حكايات شهرزاد الكورية: أسرع زواج وطلاق

02:56 مساءً الخميس 22 نوفمبر 2012
إيناس العباسي

إيناس العباسي

شاعرة وكاتبة وصحفية من الجمهورية التونسية، مقيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة

تواصل الكاتبة الحديث عن رحلتها إلى كوريا، بين التاريخ والفن والثقافة، والطرائف أيضا.. مع أسرع زواج وطلاق في العالم!

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في البدء:حمى الرحيل

قد تبدو هذه الرحلة عادية للآخرين وربما مملة … لكنها بالنسبة لي كانت مغامرتي الصغيرة …مغامرتي الكبيرة… هذه الكلمات هي يوميات سفري في المكان وفي الأشخاص وفي ذاتي وفي الأشياء وفي ثقافة وتاريخ المكان نفسه…وقراءة التاريخ لم تكن خيارا بالنسبة لي كان لغة للفهم والشرح… أعترف بأنني منذ سنة لم أكن أعرف أي شيء عن كوريا الجنوبية …مطلقا…أكثر من صراعها مع كوريا الشمالية ومنذ سنة كنت لا أعرف عن اليابان أكثر من عظمائه في الأدب…ومنذ أكثر من سنة حين تلقيت رسالة الكترونية فيها دعوة للمشاركة في المهرجان الأدبي الآسيوي الافريقي بـ”جيونوجو” (في كوريا) حذفته لأنني اعتقدت أنها مزحة أو ايمايل “سبام” spam…ثم عدت وقرأته على مهل…وذهبت… ولذلك حين وصلني ايمايل للمرة الثانية من كوريا، بعد أكثر من نصف سنة…لم أحذفه بل قرأته على مهل وبدأت في تفكير محموم لتحديد قراري وحسم ترددي بين: عدم الذهاب وبالتالي المحافظة على عملي وبين نداء المغامرة وفرصة التفرغ للكتابة لمدة ستة أشهر… الدعوة كانت من مكتب الـCPI (تهجئة الحروف الأولى من اسم المبادرةCULTURAL PARTENARSHIP INIIATIVE )، المُنظمة للبرنامج بالتعاون بين وزارة السياحة ووزارة الثقافة الكوريتين…وتوجه دعوة المشاركة سنويا إلى جملة من شباب القارات الثلاثة: آسيا وافريقيا و أمريكا الجنوبية…في سعي كوري للانفتاح على ثقافات ومجتمعات أخرى (غيرالأمريكية و الأوروبية) وبني جسور معها من خلال المشاركين… في دورة سنة 2008 ،كنا حوالي 90 شخصا متخصصين في عدة مجالات كالأدب والرقص والمسرح والموسيقى والسينما والسياحة ورياضة التايكواندو والمتاحف وادارة المكتبات الوطنية والألعاب الالكترونية وادارة المهرجانات …كنا 90 شخصا من بلدان وثقافات وعادات مختلفة لكننا التقينا على أرض أخرى…جمعتنا فعاليات مشتركة كالرحلات المنظمة من مكتب الـCPI…وجمعتنا صداقات ولقاءات وسهر خارج البرنامج الرسمي…وضحك وتذمر ونميمة وذكريات جميلة… تشمل الدعوة بطاقة السفر وسكنا وراتبا شهريا قيمته 900.000 وُون أي حوالي 900 دولار…في المقابل تتطلب التزامك بفعاليات البرامج والتعاون مع المكتب حتى بعد انتهاء البرنامج بترشيح مشاركين جدد من بلدك أو بتسهيل الاتصال بين كوريا وبلادك… وأعتقد أننا نحن الكتاب الخمسة، كنا الأوفر حظا ووقتا فنحن الوحيدون ضمن البرنامج الذين كان الوقت ملكا لنا وملكا للكتابة…فلم يكن علينا الذهاب يوميا لمتابعة سير أعمال المتاحف ولا الذهاب إلى تمارين الرقص أو التايكواندو…. نظم مكتب الـCPI رحلتين مشتركتين …أعترف بأنني لا أتذكر منهما إلا ملامح غائمة لمدن بحرية وللكثير من المتاحف…وكانت هذه إحدى نقاط تذمرنا نحن المشاركون …ففي الرحلة الأولى ذهبنا (من 25 إلى 27 مايو) إلى ثلاثة مدن دفعة واحدة هي: “دايغو” و ” بوسان ” سيدة السينما عبرناها في اطلالة خاطفة … و الموج يتكسر عند صخورها مويجات تتفرع عنها الذكريات: تتجلى سيدي بوسعيد التونسية تحت الأشعة المذهبة للاشتياق…. و”كيونغجو” التي زرناها نحن الكتاب مسبقا حين شاركنا في المهرجان الأدبي لمدينة “بوهانغ” وتوقفنا عندها في طريق عودتنا وشاهدنا فيها معبد “البولغوسكا” الشهير…

الرحلة الثانية، كانت على الطريقة الكورية أيضا سريعة حد التعب…”بالي بالي” (أي بسرعة بسرعة باللغة الكورية).ثلاثة مدن دفعة واحدة هي: “موكبو” و”كوانغجو” و”جيونجو” …لا أذكر الكثير من “موكبو” ربما المتحف البحري لكنني أذكر جيدا “كوانغجو”، مدينة التمرد على الدكتاتورية،أذكرها لأنني قرأت الكثير عنها مسبقا وشاهدت على الأقل فيلمين روائيين عنها …

أسرع زواج وطلاق في العالم

و”جيونجو” التي زرتها للمرة الثانية رأيتها من زاوية مختلفة: حيث قمنا فيها بمشاهدة تفاصيل الزواج الكوري التقليدي…وحظيت فيها بأول زواج لي وأسرع طلاق لي …زواج على الطريقة الكورية…وطلاق سريع بما أن زوجي الهندي “سيراندير” الذي مثلت معه مراسم الزواج بدأ في التخطيط لأسبوع عسل في جزيرة “جايجو”…

ماعدا هذا هناك المحاضرات حول كوريا ولقاءات مع كتاب كوريون …أهمها اللقاء مع الكاتب “هوانك سوك يونغ” الذي التقيناه في نهاية شهر يوليو وبعد ساعتين من الحديث معه سألناه فيها عن الكتابة و كتبه …ساعتين من الجدية التي تبخرت بعد العشاء معه وبعد بضعة كؤوس من ” السوجو”…لنتفق معه على اللقاء به مرة أخرى في أكتوبر لمدة ثلاثة أيام …في جزيرة “جايوجو”…وهذه حكاية أخرى… بالإضافة إلى زيارات لمتاحف ولأروقة تخلد ذكرى الشهداء أو ذكرى كتاب قدماء…أوزيارات لمدن مثل مدينة “بونغبيونغ” التي زرناها أيام مهرجانها الربيعية المحتفي بنوع من الورود البيضاء التي تميزها كمدينة…ومثل مدينة “باجو” …مدينة الكتب … ستة أشهر للتفرغ للكتابة مع برنامج حافل باللقاءات الأدبية مع الكتاب الكوريين وبالزيارات لأهم المدن الكورية :فكرة رائعة …لكن تعايش وانسجام خمسة كتاب من بلدان مختلفة و بأمزجة غير متشابهة ،ضمن نفس المكان والأنشطة ليست دائمة مسألة بديهية…صحيح أنها كانت تجربة ممتعة لكن كان هناك الكثير من المواقف الشائكة ،معظمها بسبب العلاقة المتوترة بين كاتبتين كثيرا ما احتدم النقاش بينهما مما أثرعلى جو المجموعة بأكملها… لكنني أرى أن جوهر تجربتي الكورية يتمثل في تأملي في العديد من المرايا…أهمها مرآة الصداقة المتواطئة مع “شين يونغ” (المنسقة المباشرة للبرنامج في فرعه الأدبي) و”أندريس” (كاتب من كولومبيا). تواطىء ساعدنا على تجاوز المنغصات و موج الملل الذي كثيرا ما عصف بنا في المحاضرات .. وأسأل نفسي الآن هل يجوز حديثي عن “ج” المشاركة من “كيرجيستان” باعتبارها أكثر واحدة مزعجة بشخصيتها الأنانية وبتصرفاتها التي كثيرا ما كانت صبيانية…؟ لا،لم يعد هذا مهما الآن…المهم هو ما تعلمته طيلة ستة أشهر: التأمل في اختلاف طريقة تفكير وتصرفات الآخر …الآخر، سواء كان كوريا أو مشاركا في البرنامج…فالآخرون هم المرآة الكبيرة المتشكلة من العديد من المرايا التي قد نرى وقد لا نرى فيها أنفسنا….المسألة كلها مرتبطة بزاوية الرؤية…..

الوصول…و دائرية التاريخ

مطر كخفق أجنحة…سريع ومكثف…مطر مباغت و شهر مايو ترنيمة مرحة من الأمطار…عندما وصلت لمطار “اينشون” الدولي الذي يبعد عن سيول أكثر من ساعة… كانت كوريا تحتفي بعيد الطفولة…ظلت “يونغهوا” (التي أرسلها المكتب المنظم للبرنامج لاستقبالي) تشرح لي بمرارة أن أحد الرؤساء السابقين قد قلص عدد الأعياد الوطنية التي فاق عددها اثني عشرا عيدا وطنيا على مدار السنة، قٌلصت لأن هذا يعني ضياع العديد من الأيام وعليهم أن يعملوا أكثر…ومن سؤال لسؤال تصل بي “يونغهوا” إلى حقيقة انهم يعملون في كوريا ستة أيام في الأسبوع وأن الاجازة السنوية الرسمية لكل شخص تتمثل في أربعة أيام فقط! والحافلة تعبر بنا طريقا طويلا …تطلعت من النافذة لشوارع أراها لأول مرة وعند اقترابنا من مشارف سيول رأيت نهر “الهان” لأول مرة… كانت سيول تغلي في تلك الأيام بالمظاهرات التي تشكلت بسرعة كخفق ريح قديمة تنزل من أعالي الحكاية…كان التاريخ الكوري يعيد نفسه….ففي شهر مايو، منذ عشرين سنة أشعل الطلبة نيران التمرد في سبيل الديمقراطية…واليوم، يتكرر المشهد لكن لأسباب مختلفة…خرج كل الكوريوون صغارهم قبل كبارهم وأشعلوا شموعهم لليال طويلة، عابرين الشوارع ومعتكفين في الساحات العامة ومنددين باتفاقية “لحم البقر الأمريكي” التي تهدد أمنهم الغذائية، باعتبار أن هذه اللحوم من أبقار مشكوك في اصابتها بمرض جنون البقر… و بالهدوء البارد الذي يتميز به رجال الشرطة في كل مكان حول العالم، نزل هؤلاء إلى الشوارع…وبدأت الاشتباكات وحرب اعلامية مُوجهة من الجهتين..مما زاد في لهيب الأزمة…

ليصل عدد المتظاهرين في سيول في ليلة واحدة مليون شخص…عبروا شوارع المدينة بصبر معتكفين في برد الليل بأضواء شموعهم… المظاهرات التي استمرت أكثر من شهر ونصف توقفت فجأة…كيف ولماذا؟…بدأت المطاعم في شراء اللحم خاصة بعد التقريرات الطبية التي ينشرها التلفزيون الوطني عن سلامة اللحوم …تقارير لطالما عرضت أيام الأزمة لكن ماهدأها أكثر هو استقالة الحكومة وتحملها للمسؤولية…الاستقالة لم تُقبل لكن حاجة أصحاب المطاعم للحم لم تتوقف لمحاولة انقاذ مردود مطاعمهم التي بدأت في التراجع، كانت أيضا من أقوى التفسيرات… والمشاعر تجاه أمريكا في كوريا متناقضة …ما بين الجيل القديم الذي يؤمن بأن أمريكا هي الملاك الحارس الذي حماهم والذي يحميهم من المتربصين بهم من جيرانهم خاصة من الخطر النووي الذي تصوبه كوريا الشمالية باتجاههم…ومابين الجيل الجديد …-على الأقل المثقفون منهم الذين التقيناهم – يرفضون وجودها ويشبهونها بالشيطان الدخيل الذي لا بد من وجوده حسب السلطة وليس حسب مشيئتهم… في المقابل، وعلى الرغم من تحسن العلاقات بين كوريا واليابان، سياسيا ودبلوماسيا إلا أن مشاعر الكوريين تجاه اليابان مازالت مثقلة بآثار الماضي الاستعماري…خاصة في قضايا مثل قضية “الهولماني” (النساء الكوريات المستغلات جنسيا من قبل الجنود اليابانيين في فترة الاستعمار) وقضية الأسرى الكوريين المحتجزين في غياهب السجون اليابانية …بالإضافة إلى جزر “دوكدو” الكورية التي تحاول حاليا اليابان الاستيلاء عليها مدعية انها ضمن مياهها الإقليمية. اليابان التي طمست الكثير من الوثائق التاريخية الكورية خاصة تلك التي تثبت أن عمر البلاد يعود إلى أكثر من 5000 سنة وهي التي لطالما خربت الإرث التاريخي لكوريا سواء كان بوابات سيول أو القصور الملكية القديمة… وبالإضافة إلى الفتيات المغتصبات والمسخرات لراحة ومتعة الجنود اليابانيين …تفنن الجلادون اليابانيون في سجن و تعذيب الكوريين…

و لئن كان الاستعمار الفرنكفوني أكثر ذكاءا من حيث استعماله لأسلوب الاستعمار الثقافي وذلك بفرض للغته و ثقافته ليضمن هيمنة مستقبلية…إلا أن اليابان لم تحاول أن تزرع ثقافتها بقدر ما سعت لفرض تعلم اللغة اليابانية بالعنف و الغصب.مما خلق تمرد الكوريين…وبينما كانت الكورية تُمنع من التدريس في المدارس، استمروا في تحدثها و تدريسها سرا لأبناءهم..سرا لأنه تتم معاقبة الذين يتفطن بهم الجنود اليابانيون يتحدثون الكورية .. وتعمد مثقفو تلك الفترة من الكوريين الذين يجيدون اليابانية مُسبقا، إما على عدم استعمالها أو على استعمالها بطريقة مُشوهة كي لا تترسخ بينهم….لذلك من الصعب أن تجد حاليا من يجيد اليابانية (إلا إذا كان قد درسها كاختصاص) أو أن تشعر بتأثير كلمات يابانية دخيلة على اللغة الكورية… عرفت أكثر عن هذا الارث الثقيل،حين زرنا -في ذكرى الاستقلال الكوري (الخامس عشر من اغسطس) – المتحف المخصص لتأريخ حرب التحرير الكورية بكل تفاصيلها.. في مدخل المتحف، بنيت ساحات صغيرة بمجسمات أصغر لكوريبن مصففين وهم مصلوبون بينما يصوب جنود يابانيون بنادقهم باتجاههم لإعدامهم…وكل ما تقدمنا باتجاه القاعات كل ما عبرنا أمام زنزانات -كانت غرفا حقيقية- يُجسد فيها جنود يابانيون يقومون بتعذيب سجناء كوريين اما بالضرب أو بالكهرباء…مع لزوم ما يلزم للتعذيب: سلاسل و أغلال وأسلحة وسلاسل على شكل قمصان تُلبس لتثبت السجين للحائط…ودم متجمد وكدمات زرقاء على وجوه السجناء… يكاد يكون المشهد حقيقيا…وفي القاعات الداخلية نجد صورا حقيقية وأرشيفا لا ينتهي من تاريخ العذاب ثم نمر بصور وتاريخ المقاومة ثم الاستقلال… لفتني قبضة من الحزن ومن الضيق… تعبت من المتاحف المخلدة للألم…متحف لتأريخ الوحشية اليابانية وآخر حول تاريخ الاستعمار الياباني وفي “المتحف الحربي” أيضا استذكار للاستعمار والوحشية اليابانية وللحرب الأهلية الكورية….لما كل هذه المتاحف التي من الممكن اختزالها في متحف واحد؟ لتأكيد تاريخ مبني على الألم؟ لزرع الخوف في أعماق الأجيال القادمة كي لا تنسى ؟ أو كي لا يعيد التاريخ نفسه؟

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات