حكايات شهرزاد الكورية: مطر كوري

11:52 صباحًا السبت 19 يناير 2013
إيناس العباسي

إيناس العباسي

شاعرة وكاتبة وصحفية من الجمهورية التونسية، مقيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مطر مباغت…ثقيل قاس…دافئ ..يبهجني…ويأخذ قلبي حنينا نحو نقطة على الخارطة ..بعيدة مسافة ووقتا…سبع ساعات زمنية تفصلني عن تونس…بوابة افريقيا…وقيل بعيدا في التاريخ، أنها هي التي أعطت قارة افريقيا اسمها القديم. والمطر سهام تلسعني..بعد أن أغلقت المطرية…لم أشعر بالبرد إلا بعد ما ثقلت ثيابي بالمطر وبدأت تبرد على جسدي…المطر الدافىء المفاجىء المتدفق المنبثق في قلبي نوافير من الفرح والدهشة…أشعرني بأني أغتسل من ثقل الكثير من الأشياء ..من تفاصيل غربة أولى….على امتداد الأشهر الثلاثة الأولى، كلما أمطرت، أفتح نافذتي من الطابق السابع وأطل على الشارع المبتل بالمطر وبخطى المارة المستعجلين…أو ألتقط مطريتي وأنزل لأمشي وأفكر وأحلم باللاشيء ..بأن لا أضطر للبحث عن عمل مثلا…أحلم بأيام الصيف القديمة الكسولة البعيدة حيث اجازة الصيف عقوبة قدرية لا أقضيها إلا بمحاولة الانتهاء من الأعمال الكاملة  لديستوفسكي…وأحلم بحلم القصيدة التي لم أكتبها فقط…كنت أعيد تركيب الثمانية الأشهر التي قضيتها في الامارات.. محاولة المقارنة بين بداياتها وبدايات اقامتي  في كوريا الجنوبية….وأمشي مفكرة تحت مطر يبدأ ويتوقف وفق مزاجه…مطر تستمر أحيانا لثلاثة أيام دون توقف …ماعدا ساعة أو أقل تسترد فيها أنفاسها لتعاود اندفاعها المثير نحو رحم الأرض…مطر كثيرا ما يوقظني صوته صباحا ونسمة خفيفة في برودتها تتموج في الغرفة…والاعصار الذي يأتي مرة كل صيف، لم يأت هذه السنة…اهتزازات خفيفة عبرت المدينة ذات ليلة…ما بين الخوف والفضول كنت أتخيل الاعصار وصور الزلزال الأخير الذي هدم مدينة في الصين تمر أمام عينيّ…

والمطر الكوري يرحل عند اندفاع موجات الحر…ليعود مع بدايات سبتمبر لكن مع هواء تشتد برودته يوما بعد يوم…إلى أن يصير ثلجا في أواخر نوفمبر…

في الساعات التي كنت أمشي فيها تحت المطر أو أقف فيها وراء نافذتي متأملة المدينة المبتلة فهمت أني لم أكن أفكر إلا في العودة…متسائلة ترى كيف سأكون عندما أعود إلى الامارات مجددا؟ وهل سأتوقف نهائيا عن الحنين لشتاء بنزرت-تونس؟وللبرتقال تينّع رائحته المنبثقة من جسد قشرته الطرية بعد والمبتلة بقطرات مطر…تراني سأتوقف عن الاشتياق للطرقات الساحلية المطلة مباشرة على المتوسط؟…

كنت أرتقب عودتي لأرى تأثير ستة أشهر كورية في شخصيتي…ستة أشهر قضيتها مثل فراشة لا تعرف أي فتنة ضوء ستحرقها…أنجذب للترجمة حينا وأعود للشعر لليالي ثمّ أعود وألغي ما كتبته…أحتاج لغة أخرى، أحتاج دفقا آخر…ودون أن أدرك ذلك بدأت الطبيعة تتسلل إلى مفرداتي…الجبال الكورية باشراقاتها الفجرية الهادئة وشمس “جايجو” التي يبتلعها بحر تتلاعب به الريح بلؤم مما يعطل حركة صيد البحارة…والأزرق الليلي قماشة مناسبة ربما لاعادة كتابة التاريخ من جديد…وأنا أرقص على حافة نهر “الهان”….

واكتشاف أنواع جديدة من الموسيقى، مناخات أخرى للعبو، تعبر الروح وتلمسها برقة كلمات مجهولة المعنى ولمسة ناعمة من الموسيقى…موسيقى كورية ولاتينية والوقت أحيانا يصبح بطيئا…

أغمض عيني من جديد وأراني في تلك الصباحات …جالسة لوحدي في المقهى الصغير عند زاوية الشارع…محملة بأوراقي وأقلامي …بمسودات قصائد لا أريد نهايتها كي أزيد من متعة البحث في اللغة …

أجلس قبالة الشارع معي مسوداتي وفصل من الرواية علي ترجمته لكن نزقي يأخذني لمدارات كاتب آخر…كل حكاية هي أشد اغراءا من التي تليها…وفوضايا ذاتها تجتاحني فلا أعرف من أختار بين الكاتبين “لي سيونغ أو ”  أو  ” يِي مينيول” ؟ يأخذني “يي مينيول” إلى مدارات أخرى… ما كنت أبحث عنه في الأدب الكوري: الروح الكورية الآسيوية…أما “لي سيونغ أو”  فروايته انسانية لم يتقيد فيها بروح المكان وبثقافته بحيث لو غيرنا اسم الكاتب ووضعنا اسم كاتب من بلد آخر فلن ينتبه أحد إلى أن الحكاية كورية…أما “يي مينيول” فمناخاته غارقة في روح خطاطي “الهانغول” ورسامي الأبيات الشعرية الكورية التقليدية وقصصه القصيرة حادة ومكثفة…

الآن، أرى نفسي جالسة هناك في الظل الخفي للمقهى، أتأمل الشارع والعابرين. كلما تعبت من القراءة…أتأمل الفتيات الكوريات، مسرعات وثيابهن تشكل مهرجانا من الألوان المتناسقة مع ألوان شمسياتهن…كان الطقس قائظا…استُبدلت المطريات الداكنة بشمسيات ناعمة القماش والزينة…مبهجة ألوانها…أغلب اللاتي يحملن مثلها سيدات أربعينيات رصينات في مشيتهن، أنيقات في كل شيء حتى في طريقة امساكهن لشمسياتهن…وأنا في الظل أتابع الحكاية التي أمامي والحياة التي تمضي خارجا يفصلني عنها حاجز بلوري و…لغوي!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات