تمعَّن برخاوة رئتيك وصلابة أنفاسك
حدِّق أكثر
ستسمع صحوتكَ الكُبرى
تتحسّس شهوة نظراتكَ
سترى أيامكَ كيف يذوب سواد ليلها ببياض نهارها
وكيف تمحو المياه العطش
وكيف يمحو العاشقان بعضهما بعناقٍ وقُبلة
تفقّد ذخيرة عينيك
سترى وتتلمّس وتتحسّس وتعشق أكثر
ستعثر على شهوة يدك
وما تحتوي من معدن وخشب ومياه
لا تستعجل
تمهّل
المرآة الصّافية المُلتهبة ما زالت على  لهبها
جوهركَ المُلتهب سيلتهب أيضاً
ما زال الثّلج في أوّله
الذّهب في بريقه
ولسوف تسمع رنينه
وترى أكثر مما رأيت
كمن يغتسل برعشة الأنوثة
أراكَ شاهقٌ تشهق
يشهق معكَ الأزرق الأكبر
تحمل أمتعتكَ بخفّةٍ وحبّ
ترفع يدكَ وتلوّح
تضحك وتتألّم مع روحك
تلوذ داخل عينيك وقلبك
تتهيأ للقفز الى الأعلى
أعلى مما أنت فيه
ولكن
تمهّل
لا تستعجل
خذ بيدكَ
اعصف وتنزّه مع الرّيح والنّسمة
انعطف في كلّ اتّجاهٍ
أدخل
أخرج وحلِّق
اهبط في الكهف الأخير
نظرةٌ من يدك
صرخةٌ من خطواتك
تدكّان أسنان عتمته وظلمته
لا تستعجل العبور
تمهَّل
نُريد أن نسمعك
نتزوّد من نِعَمِ كآبتك
تطهو لنا الرّعشة والنّغمة قبل الدّهشة
نقرأ أوراق غيابكَ
نتناول مرضكَ الشّهي
ونشفى معك
ثمّ لا تنسى:
مرضكَ قمرٌ
أوجاعكَ تُحمّص السّنابل
تخبز الرّغيف
وأنكَ وارفٌ
تُظلّل نسراً
يتبعكَ الأعمى لملاقاة أسراب البجع
ثماركَ في أعلى الصّيف
تتدلّى الى باقي الفصول
تحوطكَ وردة العالم
بشعوب عطرها وجيوش أنفاسها
دموعكَ ثقيلة
ومياهكَ مضغوطة
بلغت الذّروة
يُمكن تخصيبها
فوراً

One Response to إلى الشاعر صلاح ستيتية: راقب طيورك كيف تمحو المسافة بأجنحتها

  1. محمد درويش الاعلامي الشاعر رد

    6 يناير, 2021 at 2:42 م

    من أروع ما قرأت للشاعر المعروف في لبنان والعالم العربي واوروبا المتألق اسماعيل فقيه الذي يتجدد في كل لحظة في اللغة والمضمون ليبقى في طليعة شعراء العرب في العصر الحديث …

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات