أَبْعَدُ من الجزائر وبلاد العم سام

12:25 مساءً الجمعة 7 يونيو 2024
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

(ليلى) رواية الكاتبة الجزائرية (دليلة بو نحوش) لليافعينَ

بقلم: د. إيمان بقاعي

7\6\2024

بطبعتها الأولى (1445/2023) الصادرة عن (دار تكوين)، وبأسلوب جميل سبقَ وأن جذبني بكياسةٍ  اعتقدتُ صاحبتَهُ روائيةً قديمةَ الكتابة والنَّشر في روايةٍ بعنوانِ (صرخة الميلاد) لم تطبَعْ بعدُ للروائيةِ الجزائرية (دليلة بو نحوش)، وبفَنِّ الوصفِ اللافتِ في (رواية ليلى) الخاضعِ لقانون الوصْفِ  الّذي لم يعرّفه البلاغيون العَرَب رغم وجودِه في الشّعر. كذلك عند الغربيين لم يكن قائم الذّاتِ، منعزلًا مستقلًا، متمكِّنًا بنفسه، متبوِّئًا مكانتَه في الكلام وحده، بل قائمًا بفضل علاقتِه مع شيء آخر، والذي كانت وظيفته “جماليَّة”، حتى إن الأديب الفرنسي (بوالو:Nicolas Boileau)، قال: “كونوا شديدي الإيجاز إذا سردْتم، وشديدي الإطناب إذا وصفتم”، وخاصةً حين يكونُ الوصْف (موظَّفًا لذاته)،  ولطالما كانَ مقصودًا عند الروائية (دليلة بو نحوش)، قاصدةً منه التّعريفَ بأمكنة البطلة في الجزائرِ وفي أمريكا، البطلةِ التي جلسَتْ في (ليلى) على عرشِ مكانتَها والزَّمانِ، والمكانِ، والحبكة، والحوار، والبداية، والنِّهاية، والعنوان أيضًا، من دونِ أن تجرؤ شخصيةٌ على الاقترابِ من ذلك العرشِ، ولو حاولَت أو استماتَتْ، فالبطلة مدعومةٌ بحبِّ الروائيةِ للقضية التي تسعى إلى إثباتِها، ما يمنحُ الوصفَ أبعادًا جمالية وشكلية للموصوف تتكامل والوصفَ الدّاخليَّ للمشاعر ونمط التفكير، ما يعيدنا إلى النصوص المعتمدة على التّفاصيل الدقيقة التي تتقنها الكاتباتُ أكثر من الكتَّاب، والتي يحبها النّاشئةُ، أو اليافعون الموجَّهة إليهم الرواية، كونها تسعى إلى تأنيق النّسج اللُّغَوِيّ عبر نصٍّ أدبي كيما يغتدي بديعًا يشبه لوحةً زيتية ملوّنة، تنهض اللُّغَة فيه بوظيفة جماليَّة لا تقلُّ تمسكًا بموقعِها الأسلوبيّ عن تمسُّكِ حقِّ البطلةِ في احتلال عرشِها حتى يكادُ يضؤُل معها ألَقُ كثيرٍ مما هو خارج حدود هذه اللُّغَة الوصفيَّة، فتدهشكَ، بينما يخفّ تسارع الدهشة حين تصل إلى “التّوثيق” بالبياناتِ والبيِّناتِ في الروايةِ، دعمًا لفِكر البطلةِ وسلَّةِ عقائدِها الفَتائيّة، فإذا بها تقفُ بثباتٍ وتصميم خلف متراسِها استعدادًا للقتالِ في سبيلهما، لا في الجزائرِ أو بلاد العمّ سام، بل أبعد منهما إن تطلَّبَ الأمرُ أو استدعى.  

وفي الإطار عينِهِ، وما دمنا في إطار مرحلة “اليافعين”، وتكريسًا لما صاغَتْهُ الروائيةُ (دليلة بو نحوش)، لا بد من التذكير أنَّ هذا العُمرَ هو عُمر الاستغراقِ الجَمَاليّ، إذ يمتلك المراهقون مدى واسعًا من المهارات والمَعْرِفَة الَّتي تمكّنهم من الإحاطة بالفُنُون. فهم يهتمون بقضايا التَّاريخ والفلسفة المرتبطة بالفُنُون، فينجذبون نحو موضوعات طبيعة الفن، والشّكل الفني، والنّقد، ويصبحون أكثر وعيًا بنسبية الأحكام الجَمَاليّة، خاصة إن نُبِّهوا إلى قضية الاكْتِسَاب القائمة على تذوق الكثير من الفُنُون شرطَ توافُرِ معرفة كيفية نموّ الأعمال الفنية وتطورها وارتقائها لدى الأفراد والجماعات، وتوافر معرفة معاييرها الفنية المستندة إلى قضايا الذَّوْق أو قضايا حقائق العلم وعلاقتها بالحياة ولمسنا الأخيرةَ موثَّقَةً في فكر البطلةِ، وكذلك توجد هذه المعايير في توافرِ معرفة علاقة الفن بالحياة وبفروع المَعْرِفَة الإِنْسانِيّة الأُخْرى، ما يحول المراهقَ من الاندفاع في أحكامهِ إلى التَّأَنّي والتَّأَمُّل اللَّذين يقربانِهِ من روح الفن والجمال. أما بالنّسبة إلى لغة القِصَّة، فمرحلة “اليَفْعِ”، أو”الفَتاء” هي مَرْحَلَة الكِتَابَة النَّاضجة؛ لذا يمكن تقديم قِصَّة ناضجة إلى المراهق أو رواية، فهو قادرٌ على ملاحقة خيوط الرواية ببراعةٍ بعد أن كانَ- في مرحلة أصغر- غيرَ قادرٍ إلا على ملاحقةِ أحداث القصص القصيرةِ وشخصياتِها وقيَمِها؛ وصارتْ- في هذه المرحلة- تناسبه: القصص الوجدانية التي تقوم على الحسّ الشّخصيّ الخالص والتّصوير النّفسيّ الصّادق، وقصص البُطُولَة والشّجاعةِ والإقدامِ [وقد سبقَتِ الإشارةُ إلى وقوفِ البطلةِ وراء متراسِها بحثًا عمّن يريد اقتناص حقوقِها]، وقصص الجاسوسية، وقصص تحقيق الرّغبات الاجْتِمَاعِيّة [وبدَتْ واضحةً في تصرفاتِ البطلة وطريقة تفكيرها]، وقصص الغَرَام والحب [نجد هذه المشاعر قد تفتَّحَتْ على مراحلَ في الروايةِ]، والقصص التي تمثّل فيها شخصية البطل نموذجًا يُحتَذى، [كما في هذه الرواية التي استطاعت الروائيةُ الجزائريةُ فيها أن تسبر غَوْر بطلتِها الجزائرية “سليلة الأحرار”- كما وصفتها الروائية في تدخّلٍ شخصيٍّ دفاعًا عن “الوافدة” إلى “بلاد العم سام”، تبيينًا لحقيقةِ “الشقراء المحجبة”، “الحسناء ذات الوقار”، “النّهمة المتعطشة للعلم”، “ذات الوجه الملائكي” التي “تخضع لها قلوبُ الرجال”، والقادرة على “اعتقال” أستاذها “الأشقر” الدكتور (جون ستيوارت) “إعجابًا” يصل إلى حد الدهشة والحيرة، بل الذهول وقتَ وقفَ أمامها وقوفَه حيال “منظومة معرفية” متكاملةٍ تكاملًا تدريجيًّا يلعب التّثقيف، فالتَّثاقُفُ فيها دورًا مهمًّا، ولا تقلُّ هذه “المنظومة” “إبهارًا” وعَجَبًا عن وقوفِ الأستاذِ “مأخوذًا” أمام “قدِّها وحُسنِها” عندما جابهَ نفسه مرةً متصدِّيًا ومواجِهًا في “مونولوج” كشفَ أفكارَه الدّاخليةَ المنفعلةَ، متغلغلًا في أغواره النفسيةِ إلى المستويات التي لا تُفصِحُ عنها الكلماتُ أو النّظراتُ أو الإشاراتُ، مناديًا ذاتَهُ بـ “الكهل المراهق”، و”الوغد”، محاولًا معرفةَ حقيقةِ اهتمامه بها وكُنهه مجرّدًا، واضحًا، مكشوفًا بينه وبين نفسِهِ، رغم وصفه لها متحدّيًا إياها، مباريًا، مُغالِبًا، مُتصدِّيًا، مُتحرِّيًا، مُجابِهًا بـ”فتاة الكهوف” تارةً، وبـ “الإنسانة الضّعيفة”، و”المتحجرة المسكينة”!

 وإذا كان لا بد من ذِكر الغَرَام، في رواياتِ “اليافعين”، فليكن- كما يوصي علماء التربية والنمو، وما نفّذَتْهُ الروائيةُ بحِرَفِيَّة تتناسبُ وأهدافَ هذه المشاعرِ في هذه المرحلة: ذلك النَّوْع الشّريف الّذي تظهر فيه العلاقات البريئة بين الفتى والفتاة، والمَعْرِفَة الَّتي تؤدي إلى الزَّواج، لا العشقِ القائمِ على إفراط الحبِّ والذي قد يصلُ إلى مرتبةِ المَرَضِ الوسواسيّ، وربما يذكرنا هذا بنصيحة الشاعر اللبناني (سعيد عقل) الذي كان يوصي الفتياتِ ألا يرضينَ أن يكنَّ “عشيقاتِ” رجلٍ، بل أن يكنَّ زوجاتٍ وأمهاتٍ.

وهذا النَّوع “الشريف” توحي “خاتمةُ الرواية المفتوحة” على مصراعَيْها به على ما ينادي به مُجدِّدو الكتابة الروائية وثائروها، تاركينَ القراءَ اليافعينَ يسبحونَ في أجواء من الغموض والاستفهام والقلق الذي يصل إلى حد تناقض التّوقُّعِ [وهو ما لا أحبذه في روايات اليافعين والصغار]، وذلكَ بعد صولات وجولاتٍ لم تقتصر على الدكتور (ستيوارت)، بل طالتها من قبل طلابٍ لم يعتادوا اقتحامَ مَن لا يشبههم أمكنةَ دراستِهم، فاعتبروه محاولةَ استبدال مفاهيمَ بأُخرى “غريبة”، “خسيسة”، “دنيئة”، لم يقلِّل من حدَّتِها اكتشافُ “شَعر خيوط الذَّهبِ” المخبأ تحتَ “الخِمار” المسروقِ غصبًا وقَهرًا، والذي كشفَ حقيقةَ “الجَمَال” المسالِمَ المتَّهَم بـ”الإرهاب” ظُلمًا، و”إهانةً” مقصودَيْنِ.

وبالعودة إلى شخصية البطلة (ليلى)، نتقدمُ رويدًا رويدًا نحو وصفها الدَّاخلي الذي لا يقلُّ براعةً عن وصفِ الأماكنِ والذي أرادت الرِّوائية إيصاله لنا، يافعين وكبارًا، نقادًا متخصصينَ يلاحقون الفكرة والكلمة والهمسة ملاحقةً حثيثةً، أو قرّاءً يبحثون عن المتعة الخالصة من قراءتهم، من دون أن يفكروا بتقديم تقريرٍ أو دراسةٍ، وصولًا إلى صورةٍ متكاملةٍ للبطلةِ، استسغْتَ شخصيتَها أو لم تستغْها، تعاطفتَ مع جمالِها المظلومِ أو لم تتعاطف، وأعتقد أن جمهور “اليافعين”  يستسيغونه ويتعاطفون معه.

وبعيدًا عن المواعظِ والنّصائحِ المباشَرة إلا قليلًا- وإن وددتُ ألا تتدخلَ  الروائيةُ في بعض المقاطعِ مبديةً رأيَها فتقطع على القارئِ متعةَ التحليلِ والكشفِ عما يحيط بالبطلةِ من أسرارٍ وملابساتٍ واضطراباتٍ- تعودُ الروائيةُ(دليلة بو نحوش) بسرعةٍ إلى الإمساكِ بتلابيبِ قدوَتِها الحسنةِ (ليلى) التي اختارتها لجمهورِ اليافعينِ نموذجًا طيّبًا يستحقُّ- عن سابقِ إصرار وتصميمٍ من الكاتبةِ- التَّعاطفَ الدرامي، والانطباعاتِ السَّليمةَ، والاستهواءَ المقبولَ، والتأثيرَ الذي لا بدَّ وأن يحفرَ عميقًا في أذهانِ الجمهورِ، سعيًا من الكاتبة- البطلة إلى تكوين معاييرَ وقِيَمٍ صحيحةٍ بدلَ القديمةِ المستبِدَّةِ في المجتمع الجديدِ الذي يُفترَضُ أن يكون “حضاريًّا” مبنًى ومعنى، فلم يكنْ، ما عنى أنه بحاجةٍ إلى تقييمٍ فتقويمٍ، ليُبنى كما حلمَت به البطلة الشابةُ.  

فما الذي خيَّبَ ظنَّ الفتاةِ لكنه استبقاها؟

عندما أرادت (ليلى) السّفرَ إلى (الولايات المتحدة الأميركية)،  كان هدفُها الأول تعميقَ دراستِها في (علم النَّفس العيادي)، بُغيةَ الحصول على درجة الماجستير والدكتوراه من “أرقى الجامعاتِ”، إيمانًا منها بالعلمِ ذي الصِّفة التي افترضت أنه يجب أن يكون حياديًّا، حضاريًّا، عادلًا، صافيًا، نقيًّا، مُتاحًا في كل زمانٍ ومكانٍ لكل راغبٍ في الحصول عليه، فلم يُعِقْها عن السَّعي إليه شغفُها ببيئتها وتراثها، بل كانَت العودةُ إلى وطنها بمؤهَّلٍ علمي هدَفًا تؤمنُ أنه سوف يساهمُ بتقييمه فتقويمه أيضًا علميًّا ومعرفيًّا.

وقد أرادت الرِّوائية من خلال طرح إصرارِ (ليلى) على السَّفر الذي سارعَ في “إفقارِ” أسرتِها،  إذ اضطرَّ والدها إلى بيع العنزاتِ أو القطيع، فلم يستبقِ إلا القليل للعيش، إيمانًا منه بقوَّةِ ابنته وقدرتها- إن سوعِدَتْ على تحقيق آمالها- على نَيْلِ ما تصبو إليه، مستندةً على قراءاتٍ [وثقتها الروائية] سَعَتْ إليها سنواتٍ، كالموازنة أو المقابلة بين الأنثى والذكر… إلخ، مستقويةً بعقلِها، لا بجمالِها، وبثقافتها “الثنائية” القائمة على النَّهَلِ من (الجزائر- العاصمة)، أي المدينة، والريفِ بما يعني من ثراء وصفاء في آن، ما ساعدَها على محاولةِ تقبُّلِ المكان الجديدِ من دونِ أن تتخلى عن حيثيات هويتها وثقافتها، رغم “الإغراءات”، و”الإهانات”، أي الأضداد التي يمكن أن يتعرضَ أيُّ “مغترب” لها، فحافظَت- كما حافظت سابقًا في وطنها الأم- على تفوقِها، وخاضَت، بشجاعةٍ مسالِمَة، معاركَ نقاشيَّة [وثَّقَتْها الروائيةُ بتفاصيلِها أيضًا] تحولتْ- في كثير من الأحيان-إلى جدَليةٍ وصلَتْ بالطرف المقابِلِ إلى حد “المطالبة بترحيلها”، بعد اعتقالِها، إلى أن ثبتت براءتُها من اتّهامات “التّخلف” التي توجهها المجتمعاتُ “المتعالية” التي يُفتَرَضُ، منطقيًّا، أن يحدَّ العلمُ من تعاليها، وصولًا إلى فتحِ كوَّةِ حبٍّ لم أعتقد- كقارئة- أن تُفتَحَ من قِبَلِ “الحورية”، كما وصفَها الأستاذ “السّاحرُ” [بالمعنى الإيجابي للكلمة]، الذي استطاعَ تقديم الاحترام لتلميذته القادمةِ من وراء البحارِ سعيًا إلى العلمِ، فإذا بها تقابِلُ الاحترامَ باحترامٍ، والحبَّ بحبٍّ، ولستُ أدري- كقارئة أيضًا- إن كانَتْ ستعودُ إلى الجزائرِ، وطنِها الأم، بعد أن أقنعَت غُزاةَ بلاد الهنود الحُمرِ، أساتذةً وطلابًا، أنَّ ما وراء تخومِ بلادِهم بَشَرٌ يستحقون الحبَّ والاحترامَ والتّرحيبَ والحمايةَ إنْ وصلوا إلى هذه الأرضِ طلّابَ معرفةٍ وفنٍّ، وأنَّ ولادةَ طفلٍ ما في مكانٍ ما على هذه الكرةِ الأرضية إنما يعني، كما قالَ (أمين معلوف) في (التّائهون): “المجيءَ إلى العالَم، لا إلى هذا البلدِ أو ذاك، لا إلى هذا البيتِ أو ذاك”، بمعنى أننا متساوونَ، لا أحدَ يعلو على الآخَر بدينٍ، أو لغةٍ، أو ثقافةٍ، أو طريقةِ لباسٍ، أو لونٍ.

(دليلة بو نحوش)، سلمَ قلمُكِ.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات