حكايات شهرزاد الكورية: هروب لا بد منه!

12:52 مساءً الجمعة 25 يناير 2013
إيناس العباسي

إيناس العباسي

شاعرة وكاتبة وصحفية من الجمهورية التونسية، مقيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

كانوا يذيعون في التلفزيون خبرا حول انشاء مخزن لحفظ بذور كل النباتات الموجودة على سطح الأرض، في مكان ما من القطب الشمالي …مفسيرن هذا بالخوف من وقوع كارثة طبيعية أو أخطاء بشرية قد تتسبب في خسارة مصادر البذور من العالم…هل سنحتاج لسفينة عملاقة لحفظ النوع والانسان ؟ القبو الذي حُفر في وسط جبل جليدي، وُضعت فيه ملايين البذور من مختلف بلدان العالم. ويقع تحت500 قدم تحت الأرض ومدخله مصمم بحيث يتحمل الانفجارات والزلازل ومحمي بشبكة أمنية قوية لا أحد يملك شيفرة المرور إليها كاملة…

نفس الخبر ذكرني بمرورنا من المكان الذي دفن الكوريون فيه كنوزهم التاريخية، عند أسفل “برج سيول” الذي يقع في “جبل نانديمون” ..المخبأ الأرضي صنع الكوريون فتحته من غطاء حديدي متين أيضا…حركة احتياطية من طوفان قادم؟ أو   هاجس حرب لا يعرفون متى تدق طبولها ومن أي جهة تكون نيرانها؟….نيران على الأرجح يتوقعونها من نصفهم الثاني، من كوريا الشمالية التي لا تتردد في اطلاق النار على أي شخص يمر ولو خطئا في المنطقة الفاصلة بينهما…مثلما حدث هذا الصيف للسيدة الخمسينية التي كانت ضمن مجموعة سياح وعبرت – متعمدة أو من باب الخطأ- الحدود…

 كوريا الشمالية التي اختار الكثيرون البقاء فيها لكن غيرهم لم يختاروه … لا قبل ولا بعد انتهاء الحرب الأهلية  خاصة حين أصبح هذا الجزء من الوطن سجنا كبيرا …سجن فكرة واحدة … وخاصة عندما بدأ الفقر والجوع يلتهمان الأخضر واليابس….الفقر المادي والروحي، فحتى الفن ليس إلا سمفونية لا تنتهي لتمجيد الشيوعية والأدب هو المديح الذي لا ينتهي للرئيس “كيم إل سونغ”…

الكثيرون حاولوا الهروب للجنوب وقبضوا عليهم فكان مصيرهم الموت …الكثيرون غيرهم تسللوا من الحدود الصينية …بعضهم  في اختار البقاء والعيش في الصين وآخرون اختاروا العبور لكوريا الجنوبية…

والكوريتان متخالفتان على الكثير من الأشياء والأشخاص…فقرابة المليون شخص محتجزون في كوريا الشمالية، كلهم كبار في السن الآن ولا أحد ليعتني بهم فأبناؤهم في كوريا الجنوبية…ولا تريد الشمالية تسليمهم ولا تسمح حتى بالتواصل معهم: لا اتصالات هاتفية بين البلدين ولا وجود للأنترنيت …

ذات ظهيرة، ذهبنا أنا و”أندريس” رفقة “شين يونغ” لمحاورة أحد الهاربين من كوريا الشمالية…لقاء تم التمهيد له بالاتصالات لأكثر من ثلاثة أسابيع…كان علينا ارسال الأسئلة مسبقا واعلامه أين ومتى سينشر الحوار ليتمكن من تحديد امكانية الخطر الذي قد ينتج عنه…(نفس الاجراءات التي مررت بها عندما أردت محاورة “الهولماني” لكن بحدة أقل ربما لأنها بشكل ما قضية منتهية  فلم يعد لديهن شيء لخسارته أو للخوف منه) . لكن الهاربين من الشمال مازال لديهم أفراد من عائلاتهم عالقين هناك في الشمال…

“كيم يونغ إيل” الذي كان بانتظارنا في مقر عمله، كان متوترا بطريقة واضحة… وارتبك في رفضه عندمت أردنا أن نلتقط له صورا (هل كان هذا بسبب الخوف؟)…هو بالأصل من مدينة “هامهون” في شرق كوريا الشمالية… قرر العبور باتجاه الصين مع والديه سنة 1996، حيث قضوا هناك أربعة سنوات متخفين وساعين لتحسين وضعهم المادي، معتمدين على مساعدة بعض أصدقاء أمه:

– لما قررتم العودة؟ و لماذا انتظرتم حتى سنة 1996؟

+ بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة…رحلتنا دامت يومين…أخذنا القطار أولا للتمكن من الوصول لساحل البلاد ثم عبرنا الحدود في خفاء الليل باتجاه الصين مستغلين الاحتفالات الشعبية بمناسبة “عيد الفصح”…عبرنا نهر “دومان” الفاصل بين البلدين مشيا، مع الكثيرين من الهاربين مثلنا…..

ثم نهض وأحضر خارطة من الغرفة المجاورة ليرسم لنا طريق رحلة هروبهم التي امتدت يومين من التنقل المكلل بالخوف…فلو أمسكوا بهم فهذا لا يعني الموت (في التسعينات بدأت العقابات تخف بسبب الضغط العالمي) لكنه مازال يعني السجن الشاق …

–         هل كان النهر عميقا؟ سألته.

+ إلى حد ما، أجابني بالانكليزية ثمّ استفاض في الاجابات باللغة الكورية بينما كانت “شين يونغ” تنتظر انتهاءه لتترجم ما قاله: كان هناك الكثير من جنود الحدود الكورييين لكن الزحام الشديد بسبب الاحتفالات جعلهم أقل انتباها لعمليات الفرار. أما من جهة الحدود الصينية فلم يكن هناك الكثير من الجنود ولا يطلقون النار عادة …

 واستمر في حديثه واصفا لنا “البروباغاندا” التي تقوم بها السلطات الشمالية عندما يكون هناك تصوير اعلامي خارجي للبلاد…يجهزون بيوتا يبدو عليها الرخاء في حين أنها فارغة…ويركبون حدائق خضراء على عجل …كانت منازل للعرض الاعلامي فقط…فقط للادعاء بأن كل شيء على مايرام في البلاد…

الكثيرون لم يكونوا يحبون الشيوعية ولكنهم يدعون العكس ويعبرون عن انتماءهم لها خوفا من الحكومة…فالجواسيس في كل مكان، في العائلة ذاتها يراقبون بعضهم البعض ولايعرفون من يتجسس على من بالظبط…وكان يقال على كل جاسوس جاسوس ثان لمراقبته…أما صورة الرئيس فيجب أن توضع في كل مكان، حتى في غرف النوم الشخصية…حتى الأطفال عليهم تعلم مناداة “كيم إيل سونغ” باسمه التشريفي منذ سن السادسة…ومن الممكن أن تقتل أو تُسجن عائلة كاملة بسبب هفوة طفل…استمر كل هذا حتى السنوات الثمانين وسنة 1990 هلك الكثيرون بسبب الجوع الذي اجتاح البلاد…

–         وماذا عملتم في الصين؟ سأله أندريس .

+أنا فقط الذي كنت أطلع من مخبئنا واشتغلت في العديد من الأعمال ..عامل بناء وفي أحد المطابخ وفي مصنع وكمزارع…

–         ثم ّ كيف جئتم لكوريا الجنوبية؟

+ كان الوصول مباشرة صعبا جدا لأسباب كثيرة…كان علينا توفير المال أولا …والعمل لم يكن بهذه السهولة لأنه كان علينا اخفاء هوياتنا ككوريين شماليين مما يجعل فرص عملنا أقل…لذلك أخفيت جنسيتي وادعيت أنني واحد من الـ” chosun jok” (اسم يطلق على الكوريين الذين استقروا وعاشوا سابقا في الصين، قبل تقسيم كوريا)…وعلينا اخفاء هوياتنا كي لا تكتشف السلطات الصينية أمرنا وترجعنا لكوريا الشمالية مما يعني قتلنا…( لأن “كيم يونغ إيل” لا يكف أنه كان هاربا بل كان جنديا في الجيش مما يعني أن خيانته مضاعفة) .

ثمّ تابع بعد أن بدأت علامات التوتر تتشكل على وجهه من جديد :

“قبل سنة 1995، لم تكن هناك محاولات كثيرة للهرب فكل واحد يُمسك به كان يُقتل مباشرة…مما  زرع الخوف في قلوبنا…لكن وبعد سنة 1995 كثرت محاولات الفرار أكثر لأن عقوبتها أصبحت السجن…سجن في ظروف قاسية جدا لكنه فتح نافذة للأمل…بالنهاية أن تُسجن أهون بكثير من أن تقتل …”

–         لكن كيف عشتم ؟ مابين محاولة العيش متخفين ومحاولة العمل؟ هل يستطيع الجميع بهذه البساطة الادعاء بأنهم ولدوا وعاشوا طيلة حياتهم في الصين ؟

+ الكثير من الهاربين عاشوا في الصين مختفين تحت الأرض…واحد فقط من الأسرة يذهب للعمل أما البقية فيعيشون متخفين لا يطلعون أبدا …وبما أن الصينيين ينظرون للكوريين الشماليين في تلك الفترة نظرة دونية…فهم لا يعطونهم إلا أعمالا تافهة مثل الاعمال المنزلية …

بعد أربعة سنوات، سافرنا من الصين إلى منغوليا ثمّ إلى تايلند ومنها إلى كوريا الجنوبية…ومن جهتها لم تكن الصين تشجع مرورنا للجنوب أو تشجع  احتمال وحدة الكوريتين لأن وحدتهما تشكل قوة ضدها…أو تهديدا بالنسبة لها. أما كوريا الجنوبية  فكانت ترحب بالعائدين شريطة أن لا  تكون لهم علاقة بالسياسة…فتاريخ الجاسوسية بين البلدين حافل بالحكايات والتهم المتبادلة…

–         إذا عدت هنا لأنك تحب الحياة في كوريا الجنوبية أكثر؟

+ لا ليس تماما. أحب كوريا الشمالية…أحب الأرض والناس هناك..إنه موطني…لكنني لا أحب الإيديولوجية التي تسيّر بها الأمور. نحن أبناء أرض واحدة لكننا للأسف مختلفون في الأفكار. أفضل العيش هنا لأن المجتمع هو المهم هنا…أعتبر كوريا الجنوبية هي الجنة …

–         وهل استطعت التأقلم بسهولة مع المجتمع الكوري هنا؟

+ تتطلب مني ذلك ثلاثة سنوات…التحقت بالجامعة ودرست إدارة أعمال بالاضافة إلى العمل بدوامات جزئية.

-هل تحلم باتحاد الكوريتين؟

+ أحلم بهذا كثيرا وأحاول المساعدة على تحقيق هذا الحلم بهذه الجمعية التي تهدف لمساعدة الكوريين الذين هربوا من الشمال وصاروا يعيشون هنا حياة جديدة، نحن نحاول مساعدتهم على التأقلم هنا ونسعى لتقليص الفجوة بينهم وبين الكوريين من الجنوب…

–         كيف ترى امكانية تحقيق هذه الوحدة؟

+ باتحاد الحكومتين أوبمساعدات أكثر من الجنوبية للشمالية…لكن بالأساس يتوجب ارساء حوار بينهما أولا…وأعتقد أن هذا هو دورجيل الشباب من الكوريتين…عليهم أن يكونوا وسطاء بين الحكومتين لتتم هذه الوحدة…

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات