حكايات شهرزاد الكورية: في البدء كانت …المرأة

06:58 مساءً الإثنين 21 يناير 2013
إيناس العباسي

إيناس العباسي

شاعرة وكاتبة وصحفية من الجمهورية التونسية، مقيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الكلمات..كم تغنيت بها وباللغة، كم تبدو هذا الصباح قاسية وعارية من المحبة…كم تبدو جافة حتى لكأن تجرح شفتيّ قبل أن تتشكل أسئلة…أواجه خوفي ذاته…أراه  على أجساد السيدات الكوريات: “الهولماني” (تعني الجدة باللغة الكورية) أراه في نظراتهن المتعبة، في أصواتهن المنهكة تردد نفس الكلمات كل اربعاء، منذ أكثر من ستة عشر سنة. جالسات قبالة  مبنى السفارة اليابانية، يرفعن لافتاتهن الملونة بكلمات تطالب بحقوقهن…

للعين ذاكرة…أقول لنفسي…ماذا يحملن خلف عيونهن من ذكريات؟

كان الكتاب الذي قرأته عنهن صدمة بالنسبة لي, كتاب “نساء الراحة” أو”نساء المتعة” (comfort women” “) لكاتبة كورية (في الأصل رسامة) اختارت أسلوب الصور لتحكي تاريخ آلامهن …تاريخ تسعى اليابان لمحوه بعدم اعترافها بما فعله جنودها أيام استعمارها لكوريا و للصين…كان نافذتي على تاريخ من الألم  ومن الشعور بالعار والضياع …تاريخ من الفقد: فقد للشعوربالانسانية ذاتها، فقد للاحساس بالأنوثة والأمومة كشعورين بالاكتمال…

ارتكزت في كتابها الذي كان على شكل “شريط مصور”على حقائق وتواريخ وحكايات حقيقية وشهادات ضحايا آسيويات وأجنبيات (من هولندا، تصادف أنهن كن يعشن في آسيا في بداية القرن الماضي) وعلى نسخ من قصاصات جرائد قديمة وصور حقيقية…فسيفساء من الألم والدم الذي لم تجف ذكراه بعد…

لم أستطع ترك الكتاب حتى أنهيته ولم يكن نومي مريحا تلك الليلة…كان سفرا كابوسيا في التفاصيل التي قرأتها مع تنويعات من خيالي الشخصي…

لما ظلت كوريا صامتة كل هذا الوقت، لأكثر من ستين سنة؟ولم يُفتح الموضوع إلا حين تجرأت إحدى الضحايا على رفع قضية ضد الحكومة والجنود اليابانيين؟ لتنضم إليها السيدة الهولندية وتساندها ثم بقية “الهولماني” تباعا…

أسأل صديقتي”هي سيونغ” التي ستكون الوسيطة المترجمة بيني وبين الهولماني:

 “لما لم تطالب كوريا بحقوقهن من قبل… مباشرة بعد الاستقلال؟

+ لأن كوريا كانت بلدا ضعيفا…ولأن “الهولماني” اخترن الصمت …”

عشن فقيرات، معدمات، وحيدات، خائفات، عليلات دون تأمين صحي…دون عائلات ومحرومات من نعمة انجاب الأطفال. وماخفي كان أكثر ألما…لأن العديد منهن توفين من جراء ثقل الأمراض التي أصابتهن بسبب الاستغلال الجنسي…

هناك وصف تونسي أعتقد أنه الأنسب لوصفهن: ” بلع السكينة بدمها”…فالهولماني ابتلعن سكاكين آلامهن الروحية والجسدية، بدماءها وعشنا في الظل الثقيل للصمت. فضلن الصمت لشعورهن بالعار وبالخوف من نظرة الآخرين لهن… حاولن تكوين أسر إما بالزواج أو بالتبني لأن معظمهن فقدنا القدرة على الانجاب بسبب استئصال الأطباء اليابانيين لأرحامهن كي لا يحملنا ..واستئصال الرحم أوفر وأقل تعبا وكلفة في الأرواح من الإجهاض…الذي يتسبب تكراره بأساليبهم الطبية الهمجية في وفاة أسيرات وحشيتهم و رغباتهم…وهذا يؤدي لنقص في عددهن مقابل عدد الجنود الكبير والمتزايد…

أما الزئبق الذي كان الأطباءيذيبونه ليُستعمل بخاره لتعقيمهن ولحمايتهن من عدوى  الأمراض الجنسية…بخار كثيرا ما تسبب لهن في أمراض كالدوار وآلام الرأس…

“جيل وُون-أوك”، الهولماني التي حاورتها، تبلغ من العمر79 سنة من كوريا (من المنطقة الشمالية من كوريا قبل تقسيم البلاد) . كانت في بيت لنساء المتعة يقع في شمال الصين  أخذت هناك عندما كان عمرها 13 سنة. ثمّ و بعدما أصيبت بمرض “السيفليس” وأورام في مرحلة متقدمة، استأصل طبيب الجيش رحمها. ومثل العديد من النساء اللاتي كنا معها، عاشت “جيل وُون-أوك” غير قادرة على انجاب الأطفال و لم تتزوج قط. تمكنت من تبني ابن لم يعرف حكاية آلامها إلا منذ بضعة سنوات، بعد أن  صارت القضية معلنة ..عرفها حين أصبح هو نفسه أبا وله عائلته الصغيرة…سألتها ماذا كانت ردة فعله فأجابتني :”ظل لفترة، يبكي هو وزوجته كل ما التقيا بي…صحيح أنني شعرت بأنني تخففت من الحمل لكنني لن أشعر بأنني استعدت حريتي وانسانيتي حتى تعتذر لنا اليابان رسميا وتعترف بجرائمها …”

القضية شائكة جداوجارحة جدا…واليابان، حين أخذت القضية بعدا جديا وأصبحت أمريكا و المنظمات الدولية تضغط عليها اعلاميا وتطالبها بالاعتذار الرسمي من الهولماني وتعويضهن…بدأت جملة من التصريحات الجارحة من قبيل أن هؤلاء النساء كنا بغايا يأخذن أجورهن من الجنود مقابل خدماتهن….!! كانت ولازالت اليابان تحاول أن تربح أكثر ما يمكن من الوقت…فالهولماني صرن عجوزات وكل سنة يغيّب الموت واحدة أو اثنتين منهن. والامبراطورية الاستعمارية القديمة مشغولة بما هو أهم. والاعتذارلهن سيفتح ملفات قديمة تسعى لتغييبها، مثل ملف الأسرى الكوريين وملف الوثائق التاريخية الكورية التي أحرقتها متعمدة…

حتى عندما استيقظت ضمائر بعض جنرالاتها أو أحد الأطباء الذين كانوا  مخصصين للاعتناء بنساء “بيوت المتعة” الذي أصدر مذكراته تم تكذيبه… أما الجنرال الذي اعترف بمسؤوليته في جلب البنات وخطفهن فانتحر بعد أن اتهموه بالجنون …

فتيات خطفن وانتزعن غصبا من آباءهن و بيوتهن وطفولتهن. أصغرهن كانت في الحادية عشر وأكبرهن في التاسعة عشر…وآباء انتحروا وبراءة أجهضت…صبية اختُطفت من فراشها وهي نائمة، طفلة أخرى أخذت بينما كانت تلعب في الشارع مع بقية رفيقاتها…هكذا كان جنود الامبراطورية العظمى يعبرون مستعمراتهم مخلفين وراءهم الدماء والدموع.

ذهبت في ذلك الاربعاء الصيفي، كان صباحا رماديا بنُسيمات باردة…وسرعان ما أمطرت بخفة قطرات ناعمة وسريعة …حطت على وجوه “الجدات” المثقلة بالتجاعيد وبآثار آلام وهمومن أخفينها لعقود…في الظل عشنا …منهن من أصبن بانهيارات عصبية…وأخريات غيبهن الموت حين تخلص منهم الجنود في البحر بينما كانوا هاربين من اندوشينا أواخر الحرب العالمية الثانية، أخريات أغلقوا عليهن في المخابىء و أشعلوا فيهن…النار!

وبمساعدة “هي سيونك” كمترجمة بيني وبين الهولماني كان هذا الحوار :

–         لماذا واصلتن في المطالبة بحقوقكن طيلة 16عاما رغم أن موقف اليابان لم يتغير ؟

+ المسألة ليست خيارا بالنسبة إلينا…علينا أن نقوم بهذا. سواء كانت تمطر أو تثلج علينا القدوم هنا كل اربعاء للمطالبة بحقنا …سواء كنا مريضات أو في صحة جيدة…مظاهرة يوم الاربعاء يجب أن تستمر إلى اليوم الذي نتلقى  فيه الاعتذارالمناسب بحجم آلامنا…

–         هل تغفرين لأحد مغتصبيك لوتوجه إليك بالاعتذار؟

+ تستطعين أن تكرهي الخطيئة  لكنك لا تستطعين أن تكرهي الشخص. لذلك إذا ما  اعترف ذلك الشخص بحقيقة خطئه تجاهي فيتوجب عليّ أن أسامحه. هل لدي خيار آخر؟

–         في  أي لحظة ستشعرين بأنك تحررت عاطفيا من هذا الألم؟

+ سأشعر بأنني حرة نفسيا في اليوم الذي نتلقى فيه الاعتذار الصادق والكامل. لن تكون هناك كلمات للوصف تلك اللحظات عندما يأتي ذلك اليوم…لن أريد أي شيء أكثر من ذلك بعد ذلك اليوم لكن ماقاموا به لن يُنسى أبدا. لا يوجد أي شيء يستطيعون القيام به لشفاء جرحنا وألمنا الذي لن يشفى أبدا.

–          – بماذا تنصحين النساء الواقعات في نفس المشكلة حاليا بسبب الحرب؟

–          – + طالما أن هناك حرب طالما ستكون هناك ضحايا من النساء والأطفال فهم الأهداف الأسهل. عندما يتم الاغتصاب فهو يحدث هكذا دون ارادتنا…ولا يمكن لأحد ان يحميهن فعليا في ظل الحرب…وأعرف جيدا أن هؤلاء النسوة لا يستطعن القيام بشيء للدفاع عن أنفسهن حين يقرر الرجال استغلالهن. أنصحهن بعدم الشعور بالانهزام عليهن الاستمرار في المضي في الحياة والنضال إلى أن يتم الاعتراف بهن وبما عانينه…ذلك اليوم سيأتي عاجلا أو آجلا. لا استطيع إلا أن أنصحهن بالتحلي بالقوة ….

………………………………………….

أنهيت الحواروظللت طيلة طريق عودتي أسترجع كلماتها مفكرة: ترى من سيتساءل ويكشف عن مصير النساء الفلسطينيات السجينات في سجون اسرائيل؟ ماذا يحدث معهن ومن يدافع عنهن؟ وماذا عن النساء العراقيات؟ وعن الفظاعات التي يصنعها جنود الاستعمار الأمريكي؟

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات